مواطنة في مدينة الخيال



مرحباً عزيزي سانتا...
هذه أنا... طفلة الخيال المشاغبة- كما قلتَ عني يوماً- الروح البريئة التي ترفض أن تشيخ.

أكتب لكَ رسالتي المنتَظَرة منذ ألف عامٍ، أتذكر!؟... قلتَ لي يوماً أنكَ وعِدتَ بولادة طفلةٍ مشاغِبة في زمنٍ ما، لن تتوانى عن إزعاجك في أي يومٍ خلال العام، لتسمح لها بالدخول إلى مدينة الخيال، حيث تطارد أبطال قصصها، أو تريق أشعة الشمس على وجه فارسها الحبيب الذي وعدها أن يبني لها قصراً من أوراق حكاياتها... لكنه ما زال ينتظركَ كي تمنح حبيبته انتماءً إلى "مدينة الخيال".

عاتبتكَ- وأنا أراقص خيلاء الصبا- فوعدتني أن تمنحني "الانتماء" إذا قفزتُ فوق كهولتي، ووصلتُ إليكَ أحمل صليب معاناتي، والطفلة في داخلي ما تزال تسكن غيمة، وتراقص العصافير في صباحات القرى.

ها أنا أكتب لكَ رسالتي وقد بلغتُ مِن النضج عتياً، والطفلة في داخلي، ترفض أن تشيخ. فما زالت- كعهدكَ بها- تلاعب الخيال وتروِّض حكاياته.
أكتب لكَ... لأخبركَ كيف مضى العمر/المسرحية، التي لعبتُ فيها دور المتفرج! ما أصعب أن تلعب دور المتفرج على مسرحيةٍ ترويكَ كمجرد "كومبارس" في حكاية القدر.

رُفع الستارُ إيذاناً ببدء المسرحية. كانت طفلة- هي أنا- تشاهد فيلماً مِن الرسوم المتحركة، عن رجلٍ طيبٍ يحب الأطفال، لكن الله لم يمنحه طفلاً، فقرر هو وزوجته الحنون أن يمنحا الأطفال فرحة العيد، بتقديمهما الهدايا لهم، في ذكرى ميلاد الطفل/النبي يسوع. كافأهما الله بأن أرسل جنية بعصا سحرية، لتمنحهما الخلود والقدرة على توزيع الهدايا ليلة الميلاد على جميع الأطفال في أنحاء المعمورة.
وهكذا أقيمت "مدينة الأحلام" في القطب الشمالي.
غفت الطفلة!... نزعتُ شالي الأحمر وغطيتها به.
صرخ بي المخرج/القدر: عودي إلى مكانك ليناااااا.

ثم... بينما أنا أحاول أن أريح رأسي المتعب مِن "لعنة الوعي"- حسب مقولة سيوران*- لمع ضوءٌ ساطعٌ في أرجاء المسرح، فرأيتُ الناس تفرُ وكأن الشيطان يلاحقهم، لا بل فعلاً كان يلاحقهم بهديره المرعب... فاستفاقت الطفلة!... لم تعد طفلة! لقد تجاوزت الخمسين!... والمعاناة موشومة في روحها/روحي! فأنا ابنتها البارة/الثائرة، التي تلعنها يومياً في الجهر والعلن.

لعلكَ عزيزي سانتا، تود أن تسألني "وماذا فعلتِ من إنجازاتٍ لتستحقي الانتماء إلى مدينة الخيال؟".

لم أجَنَّ... أنا طفلة الحرب التي أسست خزائنها في ذكريات طفولتي منذ أول طلقة رصاصٍ بين "الشياح- عين الرمانة".

لم أنكسر... أنا طفلة الغضب، الرافضة للتطبيع مع عدو، ينشر الرعب في أنحاء الأوطان الآمنة، يقتل ألف طفلٍ في اليوم ويقول "نقاتل الإرهاب ليعم السلام في أرجاء العالم"!!!!.

لم انتحر... أنا ضحيةً منظومة سياسية فاسدة، جعلتنا- كشعب- نستجدي ثمن الدواء والدفء!

واجهتُ الموت بالإيمان، وذرفتُ دموع الصبر وأنا أرى أحبائي يوارون في الثرى مع قطعة من روحي... حبيبٌ بعد حبيب.

لم أكفر... أنا ضحية الخيانة... خيانة القريب والغريب... خيانة النساء والرجال... خيانة الأقنعة... يـــــــــــــــا لكثرة ما شاهدتُ من أقنعةٍ تسقط.

استحق الانتماء إلى "مدينة الخيال"لأنني من أولئكَ المجانين الذينَ يغوصون وصولاً إلى أعماق المعاناة، ليعودوا قبل برهةٍ من هلاكهم وفي جعبتهم أحرفٌ ضوئية، ينثرونها كغبار النجوم، في ليالي السهر، من أفواههم ينساب نهرُ حكاياتٍ لا ينضب.

كنتُ أغوص في معاناتي، فيقال انتهت!...
لكنني كنتَ أصعد مجدداً على ظهر حورية تحملني إلى شواطئ مدينتك، حيث أركض مع الدببة... ألعب مع رجال الثلج... أغني مع العصافير... أسبح مع البطاريق... أمارس التزحلق على الجليد مع "فارسي".


