فرح العطاء

كنتُ في الثامنة عشر من عمري يوم أصبتُ إصابة بالغة، خلفتني على كرسي متحرك.
سنين ثلاث أمضيتها أتعالج من الاكتئاب... وعائلتي لم تألو جهداً لإنقاذي من بين براثن أحزاني.
ذات يومٍ ربيعي مشمس، أقنعني والدي أن أرافقه إلى الحديقة العامة، لعل هواء الربيع المنعش أن يغير مزاجي... فوافقت فقط لأن لا قوة لي على الرفض، كنتُ أكثر اكتئاباً من أن أرفض.
وهكذا بدأتُ اعتاد الجلوس في الحديقة العامة أمام السور المواجه للشارع العام، وكنتُ دائماً احمل معي كتاباً أهرب اليه من نظرات الشفقة في عيون المارة.
ونصحني طبيبي النفسي أن أبقى يوماً في الحديقة وحدي، مِن دون والدي... وهكذا كان...

مرت من أمامي فتاة قد تكون ذات خمسة عشر او ستة عشر عاماً، في وجهها براءة طفل، وعلى شفتيها ابتسامة مشعة.
مرت أمامي، تحمل حقيبة كتبها وترتدي ملابس المدرسة، ابتسمت لي ببراءة واكملت طريقها، لكنني يومها كنتُ سوداوياً لدرجة أن ابتسامتها البريئة استفزتني واستنفرت اعصابي... "فما لها ولي كي تبتسم في وجهي؟"
"لعلها بلهاء ثملةً بصباها، أو لعلها تشفق عليَّ هذه الطفلة الساذجة".
كانت تصرُّ على ابتسامتها كلما مرت من أمام سور الحديقة حيث أجلس. وأنا أصرّ على العبوس في وجهها.
ذات يوم مرت كالمعتاد وابتسمت لي. اغتظت... فوقع كتابي من يدي أمامها في الشارع، انحنت والتقطته... ناولتني الكتاب وابتسامتها الساحرة ما زالت على وجهها.
في اليوم التالي وقفت قبالتي وهي تبتسم وقالت: مرحباً...
خجلتُ من نفسي جداً فأجبتُ بتمتمة: مرحبا.
قالت وهي تُخرج كتاباً من حقيبتها: لاحظتُ البارحة انك تقرأ كتاباً لجبران، فأردتُ أن أهديكَ كتاباً له، مقرر علينا في المدرسة.
ارتبكت ولم أعرف ما أقول... فتابعت وهي تمد لي الكتاب: أرجوك خذه ولا تخجل، فالكتاب جميل جداً وفي مكتبتي منه نسختين.
كان كتاب "النبي" لجبران خليل جبران، وكتابي كان قصة "الأجنحة المتكسرة"، ولم أكن قد قرأتُها بعد.
بأناملها الطرية، وحبرها الأحمر كتبتْ "تلميذة المدرسة" على كتاب النبي هذا الإهداء...
"يا صديقي... الحياة أمٌ مصابةٌ بمرضٍ عضال. سياستها في تربيتنا هي القساوة والشدة، لأنها تريدنا أن نتعلم العيش مِن دونها".
أذهلني كلامها!... قرأتُ الكتابين في ليلة واحدة، ولم أنم إلا وأنا متخذٌ القرار.
جولة أخرى من جولات الحرب منعتني من زيارة الحديقة العامة لفترة، فقدتُ بعدها أثر فتاة "الابتسامة الدافئة"،هكذا أسميتها بعد أن عرفتُ أهميتها في حياتي.

سنواتٌ عشر مرّت على إهدائها لي كتاب جبران.
عدتُ خلالها لإكمال دراستي الجامعية. تخصصتُ في الطب النفسي في بريطانيا.
حين عدتُ إلى لبنان افتتحتُ مركزاً خاصاً لمساعدة الجرحى والناجين من الحرب إلى جانب عيادتي.


كنت يوماً أجلس على كرسيِّ المتحرك في حديقة المركز، انتظر موعداً مع أخصائية نفسية متطوعة للعمل معنا... سمعتُ من ورائي مساعدي يوسف وهو يقول: دكتورنا... لقد حضرت الدكتورة...
نظرتُ اليها!... يا إلهي انها هي...
ابتسمت ابتسامتها المشرقة وقالت: الدنيا صغيرة فعلاً...
ابتسمتُ بدوري وأنا أمد لها يدي بالسلام وقلت:
أنا جهاد...
صافحتني وعلى وجهها شمسٌ مشرقة، وأجابت: وأنا...

إلى مَن زرعتْ في قلبي وردة بيضاء وفي دربي سبيل فرح... أفاض الله عليكِ محبته، وأنعم عليكِ دائماً بفرح العطاء.




Images rights are reserved to their owners