الإنترنت... والانقطاع العالمي


حالة من الهستيريا الجماعية تسود العالم منذ أسبوع، والسبب
انقطاع عالمي غامض في الإنترنت.
والخبراء يحتلون الشاشات، في محاولة لتحليل أسباب هذا العطل الغامض. حتى أن آخرهم قد توصل إلى نظرية مرعبة، وهي أن الكائنات الفضائية قد عطلت الإنترنت، بهدف مهاجمة الكوكب.
هذا كان السيناريو الذي أقضَّ مضجع الحكام، وكل الشعوب المصابة بإدمان الأجهزة الذكية.
بطبيعة الحال... فان منزلي لم يخلو من هؤلاء المرعوبين، لكن رعبهم وجنونهم قد انحصر في انقطاع الإنترنت، أما ما عداه "فنكتة هبلة" هكذا صرَّحت ابنتي رنيم. تلميذة البكالوريا، التي كان انقطاعها عن السوشيال ميديا "أعظم مصيبة تعرضت لها في حياتها"!... كنا أنا ووالدها نضحك من هذه المقولة فتستاء وتكاد أن تبكي، يضمها يوسف والدها ويقول وهو يقبِّل رأسها "جعلها الله يا حبيبتي أكبر المصائب، ما زلتِ صغيرة وسوف تكتشفين مع الأيام أن لكل شيء في هذه الحياة بدائل نافعة".
أمر لم تفهمه يومها، أما التوأم "ريان وريا" تلميذا صف السادس، فلم يفهما من هذا الانقطاع إلا حرمانهما من ألعابهما الإلكترونية، الأمر الذي زاد من "شيطناتهما" ومشاجراتهما التي لا تنتهي!... بالنسبة لي الرعب كان إدمان أولادي على الإنترنت!
كنتُ أحاول جاهدة، أن أشرك أولادي في نشاطاتٍ تنسيهم هذا الانقطاع، طبعاً أمر أتعب أعصابي كثيراً، إذ يبدو أن الإدمان قد تغلغل في شرايينهم. لكن يوسف بالطبع لم يقف مكتوف الأيدي، بل وضع أمامي وساعدني وساندني في رحلة علاجهم من هذا الإدمان.
زمنٌ طويلٌ مرَّ على هذا الانقطاع، السيد "وايفاي" مطفأ والأولاد يزورونه مئات المرات يومياً بانتظار أن تعود الأنوار إلى أزراره.
كنا يوسف وأنا كجميع الناس، الإنترنت يشكل جزءً مهماً من أعمالنا، فيوسف طبيب مختص في العلوم المخبرية، ويدير مختبره الخاص، أما أنا فطبيبة نفسانية أتواصل أحياناً مع مرضاي عبر الواتساب والزوم. لكننا في المقابل من الأجيال التي عاشت جُلَّ عمرها من دون انترنت، لذا فالهواتف الذكية لم تصبح بالنسبة لنا هوساً، بل إننا اعتبرناها فرصة لمعاودة نشاطاتٍ أهملناها كثيراً.
أول ما فعلته أن سمحتُ لمرضاي بالاتصال بي عبر الهاتف مباشرة. فبعضهم مثل أولادي، زادت كآبتهم بسبب هذا الحرمان من التواصل الإلكتروني. كما وضعتُ كل جهودي لإخراج أبنائي من حالة الجنون التي أصابتهم. وبعد محادثاتٍ حادة من جهتهم وهدوء وتفهم واستيعاب من جهتنا والدهم وأنا، قبلوا أن يعتبروا الأمر تجربة ليعرفوا كيف كان شكل حياتنا الماضية قبل الانترنت.
طبعاً هم كانوا يراهنون على برهنة أن الحياة من دون انترنت مستحيلة، لكنني كنتُ لهم بالمرصاد.
أول ما علمتهم إياه، هو أن الهاتف يمكنه أن يعمل من دون انترنت! "أطلب الرقم المطلوب وتكلم"... بداية رفضوا!. لكنني أقنعتهم بأن سماع صوت من نحب أهم مِن مراسلته.
كنتُ أتصل بأخوتي والعائلة والأصدقاء أمامهم، وأثرثر مع الجميع. فاقتنعوا وأصبحوا يتصلون برفاقهم. كما شرحتُ لهم الفرق بين أن تكتب رسالة على الورق، وأن تكتب كلام "فارغ" على الواتساب، فأصبحنا كل يومٍ نختار شخصاً لنكتب له، كلٌ منا على طريقته. وهكذا علمتهم كيف تكون كتابة الرسائل.