ماذا تقول عزيزي سانتا...
ألا أستحق منكَ ورقة ورد، تعلنني... "مواطنة في مدينة الخيال"؟





*الوعي لعنة مزمنة، كارثة مهولة، إنه منفانا الحقيقي، فالجهل وطن، والوعي منفى. إميل سيوران



Images rights are reserved to their owners

الوشم


نفير بوق سيارة الإسعاف يصمّ الآذان، في محاولةٍ لإنذار السائقين بضرورة فتح الطريق، بينما المسعفون داخل السيارة يقومون بما يستطيعون لإنقاذ المرأة التي تصرخ من آلامها. هي واحدةٌ من ضحايا حوادث الدراجات النارية، دهسها شاب متهور يقود دراجته بسرعة فائقة، بينما تترجل من سيارة الأجرة.

قرر الطبيب أخصائي جراحة العظم القيام بجراحةٍ عاجلةٍ لها. بعد حوالي الساعة، وكان قد حضر ابنها، أُدخِلت هاجر (وهو اسم المرأة الخمسينية) إلى غرفة العمليات.

اقترب منها الطبيب الجراح، بينما طبيب التخدير يحقنها بالمخدر، وقال وابتسامة تعاطفٍ تنير وجهه: هاجر، لا تقلقي... سيكون كل شيء بخير إن شاء الله.
 "يا إلهي... هذا الوشم!". قالت في نفسها. ثم أغمضت عينيها بسبب تأثير المخدر، وهي تتأمل الوشم على عنق الطبيب.
لهذا الوشم المميز حكاية من سالف الزمان، يوم كانت هاجر في السادسة عشرة من عمرها، والحرب الأهلية في أوجها.

ذات جولة قصفٍ عشوائي كانت تغادر المدرسة، رفقة الطلاب والأساتذة، والخوف غرابٌ أسود ينعق فوق رؤوسهم. اهتزّت الأرض تحت قدميها جراء انفجار صاروخٍ قريب. استفاقت من صدمتها لتجد نفسها في مكانٍ بارد، يبدو أنّه مستودع للبضائع. نظر إليها شاب بذهولٍ، بعد أن وجدها أمامه في لمح البصر!

قالت وأنفاسها تتقطّع: آسفة... لقد دخلتُ للاحتماء... الصاروخ...
أشار ناحية كرسي قريب وقال:لا عليكِ... اهدأي... أنتِ في أمان.
جلست، فأحضر لها عبوة ماء. نظرت إليه بينما كان يضع العبوة في يدها. على عنقه وشم مميز، قلب وخطوط نبضاتٍ واسم.
قال: لا تخافي... إنها جولة قصف كالمعتاد.
تناولت جرعة ماءٍ، فاستعادت اتّزانها وقالت: يجب أن أذهب... ستقلق أمي عليّ.
أجاب: الأفضل أن تنتظري قليلاً كي يهدأ القصف.
لكنها غادرت بلمح البصر، كما حضرت، وهي تقول: أشكرك على كل شيء.

اختفت، ولم تترك مجالاً للشاب أن يرد. كان يريد أن يقول لها إنّه سيرافقها إلى منزلها. بعد أن تحسن وضع هاجر واستقر بعد العملية، أوصى الطبيب بنقلها من غرفة العناية المشددة إلى غرفة عادية. في المساء، وهو يطمئن على صحة مرضاه قبل المغادرة، دخل غرفتها وهو يبتسم ويقول: هاجر البطلة... الحمد لله على السلامة.
ابتسمت في وجهه، بينما ابنها يقول: ماما، الدكتور كمال أجرى لكِ العملية.
ابتسمت وقالت: الوشم... الوشم على عنقك... لقد عرفتكَ...
نظر إليها متسائلاً، فذكّرته بالحادثة والملجأ. عادا بالذاكرة إلى زمان الحرب الأهلية القاسي. ثم قالت: الآن تذكرت... كان الوشم اسم جلنار مع قلب. أرجو أنّكما ما زلتما معاً.
ابتسم الطبيب بحزن وأجاب: جلنار توفيت منذ أن كنتُ طفلاً... هي أمي. وللوشم حكاية سأخبرك بها. 
في العاشرة من عمري، كنتُ جالساً إلى جانب والدتي على شرفة المنزل، ننعم بدفء شمس الشتاء. فجأة سقطت قذيفة قربنا، فتوفيت والدتي وأصبتُ أنا في عنقي. بعد تعافيَّ من الإصابة، عانيتُ من صدمة وفاة أمي. كان والدي كلما بحث عني وجدني في غرفتي أمام المرآة، أخدش مكان الإصابة. بفضل العلاج النفسي، تعلّمتُ أن أرسم أشكالاً جميلة فوق الإصابة، كي أحافظ عليها من أظافري، بعدها أصبحتُ أطلب من أبي أن يكتب بدل الرسومات اسم أمي... جلنار. في الثامنة عشرة من عمري، فاجأتُ والدي بهذا الوشم الذي يخلد اسم أمي. استاء مني وخاف عليَّ، بحجة أنّ المواد المستخدمة في الوشم يمكن أن تكون ملوثة، ولكنني قبّلتُ رأسه واستعطفته، فاسم جلنار الموشوم فوق حبل وريدي لن يحمل لي إلا السلامة.

ابتسمت بحزن وقالت وهي تمسح دمعة عن خدها: تعيش وتتذكر.
ابتسم مجدداً وقال: تعيشي يا ست هاجر... هي ذكرياتنا الموجعة، والجميلة أحياناً. لكنها ذكرياتنا وكنزنا الدفين في كل الأحوال.


Images rights are reserved to their owners


سلالة فرانكشتاين

 
ذات ليلة ضجرٍ، قرأ حاكمُ الدولة العظمى، قصة ماري آشلي/ فرانكشتاين.
لكن النهاية لم تعجبه! فقرر أن يستدعي "المسخ" الذي خلقه العالِم روبرت فرانكشتاين، ليعيد له اعتباره في التاريخ بعد كل الظلم الذي تعرض له بسبب كاتبة لاهية.

