غريبتين وليل

   
غريبتين وليل حالك... ونجومٌ ضوؤها خافتٌ  تكاد أن لا تُرى بالعين المجردة، وفي المدى تتلألأ أنوار منازل يحوي كل منها حكاية ما... يحوي سرّ ما.

 غريبتين وبرد... والحافلة تتوغل في عتم الشتاء، وريحٌ تغافل النوافذ ليتسلل صقيعها إلى الأوجه كصفعةٍ جليدية تبث قشعريرة في الأجساد المنهكة بعد يوم عملٍ كامل، ليتكلل في نهايته برحلة شاقة من صخب المدينة إلى صمت الجبال، خلال موسم يطول أكثر مما يحتمل صبر إنسانٍ يحب دفء الشمس وصخب الحياة.

غريبتين وشتاء في موسم هجرة الطيور من صقيع الأعالي إلى دفء السواحل... وحافلة تحاول أن تقطع طريق الثلج لتصل الى بيوتٍ تحوي أسراراً، يعمل كل منا جاهداً كي لا  تتسرب من النوافذ، لأجل أن لا تخبر عنا آلاماً وأوجاعاً ونقاط ضعفٍ... وربما جنون.

غريبتين في حافلة... ومقعدٍ صغيرٍ يحويهما معاً، وقربٌ جسدي لا يوحِّد الأرواح الهائمة فوق الذكريات والحكايات.

نوال غارقة في حزنها، والهاتف يكاد أن يلتصق بأذنها لطول المكالمة، وقصة فراق عاشقين يروي الزمن تفاصيلها عبر هاتف طويل في حافلة وليل مثلج.

غريبتين وليل وحافلة... ونوال تقسم له عبر الهاتف أنها سوف تعيد له كل هداياه، وتستعطفه أن ينتظر إلى أن يأتي ليخبرا أهلها بفك وثاق الخطوبة، فالهدايا كثيرة ولا تستطيع هي أن تحملها وحدها.

غريبتين وبرد وليل... وهاتف لم تستطع نهى أن تتجنب سماعه، لشدة قربها من الغريبة الغارقة في أسودها... والهاتف.

غريبتين وليلٌ شتوي... والذكرى المؤلمة تنهمر على نهى... ذكرى حبيبٍ رحل دونما عُذر أو اعتذار.

غريبتين وليل حالك... ونهى تتعاطف مع هذه العاشقة التي تعيش الآن أقسى وأصعب آلام روحها... تتعاطف مع عاشقة تمسك الهاتف بيد، وتمسح دموعها باليد الثانية.

غريبتين وشتاء وبرد قارص في ليل حالك... ونهى لا تعلم أن الغريبة الغارقة في حزنها وهاتفها... هي نفسها غريمتها، التي تركها حبيبها لأجل أن يرتبط بها!




