الألم... الشهوة... الموت


انضممتُ إلى مجتمع  كورا
بالعربي، منذ بضعة أشهر، وفوجئتُ بكمِّ الخبرات والمعلومات التي اكتسبتها على هذا الموقع الراقي، الثقافي بامتياز. الذي يضعكَ أمام أكبر وأهم التحديات، ليُخرج أرقى ما فيكَ من قدرة على التعبير، وصوغ العبارات، ومشاركة تجاربكَ مع أشخاصٍ يشبهونكَ مِن حيث الشغف بكل أنواع المعرفة.
في هذا الموقع  كان لي شرف معرفة عددٍ مِن الأدباء والكتَّاب، الذين لا يبخلون بنشر ثقافتهم وخبراتهم، ليستفيد منها جيل الشباب الطالع الذي هو أحوج ما يكون إلى منهاجٍ ثقافي مكثف، يساعده في تغيير واقعه المؤلم، في عالمٍ يحتله رواد التفاهاتِ والترهات... ويكادون أن يقضوا على كلِ معلمٍ من معالم الثقافة والفن والجمال فيه.
من هؤلاء الأدباء الجميلين، كان لي شرف التعرِّف إلى كاتب السيناريو الأستاذ حامد الباجوري (العم حامد) مبدع من مصر الحبيبة... مبتكر أجمل الأسئلة التي تستفز المخيلة، وتُخرج منكَ الكاتب الصغير الكامن في عمق روحك.

أحد أسئلته الملهِمة كان هذا السؤال:
أنت على وشك تحقيق حلمك، وهذا يعتمد على شرط يجب تنفيذه وإلّا سيضيع كل مجهودك، والشرط هو أن تتطوع لمدة شهر لتصبح أنت (الألم، الشهوة أو الموت) على جميع المخلوقات، ماذا ستختار؟ ولماذا؟

سؤالٌ وضعني أمام معضلة، فماذا أختار؟... لا بل ماذا بإمكاني أن أختار!؟
بعد لحظاتٍ من التفكير، قررتُ أن أبدأ بسم الله، لأرى ماذا سيبتكر عقلي مِن أفكار.
بدأتُ بتحليل هذه الشروط الثلاث، لأحدد أيها أكثر نفعاً في تغيير العالم. أجل… فتغيير العالم وتحديداً تغيير البشر وتحرير عقولهم، هو حلمي الكبير.
فبدأتُ من النهاية… الموت.
هل ينفعني أن أكون الموت كشرط لتحقيق حلمي؟
ربما!… سوف ينفعني أن أكون الموت في حالة واحدة، إن كان بإمكاني أن أختار فقط كل ظالم… فاسد… متسلط، فهكذا ترتاح البشرية قاطبة من أعباء استبدادهم.
لكن إن كان شرطاً عليَّ أن أكون الموت على جميع المخلوقات، فبالطبع لن أختاره.
فما نفع حلمي عندها!

إذن الشهوة.
فماذا سيحصل عندها؟
سوف أزيد شهوة الظالم للظلم، وشهوة المتسلط للقمع، وشهوة المستبد للاستبداد… بل ستزيد كل أنواع الشهوات الفاسدة في نفوس أصحابها شُذاذ الآفاق.
في هذه الحالة، سوف أكون شهوة في عقول البسطاء والأنقياء والأتقياء والأصفياء… الذين مِن الممكن أن تحولهم الشهوة إلى وحوش بهيئة بشر. عندها قل على الدنيا السلام. سوف يتصارع أصحاب الشهوات حدّ الفناء.
وهكذا سنفنى معاً... البشر... حلمي وأنا.