استنفرت قوات والأمن والمخابرات إلى أن وجدوه. وأحضروه إلى القصر الرئاسي، بتكتمٍ شديد وسرِّية تامة.
سأله الرئيس: هل تعتقد أن العالِم فرانكشتاين قد أنصفكَ في رواية ماري آشلي؟
أجاب المسخ بحزن: لا... لقد سرقا مني المرأة، وقررا نفيِّ إلى جزيرة جليدية لأعيش فيها مأساتي وحيداً.
فقال له الرئيس مشجعاً: وماذا لو أعدنا لك امرأتك ووليّناكَ مهمة عظيمة؟
ذهل المسخ وأجاب: وهل ذلكَ ممكن؟
فأجاب الرئيس ضاحكاً: طبعاً ممكن...
فقال المسخ بثقة: سأكون طوع بنانك، وسأنفذ أوامركَ حرفياً.

وهكذا...
أخرجوا له امرأته حيث قام العالِم روبرت والتون بدفنها.

تزوج فرانكشتاين مِن محبوبته فرانكشتينا، وأنجبا قبيلةً من المسوخ.
... رفعوا شعارات باسم الدين والخلافة الإسلامية. وعاثوا في البلاد فساداً.

 


Images rights are reserved to their owners


رصاصة طائشة


والزغاريد تلعلع... هوى إلى الأرض.





خط الدماءِ الوقح على الإسفلت أوضح ما حدث... رصاصة أصابت رأس العريس!
رصاصةٌ تُتهم بأنها طائشة، والطيش مظلومٌ إذ يُنسب إلى معدنٍ في أيدي أناسٍ أقل ما يُقال عنهم أنهم... معدومي الضمير!


العريس/الشهيد هو ناجي الشاب الثلاثيني الذي أراد أن يكون هذا اليوم مميزاً في أجندة مناسباته. يوم اقترانه بفتاة أحلامه عبير.

عبير!... العروس التي لم تكد تفرح بعقد قرانها على حبيب العمر، فها هو مضرجٌ بدمائه الحمراء، التي لونتْ فستانها الزهري، فبدلته إلى أسود الحداد.


وكم مِن رصاصٍ طائشٍ ستُحصي بعدُ... يا وطني!


 

  Image rights are reserved to the owner


مسرحية هزلية

 

"عجبستان" دولة عمرها سبعة آلاف سنة، تقع على شاطئ البحر المتوسط.
لطالما كانت عصية على المحتل، مِن أي بقعة من المعمورة أتى.
عدوها الأوحد، كائنٌ/مسخ احتل بقعة أرضٍ مباركة، أقام على ترابها كيانه الغاصب.
أما علاقاتها مع سائر الدول فكانت علاقات ودية، تسودها المحبة المتبادلة.

إلى أن...
قامت دولة ما زالت في طورها الجنيني في مجال التنمية، لم يتجاوز عمرها بعدُ 60 عاماً، بعقد معاهدة صُلح مع الكيان الغاصب، تفند حقوقه الشرعية والقانونية... وتضرب بسيفه!
... وهكذا ومن دون أسبابٍ معلنة، قرر حكّام هذه الدويلة قطع العلاقات التجارية بين الدولتين، لأسبابٍ واهية! فانقطع الحليب، المستورد من هذه البلد التي لطالما اعتبرتها "عجبستان" دولة صديقة.
السبب الغير معلن (والمعروف للجميع طبعاً)؟... على دولة "عجبستان" أن تعترف مثلها بالكيان الغاصب، كونه صديقاً يريد مصالحنا جميعاً!

انتفض الشعب المناضل، وطالبوا الزعماء بإيجاد حلٍ لانقطاع الحليب.
فتولت فئة من المؤرخين دراسة وتحليل هذه المهزلة، وأصدروا بياناً لشعب "عجبستان" جاء فيه:
أيها الشعب العنيد، الموجود على هذه الأرض منذ سبعة آلاف سنة، ما هذه الجارة، إلا طفل أحمق يريد أن يلعب بالتاريخ ليغيِّر الجغرافيا. نحن هنا منذ سبعة آلاف عام، قاتلنا من أجل وطننا كل محتلٍ وغاصب، ولم نسمح لأحد بأن يتحكم في رقابنا، تحت أي شعار. فهل سنسمح الآن "لدويلة هجينة" عمرها لا يتخطى الستون عاماً، أن تلزمنا بعقد صلحٍ مع الكيان الغاصب؟ وهل يستحق الحليب أن يمرِّغ أنوفنا في أوحال العمالة؟
"عجبستان" دولة موجودة منذ فجر التاريخ، وستبقى على خارطة العالم إلى نهاية الكون... ولن نصالح.


ولأنها دولة "عجب- ستان" فقد انقسم شعبها بين مؤيدٍ للصلح مع الغاصب، وبين رافض له!

و ما زالت المسرحية تتنقل بين مسارح الوطن. الممثلون يرمون الجمهور بالشتائم.
والجمهور... يتبادل الاتهامات.