Image rights are reserved to the owner

عائد من الماضي


للحظاتٍ لم تستوعب ما تراه... أهو حقاً أمامها؟ أم أنه خيالها الجامح؟... الذي لطالما أحضر لها طيفه، منذ أن قرر أن طعنها تلك الطعنة الموجعة، التي ما اندملت آثارها بعد.
وقفا ينظران الى بعضهما بصمت، كمن يحاول أن يستوعب ما يراه أمامه، أو كمن يحاول استعادة رباطة جأشه وإخفاء صدمة أو مفاجأة لم يكن يتوقعها.
ابتسم بتردد وقال: مرحبا.
أجابت بصوت متحشرج: أهلاً...
فبادرها بقول: كيف حالك؟
أرادت أن تقول " تقصد كيف حالي بعد طعنتك؟".
لكنها اكتفت بأن قالت: الحمد لله.
ما أجملها من كلمة فضفاضة، تسمح بالإجابة عن السؤال، لكنها تبقي الإجابة الحقيقية مفتوحة على كل الإحتمالات.
ساد الصمت... انتبهت من ذهولها وقالت محاولة أن تكمل طريقها: عفواً...
أمسك ذراعها مانعاً إياها من المسير وقال: دقيقة لو سمحت.
أبعدت يده عن ذراعها... ونظرت إليه.
قال بخجل وتردد: علمتُ البارحة... أنكِ... ما زلتِ... عزباء.
لم تجب... فأكمل: كنت أعتقد... انكِ تزوجتِ...عماد...
للحظات لم تذكر مَن يقصد، لكنها سرعان ما استوعبت إنه يقصد عماد جارهم البعيد، الذي لم تستطع يوماً أن تميز بينه وبين أيٍ من أشقائه.
فأجابت متسائلة: ولما أتزوج من شخص لا أعرفه؟
ارتبك أكثر وأجاب: هكذا قيل لي وقتها.
قالت باستغراب: وقتها؟!...
قال بسرعة قبل أن يفقد شجاعته: أرجوك ريم...أعطني فرصة أن أوضح لكِ الكثير من الأمور...
قالت بجرأة بالغة لتزيد من إرباكه: عن أي أمور تتحدث؟
نظر إلى الأرض وأجاب: يبدو أن كل ما جرى كان سببه سوء فهم.
أرادت أن تصرخ في وجهه "وهل تعتقد أن السنوات السبع من العذاب التي قضيتها بسببك كانت مجرد سوء فهم؟".
لكنها اكتفت بالقول: لا أعتقد أن بيننا أي أمور تستحق الإيضاح.
ابتعدت مسرعة تاركة إياه وسط ذهوله، راقبها وقد رافقتها روحه، وأخذت ضربات قلبه تعنف "أيعقل يا الهي أنني فقدتها كل هذه السنوات، لأجل... لا شيء!".

جالست صديقاتها بعض الوقت، ثم استأذنت للمغادرة بحجة موعد ضروري.
لكن موعدها لم يكن سوى مع الألم، ألم جرحٍ نازفٍ منذ أن غادر دون وداع... منذ أن رحل ذات خريف دون أن يلتفت وراءه، تاركاً لها نزيفاً في الروح.
وضعت نفسها في أول سيارة أجرة صادفتها، نطقت باسم أول منطقة خطرت لها... البحر.

هناك ستخبر الأمواج عما فعله بها...
فجأة انتبهت أن في منزل جارتهم الأرملة العجوز، شابٌ يترصد حركاتها وتحركاتها. لكنها لم تعر ذلك أي اهتمام، بعد أن عرفت انه ابن العجوز العائد من السفر.
مرّ عام وهو على حاله هذه، وقد أصبح واضحاً لها ولوالدتها التي تراقبه من بعيد، أنه يرصد تحركاتها ويلاحقها.
صدفةٍ قربت المسافات بينهما. فقررت أ، تفتح له بابها الموصد في وجه كل العشاق.
كانت تنتظر منه اعترافاً يخرجهما من لعبة القط والفأر التي يلعبانها معا، والتي بدأت تصبح غير بهما، هما الناضجين خريجَي الجامعات. فاللف والدوران حول أي موضوع هو من شيم المراهقين، وهما تجاوزا هذه المرحلة منذ زمن.
وفجأة اختفى من أمام أنظارها، لم تعد تراه واقفاً في النافذة أو في الشرفة، ولم يعد يلحق بها حين تمر أمام منزله.
لم يقلقها الأمر بدايةً، فقد بدا لها تصرفاً طبيعياً بالنسبة لما طرأ على علاقتهما، فقد أصبح بإمكانه أن يكلمها في أي مكان وأي وقت، لا بل أصبح بإمكانه أن يطرق بابها ليزورها كما يفعل الجيران... وبذلك اعتبرته دليل قرار منه بأنه حان الوقت ليتصرفا كراشدين يملكان زمام أمورهما، وترك أفعال المراهقين هذه. وانتظرت مبادرته...
لكن!... ما أكثر الجارات الثرثارات، وما أكثر تفاهاتهن، لكنهن، وأحياناً دون قصد، ينقلن لنا الخبر الذي نحتاج معرفته الأكثر. فقد ذكرت الجارة موضوع عقد خطوبته على........
دام سفره سبع سنوات، وأثمر زواجه طفلين... ولم تره أبداً طوال هذه السنوات. كانت تعتقد أن الجرح قد التأم وأنه لم يعد في قلبها سوى ذكرى إنسان حاول أن يدخل حياتها، لكنه تحوّل إلى جهة أخرى.
الموجع في الأمر أن رؤيته مجدداً قد أضرمت النار التي كانت تتظاهر بأنها خمدت.
والآن يريد أن يوضح... سوء الفهم!... عذابها هي سوء فهم؟!. لن تسامحه أبداً. ولن تستمع اليه... فليرحل أو يبقى... لن تهتم له ولن تكترث لما يمكن أن يقول.

