لماذا نكتب؟


أكتبُ كي أَفهَمُني...
فقبيلة نساءٍ تسكنني، أجهل لغتها.
أكتبُ نساءها نصاً بعد نص، لعلني/لعلنا نتعارف ذات سرد.

أكتبُ كي أُرَمِمني...
أنا المنذورة للقضايا الكبرى، منذ أن عاصرتُ حرباً ووطن جريح وألفُ ألفُ حزن.

أكتب...
لأنني سجينة زمنٍ مجنون، أهداني أقداراً لا تتحقق، وقطاراتٍ متوقفة منذ ألف عامٍ، وطائراتٍ لا وجهة لها.

أكتبُ...
لأنني حزينة كمقطوعةٍ موسيقية تُعزَفُ في سهرة للصم!
كوردةٍ لم تصل... كرسالةٍ لم تُفتح... كحذاء طفلٍ ظهر بين الركام. كطفلة مرسومة بالطبشور على الجدار، أمطرت عليها السماءُ، فذاب فستانها الزهري، وظلل أعيادها عتم اليتم.

أكتبُ...
لأن الأبجدية صراخي، ودموع محبرتي تسقي المسافاتُ حين يتسع الغياب.

أكتبُ...
لعلني أراوغ ألغام الحنين، وأقيم من شظايا أحلامي أحجار عثرة أضعها في طريق العمر الهارب.

أكتبُ...
لأن لا شيء فيَّ مكتملٌ إلا أحزاني. في رأسي براكينَ غضب وصداع.

أكتبُ...
لأنني نبوءات العرافات وأنين الخائفين.
في ذاكرتي قمرٌ ذبيحٌ وشمسٌ غاربة وألف نجمة منطفئة... وبـردٌ ودهور حزن.

أكتبُ!!!...
أنا لا أكتب... بل أنزف حبر دمائي على أبيض الورق.



 

Images rights are reserved to their owners

سقراط والتنورة المقلوبة


تعرفتُ إلى سهيل في المدرسة الثانوية. كان يلقي علينا محاضرات في العِلم والمعرفة، ويرفض أن نفصل العلوم عن الفلسفة والأدب، فكلها عِلم... وكلها هامة لبناء الإنسان وكيانه الوجودي.

فلسفته سقراطية بامتياز وهي: "البحث عن الحقيقة في ذات الإنسان وليس في العالم الخارجي، فما على الإنسان إلا أن يتأمَّل ذاته ليدركَ الحقيقة".
كنا نلقبّه ب "سقراط (نا)".


عام 1989 وضعت الحرب الأهلية أوزارها، تزامن ذلكَ مع دخولنا إلى الجامعات.
سهيل وأنا اخترنا دراسة الفلسفة وعِلم النفس.
عندما سألته عن اختياره رغم تفوقه في المواد العلمية أجاب وهو يبتسم: العلوم انبثقت من بطن الفلسفة، فلما أدرس وليد بطنها ما دمتُ أستطيع أن أقارعها هي عينها؟


خمسة عشر عاماً طلاب عِلم، حققنا فيها أربع شهادات.
دكتوراه في الفلسفة لسهيل، وماجستير في العلوم.
دكتوراه في الفلسفة وماجستير في علم النفس لي.


سألتني أمي يوماً: متى ستتزوجان سهيل وأنتِ؟
أجبتُ: أريحي عقلكِ أمي ولا تفكري بالموضوع، فكلانا قد تجاوز الأربعين من عمره، لم نعد في نزق الطيش لنقدم على هذا "الهبل".
تركتها مصعوقة من الصدمة، وأنا أردد: زواج؟... هه... زواج؟...


وصلنا إلى زمن الأجهزة الذكية، عدوة سقراط (نا) الأولى.
كان مستاءً من تعلّق الشباب بهواتفهم، ويفقد صوابه أمام المهازل التي يقترفها جيل "التيك توك".

 هو وأنا كتبنا، عشرات المقالات التي تحذر من خطر السوشيال ميديا على الشباب اليافع، وعلى أخلاقيات المجتمع ومفهوم العائلة.
لكنه كان حاداً في النَقَد. نَقَد... ونَقَد... ونَقَد... لم يترك مجالاً في البلد، إلا ووضعه تحت مبضع التشريح والنقد. الطائفية... الانقسامات... العنصرية... الطبقية... عبادة الدكتاتور... غلاء المعيشة... التلاعب بالدولار... العمالة للخارج... قتل الجامعة الوطنية... خنق المدرسة الحكومية... المثلية الجنسية... عمليات التجميل... الفاشينيستا... تدهور الفن والأدب... القضاء على مفهوم الأسرة... ارتفاع نسب الطلاق...

وهكذا أصبح سقراط (نا)، زائراً دائماً للنيابة العامة، لكثرة ما تم استدعاؤه بسبب لهجته التي لم تعجب فلان أو لم ترُق لعلان.
كان يبرر لهجته الحادة بأنه يجب أن نستخدم غضبنا بشكل بنَّاء من أجل إحداث تغيير للأفضل في المجتمع.

شاع اسمه كثائرٍ مُعارض في جميع أنحاء البلد، اتَّبعه الغاوون أمثالي، لكننا كنا أقلية في وجه موجة عارمة "تسونامي" تجهيل واستحمار.


أخبرني يوماً أنه مدعو ليكون ضيفاً في برنامج محلي، وقال باستياء: إنهم يدعونني لأواجه امرأة يقولون أنها... مو... موسر...
أنقذته وقلت: مؤثرة.
لمعت عيناه وقال: هذه هي الكلمة... مؤثرة... هه... وهل لأمثالها من البُلهاء إلا أفظع تأثير على المجتمع.
حاولتُ أن أخفف عنه فمازحته قائلة: عندنا في القرية مقولة شائعة هي "لبس التنورية على المقلوب"*... سقراط... ارتدِ لهم التنورية بالمقلوب.
ضحكنا معاً إلى أن كرت دموعنا.


وصل سهيل/سقراط (نا) الثائر إلى مبنى التلفزيون وقد ارتدى "تنورة مقلوبة"... ضج موقع التصوير بالضحك... واعتقد الجمهور أن في الأمر نكتة.
سأله المذيع بدهشة: أستاذ سهيل هلا أخبرتنا لماذا ترتدي هذه الملابس. فأخبرهم قصة "التنورية".

وبعد أن خفت الضحك في استديو التصوير، تنحنح سقراط (نا) ووضع رجلاً فوق أخرى وقال: لبستُ "التنورية بالمقلوب" كي أعلم رجال السياسة كيف يكونون رجالاً.
ضحك الجمهور وقال المذيع: أستاذ سهيل... نريد أن نعود إلى منازلنا.
فأجاب سقراط (نا): لا يمكن أن تتحقق العدالة الحقيقية إلا عندما يتم تثقيف مَن هم في السلطة حول ما تنطوي عليه وكيف ينبغي أن يتصرفوا تجاه مواطنيهم.




*التنورية= تنورة نسائية
على المقلوب= قلب جهة الداخل للخارج.
وهو قول عامي يقال في قريتي الجنوبية، لمن غضب وثارت ثائرته.

يُذكر أن "ارتداء التنورة رأساً على عقب" مقولة نشأت في الولايات المتحدة خلال الخمسينيات من القرن الماضي، ومنذ ذلك الحين أصبحت شائعة بين الشباب. استُخدِمت للتعبير عن الغضب والإحباط، دون اللجوء إلى العنف الجسدي أو العدوان.

 



 Images rights

1- Anime

2-  ryaninzana- Book Review of Plato- The Wall Street Journal