 

 Images rights are reserved to their owners

 

فات الأوان


"لا شيء فيَّ مكتملٌ... إلا أحزاني، وشغفي بأنثى لا يليق بها النسيان".
تأوّهت باكيةً وهي تعيد قراءة هذه الجملة/الطعنة. كان يحدّق بها واجماً، غاضباً منها، حزيناً لأجلها.
قالت من دون أن ترفع نظرها عن الورقة: لمن كَتَب هذا الكلام؟
أجاب باستهزاء: وهل هذا جُلُّ همكِ الآن؟... لمن كتب هذا؟
أجابت بغصّة: طبعاً يهمني... أليس زوجي الـ...
ولم تستطع أن تكمل الكلام.
كان يغالب الدموع المحتشدة على قارعة جفنيه، أخذ نفساً عميقاً وأجاب: لقد رحل وهو حزين.
هزّت رأسها إيجاباً، وقالت شارقةً بدموعها: لم أكن أعرف!... لماذا لم يقل شيئاً؟
اكتفى بأن وضع يده على فمه، وتأمّلها تبكي بحرقة. فماذا يمكنه أن يقول وهو يراها تبكي بعد أن فات أوان الندم!
مسحت دموعها، وتناولت رشفة ماءٍ، أخذت نفساً عميقاً ثم قالت: أريد أن أعرف كل الحكاية... هيا أخبرني ماذا كان يجري!
أجاب: هل ستحتملين سماع الحقيقة؟
قالت بسرعة: سأحتمل... سأحتمل... يجب أن أعرف.
فقال بعد أن أشعل سيجارة: كان أخي رحمه الله هاوياً للشِعر قبل أن يتعرف إليكِ، ينظم كلماته كما ينبض قلبه، بكل صدقٍ وشفافية. هل تذكرين؟ حاول أن يقرأ لكِ بعضاً من أشعاره أثناء فترة خطوبتكما، فسخرتِ منه ومن "هوايته السخيفة" كما وصفتها، فتوقف عن الكلام عن هوايته هذه أمامكِ طوال سنين طوال... عشرات السنين، وهو لا يكتب الشِعر، وكان يضع كتبه في مكان عمله، أو في سيارته، بعد أن رميتِ مجموعة كتبٍ له في سلة المهملات. وأكمل حياته معكِ بما يرضي الله.

كنتِ لا تفهمين حنانه "الزائد عن الحد" كما كنتِ تقولين! تنفرين من لمساته وتعتبرينها "ولدنة لا داعي لها"، فأنتِ دائماً مشغولة بأمرٍ ما، حفلة عند صديقاتك، شجار بين شقيقكِ وزوجته، مرض طفلةٍ من أطفال شقيقتك، والدتكِ حزينة وتحتاجك معها... وهكذا قضيتِ معه العمر، عائلتكِ في أعلى مرتبة، يليها أولادكِ ومنزلك، أما هو... فكان آخر اهتماماتك.

لم يخبرني تفاصيل علاقةٍ أنتِ أدرى الناس بها، خاصة أن فيها من الأسرار الزوجية الكثير، لكنه لخص حياتكما معاً بجملةٍ فيها كل الحكاية، إذ قال لي: "كنا هي وأنا نعيش على كوكبين مختلفين، أحياناً كنتُ أخالني بالنسبة لها شبحاً، أو صرافاً آلياً في أحسن الأحوال".

بكت بحرقة... فتابع: لم تحتويه... عشتما فردينِ في منزلٍ واحد، ولم تكونا يوماً شريكين في الحياة. كان يعيش من أجل ولديه التوأم، هما فقط كانا سبب بقائه حياً. وعندما أصيب بالمرض العضال، كان يقاوم من أجلهما.

كنتُ أزوره فلا أجدكِ في المنزل، كان وحده يعاني آلامه أحياناً، أولاده يعتنون به، وأنتِ تحضرين حفلاً بمناسبة ومن دون مناسبة، فقررتُ أن أعلمه استخدام الإنترنت، فدخل عالم المدونات وصفحات التواصل الاجتماعي، هناك بدأ يخرج من قوقعة أحزانه وآلامه. كان يكتب أشعاره ليجد حوله عشرات المعجبين بسِحر كلماته.

باختصارٍ، لقد أحبها. كانت تشبهه في رهافته، في جنونه، في هواه الأدبي وفي نزقه الشِعري. لكنّه لم يرضَ أن يتخلّى عنكِ ويخرّب منزلاً يحوي ولديه المراهقين، وهما أحوج ما يكون إليه، تركها تنفصل عنه لأجلك.

لكنَّ قلبه المرهف لم يحتمل الحزن وهي بعيدة عنه، فتوقف تلك الليلة رافضاً أن يعود إلى الحياة على الرغم من جهود الأطباء. فماذا كانت النتيجة؟

تلوّت بألم، فتابع: لم تتنازلي وترافقينا إلى ربوع الوطن لندفنه حيث أراد، في تراب قريته. لماذا؟... لا يهم. المهم أننا واريناه ثرى القريةٍ وتركناه في أحضانها، حيث سيجد راحته الأبدية.
وأكمل ليؤلمها أكثر: وماذا بعد؟... بعد أقلِ من ثلاثة أشهرٍ خلعتِ الأسود، وتزينتِ.
فصرخت: قالوا لي...
أسكتها بحركة من يده وقال: لا يهمني ما قالوه...
أنتِ زوجة ناكرة للجميل، لطالما كنتِ لأخي الحبيب... نكد حياته.

أطفأ سيجارته بعنف في المنفضة، وتابع: لن أبوح بكلمة لأحد عما دار بيننا... أما أخوتي وأنا، فسنكون دائماً سنداً لولديه ومعهما.




Images rights are reserved to their owners


 

 

امرأة العام


وصلني رابط (لينك) يتضمن دعوة للمشاركة في التصويت لانتخاب امرأة العام 2022!
فتحتُ الرابط- حشرية أنا بطبعي- لأعرف مَن هنَّ المرشحات!.
هالني كمَّ الأسماء المدرجة في العديد من الميادين، جلهنَّ لا أعرف هويتها ولا عملها وميدان نشاطاتها. وشرذمة قليلة العدد ممن أعرفهنَّ بما يكفي لأعتبرهنَّ عاراً على هذا العام وعلى كل الأعوام، عاراً على النساء... بل عارٌ على البشرية.