عدنا لنمارس رياضة المشي في الطبيعة. أصبحنا نقرأ الكتب الورقية المركونة على رفوف المكتبة. ابنتي الرقيقة شغفت بقراءة الروايات. أما الصبي ريان فأحب قصص الألغاز والبنت ريا أحبت قصص أميرات ديزني، وزدتُ على القراءة لعبة "البازل" فابتعنا خمس لوحاتٍ منها، نجتمع لنلعبها كمباراةٍ، يربح مَن ينهيها أولاً، والهدية أن ننفذ طلباته طوال اليوم التالي.
نقلتُ إلى ابنتي عادة الجلوس صباحاً وراء النافذة، لنراقب السماء بينما نحتسي قهوة الصباح على مهل، ونثرثر كأمٍ وابنتها، أخبرتها عن قصة حبنا والدها وأنا، فأخبرتني عن علاقتها الحديثة بزميلها في الصف. لم ارتعب من صراحتها كما تفعل كثير من الأمهات، بل شجعتها على مصارحتي بكل شيء، وشرحتُ لها أن الحب إحساس جميل جداً، شرط أن نصونه ونصون أنفسنا مِن الهلاك بسببه.
أما التوأم في هذا الوقت، فقد كانا يخوضان مباراة "باسكت بول" مع والدهما في فناء العمارة، يرافقهم أولاد الجيران وآباءهم أحياناً.
أخبرتُ رنيم عن طبيعة عملي، فصارحتني أنها تود دراسة "علم التغذية"، عكس ما يريد والدها، فهو يحاول إقناعها بدراسة الطب. فوعدتها بأن أبذل قصارى جهدي من أجل تحقيق إرادتها.
رافقتني يوماً إلى العيادة، ولا داعي لأخبركم، عدد الأشخاص الذين التقت بهم وهم يعانون مثلها من انقطاع الانترنت، لدرجة أن بعضهم قد تأزمت حالة اكتئابه. وشرحوا لها كيف تجاوزوا الأمر بفضل توجيهاتي ونصائحي.
كما تكلمتْ مع أشخاص كبار أمثالي، فعرفتْ كيف أننا في هذا العمر نعرف أن نعيش من دون الأجهزة الذكية، ونعرف أيضاً أن نجد بدائل لكل عائق يواجهنا. ومن محاسن الصدف أنها عقدت صداقة مع فتاة تقاربها في العمر، تعاني من الاكتئاب.
كما إنها رافقت والدها إلى المختبر، وتعرفت إلى طبيعة عمله. لكنها لم تغير رأيها بالنسبة لدراسة "علم التغذية"، فوافق والدها شرط أن تنال الدكتوراه في هذا التخصص فوافقت، وحلت المشكلة بينهما.
أما التوأم فقد تعلما أن يعملا معاً لمزيد من النجاح، وذلك في كثيرٍ من الأمور، مثل أن يلعبا كفريقٍ في الباسكت بول، وأن يتعاونا معاً على لعبة "بازل" ليهزما مَن يلاعبهما. وأهم ما تعلماه، هو أن يستخدما الألعاب بدل الآيباد.
علمتُ أولادي أن العائلة هي الأهم، وأن التعاون الأسري يمكنه أن يحل أعظم مشكلة. أن المحبة أعظم شعور بشري يربط بين الإنسان وأخيه الإنسان.
علمتهم أساسيات الطبخ، فبدأت الفتاتان تحضران اللازانيا والصبي يساعدهما في حمل القدور، وترتيب الطاولة.
أما أهم ما حصل، فهو الصداقة المتينة التي استطعتُ أن اعقدها معهم.
وقد أقنعتُ يوسف أن نتعرف هو وأنا إلى صديق رنيم في المدرسة، فطلبنا منها دعوته إلى المنزل، رغم الخوف من كورونا. فكانت هذه نقلة نوعية في علاقتنا بها. أصبحت تثق بنا، تستشيرنا في شؤونها كلها، والأهم أصبحت تعرف تماماً أننا ملجأها الوحيد في هذه الحياة.
لقد استطعتُ أن أسيطر على أولادي لأنقل لهم بعض الخبرات والتجارب التي يمكن أن نقابلها خارج هواتفنا الذكية، والأهم علمتهم أن يحلوا مشاكلهم بالحوار وأن يبحثوا على إجابات لأسئلتهم في الموسوعات العلمية، لا عبر الانترنت المليء بالأخبار الكاذبة والمعلومات المغلوطة.
فشكراً لانقطاع الانترنت.
 



Images rights are reserved to their owners