إذن الألم...
قال جلال الدين الرومي: هذه الآلام التي تشعر بها هي رُسل، فاستمع إليها. وأيضاً قال: داوم على كَسرِ قلبك حتى تفتحه.
(انتهت أقوال الرومي)
الفرح لا يعلمنا إلا السعادة. أما الألم فيعلمنا كل شيء.
فالألم يعلمنا ماهية الوجود وكيف نحيا، ولما نحيا؟... الألم هو الأمل بأن غداً أجمل... أصفى... أكثر وهجاً وجدوى.
الألم… عقابٌ للظالم وامتحانٌ للمؤمن… تطهيرٌ للعاصي وصقلٌ للأرواح الخيِّرة من أدران الفساد وشوائب الشر.
أن أكون الألم... فسوف أقضي على النفوس الضعيفة، التي لا تجيد المقاومة من أجل الصمود... لا تجيد الثورة مِن أجل التغيير.
أن أكون الألم فسوف أعلِّمُ الظالم كيف يكون وجع الظلم. سوف أعيد العاصي إلى جادة الصواب، وسوف أصقل أرواح الأنقياء الذين حاولوا تمويه بياضهم هرباً مِن الاضطهاد.
أجل… سوف أختار أن أكون الألم... كي يكون الأمل.



Images rights are reserved to their owners


قبلة في الملجأ


في العام 1984، كانت الحرب الأهلية في لبنان، وتحديداً زمن
ما يُعرف بـ "انتفاضة 6 شباط"، في أوجها. الصواريخ تتساقط على منطقة "بيروت الغربية" ومنطقة الجبل كحباتِ المطر. يومها، كانت لولو في عامها الخامس عشر، طفلة بدأت مراهقتها وتفتَّح وعيها في الحرب، فعرفت أول ما عرفت، كأبناء جيلها، صوت المدافع ومآسي الحروب. كعادة الكثير من اللبنانيين، خلال الحرب الأهلية، استمر والديّ لولو في التنقل بالعائلة من منطقة إلى أخرى، هربًا من ويلات الحرب، وطلبًا للأمان.

في نفس العام، وأثناء جولة عنيفة من الحرب، كانت لولو مع عائلتها قد استقر بهم الحال في منطقة بيروتية بعيدة عن خطوط التماس التي كانت تفصل بين ما كان يسمى وقتها "الغربية والشرقية"، خال الأهل يومها أنها ستكون أكثر أماناً من خطوط التماس؛ لكن ما حدث عكس المتوقع، اشتعلت بيروت بشقيها بالصواريخ، والقتال على أشدِّه.
لاذ سكان المنطقة إلى ملجأ يقع في بناء كبير في الحي، ولولو مع عائلتها كانت معهم. ملجأ عامر بأناس جمعت بينهم ويلات الحرب، وجمع الخوف قلوبهم على التعاطف والمودة والتكاتف، على أمل أن ينجو الجميع من هذا البلاء.
كانت لولو تجلس في زاوية وحيدة، تقرأ قصصاً خيالية، تلهي عقلها المشوش عن التفكير بالخوف الذي يحاصرها منذ أن وعت الحياة. 
اقتربت منها فتاة تكبرها بالسن قليلاً، سلمت عليها وتعارفتا، ثم دعتها الفتاة لتشاركهم أصدقاءها لعبة "القنينة"... لعبة يجلس فيها الفتيات والفتية بشكل دائري واضعين في منتصف الدائرة قارورة زجاجية، يفتلها أحدهم، فمن اتجهت شفتها نحوه وجّه أمرًا ينفذه من اتجه كعبها ناحيته.
كانت لعبة مسلية لهؤلاء المراهقين، أحبتهم لولو رغم أنهم يكبرونها ببضعة سنوات. ضحكوا كثيرًا وعلا صخبهم لدرجة استدعت أحياناً تدخل الكبار ليخفضوا أصواتهم.
أشارت الزجاجة هذه المرة إلى فتاة لتأمر فتى- للأسف أن لولو لم تعد تذكر الأسماء- فتلقّى الفتى أمراً من رفيقته بأن يقبِّل فتاة تعجبه يختارها. تفاجأت لولو باقترابه منها طابعاً قبلة رقيقة على خدها، كانت تجربتها الأولى مع القبلة.
احمرت وجنتاها وهي تبتسم، بينما الرفاق يضحكون ويصفقون. بينما همس هو لها شيئاً لم تسمعه، ووجنتيه محمرتين، وفي عينيه بريق غرورٍ وخجل... وانتصار، وهو ينظر إلى رفاقه.






Images rights are reserved to their owners