...بعيداً عن الخوض في جدوى هكذا "حدث"، وبعيداً عن معايير انتخاب هاته النساء، اسمحوا/اسمحنَّ لي أن أعبرَّ عن رأيي الشخصي في هذا الموضوع، ويحق لي أن أدلو بدلوي، بما أنني مستهدفة ومدعوة للمشاركة في هذا التصويت.

امرأة العام هي...
تلكَ الحسناء الجميلة، المتوجة برأسٍ خالٍ من الشَعر بسبب العلاج الكيماوي، وهي تقف أمام وزارة الصحة وفي الساحات، تعتصم باكيةً مِن الألم، مطالبة بالحصول على حقها المشروع بتلقي العلاج والحصول على الدواء، مع عشرات بل مئات مرضى السرطان في هذا الوطن المتهالك تحت أقدام "سرطان" اسمه الطبقة الحاكمة.


امرأة العام هي...
عجوزٌ نخر العمر عظامها، فاحتملت الألم لتخفف عن كاهل أبنائها ثمن الدواء.
هي الأم التي تضع أطفالها في أسرة النوم، خوفاً من أن "يجوعوا" في الليل الطويل، والثلاجة فارغة إلا مِن بقايا قهر.
هي الزوجة التي تساند شريكَ الحياة ليسيرا معاً في درب شظف العيش على أمل أن يتخرج الأبناء في جامعةٍ نهبها "حراس الهيكل التربوي"، ونادوا بقلة الحيلة.
هي تلكَ التي "غرقت" مع مركب الموت، وهي هاربة مِن وطن الموت. وتلك التي انتشلها القهر لتشهد على موت الأحبة.

امرأة العام هي... أمي.
هي كل أمٍ ترى فلذة كبدها يكابد في هذه الحياة، مِن أجل أبنائه... مِن أجل مسؤولياته.
هي كل أمٍ فرحتْ- وتلك هي المفارقة المبكية- لأن قطعة من روحها "هاجر" إلى بلاد الله الواسعة، بحثاً عن مستقبل أفضل.

امرأة العام هي...
مَن استطاعت أن تبقى على قيد الحياة لتحضن العائلة "المحروق دينها" في هذا الوطن...

بئس الوطن أنت يا وطني، إذا تتحكم فيكَ طغمةٌ مِن الأغبياء يتركوننا نهباً لتسلية هاته "النسوة التافهات/المرفهات" اللواتي تردننا أن نتوّجها "امرأة العام".

تباً لكَ مِن عامٍ... والسلام.

 

*صورة مريضة السرطان، مِن تصميم خاص بمصممة المجوهرات يسرى عبد الرحمن.

Images rights are reserved to their owners

النسوية ومتلازمة ملكة النحل


ما هي النسوية؟
بالإنكليزية Feminist هي مجموعة من الحركات الاجتماعية والسياسية والأيديولوجيات التي تهدف إلى تعريف وتأسيس المساواة السياسية والاقتصادية والشخصية والاجتماعية بين الجنسين.
تتبنى موقف أن المجتمعات تعطي الأولوية للذكور، وأن النساء يعاملن بشكلٍ غير عادل في هذه المجتمعات. تشمل محاولات تغيير ذلك محاربة الصورة النمطية/الجندرية وإيجاد فرص ونتائج تعليمية ومهنية وشخصية للمرأة مساوية للرجل.
يعتبر الكثيرون إلى ماري ولستونكرافت على أنها مؤسسة "النسوية" بعد إصدار كتابها الصادر عام 1792 بعنوان "دفاعاً عن حقوق المرأة"، والذي تنادي فيه بتعليم المرأة.
كما يُنسب لشارل فورييه وهو اشتراكي خيالي وفيلسوف فرنسي، على أنه أول مَن قام بصياغة كلمة Feminism عام 1837.

يُعَرِف معجم المعاني الجامع الإلكتروني الحَرَكَةٌ النِسْوِيَّةٌ بأنها "حَرَكَةٌ مُهْتَمَّةٌ بِقَضَايَا النِّسَاءِ وَشُؤُونِهِنَّ".

أما قاموس معاجم اللغة فيُعَرِف النسوية على أنها "حركة فكرية مهتمة بحقوق المرأة، تنادي بتحسين وضعها وتأكيد دورها في المجتمع وتشجيعها على الإبداع".
(نقلاً عن ويكيبيديا).


لا شك أن المرأة عبر التاريخ، عانت الاضطهاد والظلم، بأبشع الأشكال. بدايةً من أسرها للتسرِّي بها، وصولاً إلى قتلها تحت مسمى "جرائم الشرف". وما بينهما أزمانٌ مِن الظلم والاستعباد تحت آلاف الشعارات والمزاعم.


هل حصلت المرأة على حقوقها؟
تدّعي هذه الحركات "أن... لا" لم تحصل المرأة على كافة حقوقها المشروعة. لكن!... كلنا- نساء ورجال- نسأل "هل حصل الإنسان على حقوقه كاملة؟".
ليس إلا الغبي مَن يدَّعي "أن... نعم"!


ليست حقوق الإنسان مشروع مقالتي هذه، ولا حقوق المرأة.
لكنها بسبب معرفتي مؤخراً (للأسف) بوجود ما يسمى "متلازمة ملكة النحل"! وكان ذلكَ في حديث مع زميل في موقع أدبي عن "النساء في مواقع القيادة".
عندما سمعتُ مقولته اعتقدتُ أن الموضوع "نكتة" ولا تعدو كونها تجَّنٍ على النساء، لكن عندما بحثتُ في الموضوع وراجعتُ ملاحظتي الشخصية وخبراتي الخاصة اكتشفتُ ما كنتُ أجهله...

بداية... ما معنى متلازمة ملكة النحل؟
أول مَن عرَّف هذه المتلازمة غيل ستينس- تي جاياراتن- سي تافريس عام 1973. وهي تصف المرأة في المنصب القيادي، وكيفية تعاملها مع مرؤوسيها من الإناث بقسوة وانتقاد مبالغ به. (نقلاً عن ويكيبيديا).

مواصفات المرأة (القيادية) المصابة بهذه المتلازمة هي:
- شعور بالفوقية.
- تضخم في ال "أنا".
- تضخيم الإنجازات الشخصية مهما كانت بسيطة.
- محاولة لفت النظر بشكل مبالغ فيه، سواء في الأفعال- الأقوال- المظهر- التصرفات...
- العدائية في التعامل مع الموظفين، خاصة الإناث، وإساءة معاملتهم.

كشفت كثير من الأبحاث العلمية في مجال علم النفس، أن هذه المتلازمة تنتج عن انعدام شعور المرأة بالأمان، فتقوم بعملية "إسقاط نفسي" بأن تُعامل الموظف، الأنثى خاصة، معاملة سيئة.
ويُرجع بعض الباحثين سبب ذلك إلى أنّ من تشغل منصب قيادي، ربما تشعر أنّه من الواجب على غيرها من النساء سلوك نفس الطريق الصعب الذي سلكته هي من قبل.
كل الدراسات التي تناولت هذه المتلازمة، أجمعت على أنها تصيب المرأة الناجحة، التي يُشهَد لها بالكفاءة.


لكن!... ماذا بشأن "ملكة النحل" الفاشلة، التي تولت منصبها لأسبابٍ أبعد ما تكون عن الكفاءة والاحتراف!؟ وما هي صفاتها؟

أولاً كفاءتها:
- ضعيفة وظيفياً، لا تملك المهارات المطلوبة في عملها.
- تعتمد على مساعديها وكل مَن حولها.
- توزع المهمات بحيث لا يبقى ما تنجزه بنفسها.


ثانياً صفاتها:
- تحاول أن تغطي فشلها بإقامة شبكة من العلاقات العامة، حيث تُظهر براعتها في اللباقة.
- تضع الملامة على الآخرين، ولا تعترف بأخطائها.
- تتكلم كثيراً عن نفسها وإنجازاتها.
- لا تناقش، بل تلقي أوامر.
- تتجسس على الموظفين.
- تخاف من المنافسة، ولا تأمن جانب أي شخص يمكنه تولي منصبها.


هل هي طاغية أم ضحية؟
سؤال بحاجة لدراسة علمية، ولعل أفضل مَن يقوم بها هم علماء النفس.


نهاية القول أود توجيه سؤال أرجو أن أجد إجابته لدى الناشطات في مجال الحركات النسوية:
هل في دستور "جمعياتكنَّ" قانون يحمي (نا) من أذية المصابات بـ "متلازمة ملكة النحل"، وفي أي موقع قيادي تتولاه؟ وهل في حسبانكنَّ أي خطط للكشف المبكر عن هذه الحالات قبل توليها أي منصب قيادي؟




Images rights are reserved to their owners

ترويض الخيال المجنون


كنتُ طفلة بريئة حدَّ السذاجة... 
تقول أمي أنني كنتُ أروي الحكايات وكأنني "حكواتية" أصيلة وعتيقة. كانت جارة أمي تحبني جداً وتخاف عليَّ من "صيبة العين" فتحاول جاهدة أن تسكتني عندما "تفيض قريحتي" الحكواتية أمام أحد. لكنني لا أسكت قبل أن أنهي الحكاية الخيالية التي نسجتها في مخيلتي المسافرة دائماً فوق الغيوم.
أذكر أنني ذات سفرٍ على أجنحة خيالاتي الكثيرة، قررتُ أنني عندما أكبر سوف أطلب من النجار أن يصنع لي أطول "سُلَم" في العالم! كي أصل إلى الغيوم البيضاء التي كنتُ اعتقدها ثلجاً، حيث أبني لي منزلاً هناك وأعيش مع العصافير.

وكبرتْ... وليتني لم أفعل.
اكتشفتُ مع مرور الأعوام واتساع مخيلتي، أنني مهما اجتهدتْ ومهما بالغت في الخيالات، فلن أصل إلى مستوى الفرحة الساذجة التي كنتُ أشعر بها مع خيالات الطفولة تلك.
لكنني تعلمتُ أن أكون ممتنة لخالقي سبحانه على موهبة "الخيال المجنون" الذي منحني. فبفضل هذا الخيال الجامح، استطعتُ ترويض آلامي وأحزاني واتخذتها "سلماً" أصعد من خلاله إلى غيوم الوحدة، حيث بنيتُ لي بيتاً/عالماً هناك، حيث أعيش بين دفتي كتب، أبحر على بياض الورق ومجدافي... قلم.



Images rights are reserved to their owners

  

في ضيافة الشيطان

 
لكثرة ما لعنتُ الشيطان... خطفني!
كان ذلكَ بعد معركة حامية الوطيس شهِدّتها على محطة البنزين، بين مجموعةِ شبانٍ على أفضلية التقدم، والسيارات تصطف رتلاً يمتد طوله أكثر من كيلومتر!

ابتعدتُ عن المكان وأنا أشتم وألعن الشيطان، ألن تنتهي ألاعيبكَ بنا أيها المطرود من رحمة الله!؟
لم أحصل على وقود لسيارتي!... طبعاً لم أحصل، أنا لا أملك سيارة أساساً، كنتُ أمرُّ من هناك صدفة.


فجأة!... وجدتني في مكانٍ غريبٍ مرعب!
غابة كثيفة الأشجار، والليل حالك الظلمة. في الأجواء هسيسٌ مخيف، لم أفهم كنهه، وكأنه عويلٌ من جهنم، أو تراتيل مخلوقاتٍ شيطانية.
أين أنا؟... نظرتُ حولي، كانت ضربات قلبي وكأنها قرع طبول، وفي حلقي صحراءٌ جافة. حتى الدموع لم تسعفني!
أغمي عليَّ... بعد أن سمعتُ صوتاً!... استفقتُ ورائحة الكولونيا في أنفي... كنتُ بين يدي رجلٍ وسيم أنيق تفوح منه رائحة عطرٍ مميز، لم يسبق لي أن شممتُ مثيلاً له.
ناولني كوب ماءٍ وهو يبتسم... ثم قال: هوني عليكِ أنتِ في أمان ولا داعي للخوف.

بدأتُ أهدأ عندما لاحظتُ وجود امرأة معه، هي أيضاً كانت رائعة الجمال.
أجلستني على بساطٍ سميك، وناولتني قطعة من الشوكولا، ابتسمت وقالت: يبدو أن الرعب قد جفف عروقك، سيساعدك السكر على استعادة لون وجهك.
تناولتها بهدوء، ثم نطقتُ أخيراً: أين أنا؟ ومَن أنتما؟
ابتسم الشاب وقال وفي عينيه وميض: أنتِ في مملكة الشيطان.
ضحكتُ للطرفة... ضحكتُ إلى أن سالت دموعي وأصابني السعال.
ثم قلت: حلوة منك... لم يسبقكَ عليها أحد. يبدو أنكَ رائق البال، وتريد أن تتسلى بي.
أجابت المرأة: صدقيه عزيزتي فهو إبليس وأنا الشيطانة ليليث. ألم تسمعي عنا!؟
ضحكتُ مدداً، فهدر الرجل بصوتٍ أصابني بالخرس، ثم قال: توقفي عن الضحك، لسنا هنا لتسليتك.
ازدرتُ ريقي وقلت: هل تقسمان بالله أنكما لا تتلاعبان بي؟
أجاب الرجل بابتسامة خبيثة: شيطانٌ ويقسم بالله!!!
انتحبتُ وقلت: مَن أنتما وماذا تريدان مني؟... فدية؟... عائلتي تحت خط الفقر، و...
قاطعتني المرأة وقالت: لا نريد فدية من أحد، وإن وافقتِ سوف نعطيكِ ثروة.
خدرٌ غريبٌ تغلغل في شراييني، فوجدتني أستسلم للعبة.
فقلت: حسناً... صدقتكما... فماذا تريدان مني؟
أجاب الرجل: أحضرتكِ إلى هنا لأقدم لكِ الدليل على أنني بريءٌ من أفعال البشر، فهم مَن يوحي إليَّ بما يريدونه من خططٍ ومؤامرات!
ضحكت بسخرية وقلت: شيطان وتريد أن تقنعني أن البشر هم مَن يوحون إليكَ بشيطنتهم!؟
أجاب بهدوء: أجل... ويجب أن تقتنعي.
أجبتُ باستسلام: حسناً... موافقة أقنعني، المهم بسرعة كي أعود إلى المنزل قبل أن تقوم عائلتي بالإبلاغ عن اختفائي.
ابتسم بارتياح وأجاب: لا تقلقي بهذا الشأن.
ساعدتني "ليليث" على الوقوف، لنبدأ في رحلةٍ داخل الغابة.
سألني بيلي (طلب مني أن أناديه بهذا الاسم): من أين تريديننا أن نبدأ؟
أجبت بتصميم: من انفجار مرفأ بيروت.

اصطحبني إلى مبنى ضخم، فيه عشرات الموظفين، شاشات كومبيوتر ضخمة- شاشات تلفزيون- أجهزة تنصت- أجهزة بث وإرسال...
يا إلهي... ما هذا؟ سألتُ بقلق.
أجاب بيلي: هنا مركز مخابراتنا... نستخدمه حالياً لنعرف مَن المسؤول عن هكذا انفجار!
فقلت بحماس: إذن؟... مَن فعلها؟
استاء بيلي ومعه ليليث!... وقالت الأخيرة: والله لم نعلم حتى الآن مَن المسؤول، فكلما دخلنا إلى عقل أحدهم، أحالنا إلى مئة عقلٍ غيره!
صرخت: لكنكم أنتم مَن وسوس لهم بهذه الفعلة، فلمن وسوستم؟ وفي عقل مَن رسمتم هذه الكارثة؟
تفت ليليث في صدرها كما تفعل الجميلات في مصر الحبيبة وأجابت: معاذ الله أن نوحي لشخص بهكذا كارثة، منتهى قدراتنا أن نوسوس لشخص أن يضرب الآخر أو يُطلق عليه النار، لكن أن يبيد مدينة!!!!... لا وألف لا، هل انعدم ضميرنا إلى هذه الدرجة!!!

بكيتُ... ثم ضحكت بهستيريا... ثم بكيت بتفجع... ثم ضحكتُ...
صفعني بيلي وقال: اهدئي... هل ستنهارين الآن؟... لم نبدأ بعد.
وصلنا إلى صالة تمتد كمدينة، تحيط بها شاشات ضخمة، تعرض ما يشبه البورصة... و... فجأة رأيته!... كان يعطي محاضرةٍ عن المال والاقتصاد.
صرخت: هذا؟... انه...
ضحك بيلي وأجاب: فوجئتِ؟...
شتمته أعني المحاضر وقلت: وماذا يفعل هنا!؟
أجاب بيلي: هذا أقدم أساتذة الاقتصاد هنا.... بروفسور في نهب الخزينة وإفلاس الدول.
حاولتُ أن أحلل الموضوع في عقلي... (هذا ال....) يعلم الشياطين؟... أم الشياطين يعلمون أمثاله؟
أغمي عليَّ... رشتني ليليث بعطر جميل الرائحة، استفقت وقلتُ بغصة: متى تنتهي هذه الرحلة ؟!
قالت بحزم: لا... ما زال أمامك الكثير لتريه.

أخذتني إلى مكانٍ أشبه بمنتجع أو "سبا" كبير جداً، نساء... نساء... آلاف النساء... أزياء... عطور... مكياج... اكسسوارات... وكل ما له علاقة بالنساء!
شتمتها وقلت: هنا تم إعدامِ المودة الزوجية، وقتل قيم العائلة بدمٍ بارد.
أجابت وعلى ثغرها ابتسامةٌ ساخرة: لم نفعل سوى أن علمنا النساء بعض الخدع لتصبح أجمل في عين الرجل.
أجبتُ باستياء: لكنكِ علمتها التمرد على الرجل!
أجابت: لا... هي علمت نساء جنسها التمرد، ها أنا مطيعة لبيلي الحبيب إلى الأبد.
أرسل لها قبلة في الهواء.

حملني بيلي بين ذراعيه كما يحمل "شوال البطاطا"، وأوقفني أمام!... ما هذا!؟... لم أفهم... على عرشٍ عرضه صفحة السماء، يتربع الدولار و... ما هذا؟! سألتُ بيلي.
أجاب الأخير: الدولار...
يبدو أن ملامح وجهي كانت مضحكة، فليليث ضحكت بطريقة هستيرية وهي تقول: يا لها من طفلة ساذجة... هبلة... هبلة...
بكيتُ بسبب التنمر، فربت بيلي على كتفي وقال: هي تمازحك لا تبكي... يا عزيزتي ما ترينه هو معبد لعبادة المال... وعلى العرش فوق توجنا الدولار.
كفكفتُ دموعي وسألته: وماذا تفعل هذه الجموع الساجدة تحت أقدامه!؟
أجاب بيلي: تقدم فروض الولاء والطاعة...
قلت بدهشة: للمال!؟...
دهِش بدوره وقال: لا تقولي انكِ فوجئتِ!؟... فأين تعيشين أنتِ؟
أجبتُ بإحباط: حسناً... طبعاً عبادة المال هي دين العصر... لكن!... هل من أساليب أخرى للنهب تعلمهم إياها؟... ثم تدَّعي انك بريء من أفعالهم!
ابتسم باستهزاء وأجاب: وغضبتِ من ليليث حين نعتتكِ بالهبلة!... يا صغيرتي هم يأتون إليَّ، يضعون أمامي كل المعطيات التي بين أيديهم لنهب الأموال... أنا فقط أفتح لهم الطريق وأضع لهم ثغراتٍ يدخلون منها لإعطاء المشروعية لنهبهم المنظم.
جلستُ على الأرض "أبحت" كما يفعل طفلٌ لم يُستَجَب طلبه وقلت: لم أعد أحتمل... أعيدوني إلى أمي... أعيدوني إلى منزلي...
قال بيلي: بقي أمرٌ أخير أريدكِ أن تريه.

اصطحبني إلى ما يشبه ملعب كرة قدم، مساحة لا نهاية لها، أطفالٌ من جميع الأعمار، والألوان والأعراق... بنات وصبيان... يبكون ويلعنون كلما ظهر على شاشة السماء صورة زعيمٍ عربي... من أكبر ملكٍ إلى أصغر مسؤول حكومي...
أشرتُ إلى ما أرى أسأل دون كلام، فأجابت ليليث: إنهم أطفالي الأحباء... يلعنون كل مَن يشارك في قتل وظلم الأطفال حول العالم...
نظرتُ إلى بيلي وقلت: ألستَ أنتَ مَن تزين لهم الحروب واحتلال الدول، وقتل البشر!؟
أجاب: هل رأيتِ يوماً شيطاناً يقود طائرة حربية؟!... هل سمعتِ يوماً عن مملكة يحكمها شيطان، قامت باحتلال مملكة شيطانية أخرى!؟
نحنا منذ خلقنا الله نعيش في سلامٍ فيما بيننا. نخرج إلى دنيا الإنس لنقوم بعملنا، فمن استدعانا لبيناه، ومَن حاربنا بآية الكرسي كفيناه شرنا.
أغمي عليَّ...


عندما فتحتُ عيني، وجدتني في غرفةٍ بيضاء. ابتسم شخصٌ في وجهي وقال: الحمد لله على السلامة.
وضعتُ يدي على رأسي المتألم وقلت: أين أنا؟
أجاب الرجل: أنا الدكتور يوسف، أنتِ في المستشفى، لقد تلقيتِ ضربة على رأسك وأنتِ تمرين أمام محطة البنزين، هل تذكرين؟
أجبت: لا... لا أذكر... فقط أذكر إنني كنتُ مع الشيطان في رحلة.
ضحك الدكتور وأجاب: الفكاهة دليل تعافي... الحمد لله على سلامتك... سوف أنادي عائلتك.

 

 

 Images rights are reserved to their owners