صباح اليوم التالي أرسل لها من يخبرها أنه سوف يزورها بعد ساعة لأنه يريدها بأمر هام. خطر لها أن تغادر المنزل، كي لا تترك له فرصة أن يعكر صفوها أكثر مما فعل البارحة. لكنها لا بد أن تمر أمام منزله إن غادرت، ووقتها قد يصرّ على أن يستوقفها في الطريق.
وهي في خضم حيرتها حضر... وهو ينتظرها في الصالون.
تمنى لو أنه يستطيع أن يحضنها، لكنه لم يجرؤ حتى على مد يده للمسها.
اكتفى بأن قال: شكراً لأنكِ استقبلتني.
قالت بتحدٍ: لم تترك لي خيار.
فعلم أن مهمته لن تكون سهلة أبداً.
أخبرها بداية أنه عاد الى الوطن، لأن زواجه قد فشل، وأنه حصل طلاقه منذ أسبوع. نظر في وجهها فلم يرى تعبيراً، كان الصمت يلفها وكفى. تابع أنه أعطى حق حضانة الأطفال لأمهم....
لم تعلق على أي كلمة مما قاله، فقرر أن يدخل في صلب الموضوع الذي حضر لأجله... ما الذي جرى منذ سبع سنوات، ولما قرر الرحيل فجأة.
أخبرها أنه منذ عشر سنوات حين أنهى دراسته في الخارج، وعاد الى الوطن يحمل شهادة في الطب، لم يكن ينوي مغادرة البلاد مجدداً أبداً، وأنه أسس عيادته لأجل أن يستقر في الوطن. ثم رآها. هي لم تفطن لوجوده بداية، إلا أنه أحبها وحلم بيوم تعي فيه مشاعره وتبادله غرامه، ليصبح أسعد رجال الأرض.
وهو يتهيء لإبلاغها بمشاعره، أخبرته الجارة الثرثارة بأنها ستتزوج من عماد... ولم يحتمل فكرة أن يرى حبيبته تتزوج من آخر... وتتخلى عنه بهذه البساطة. لذلك قرر أن يثبت لها أنه غير آبه لها... فتزوج بسرعة، وسافر الى حيث لا يراها ولا يسمع أخبارها... لكن زواجه فشل لأنه لم يحب هذه الزوجة أبداً، ولأنه لم ينساها هي أبداً.
أنهى كلامه أنه فوجئ عندما عرف بأنها لم تتزوج عماد، كما سبق وأخبروه.
قالت بصوت أشبه بالهمس: إذن تزوجت لأنك اعتقدت أنني سأتزوج من آخر؟
أومأ برأسه إيجاباً.
ارتفعت نبرة صوتها قليلاً وقالت: صدقتَ ثرثرة امرأة جاهلة... دون أن تسألني؟
قال خائباً: هذا ما جرى بالتفصيل.
فسألته بحدة: ولما أتيت الآن؟
أطرق وأجاب: قلت لك... لقد طلقتُ زوجتي.
فأعادت القول: أنا أسألك لما أتيتَ إليَّ الآن؟
فأجاب بسرعة قبل أن يفقد شجاعته: لأقول لك ما لم أجرؤ على قوله سابقاً... أنا أحبك... ولم أنساكِ يوماً.
أشارت له إلى الباب وقالت: ارحل... ارحل ولا تعد إلى هنا.
كاد يختنق وهو يقول: أرجوك ريم... أنا لم أستطع العيش من دونك.
فصرخت به: أنتَ عشتَ من دوني سبع سنوات... وأنجبت طفلين... والآن لم تعد لأجلي، بل عدتَ لأن زواجك قد فشل. ولو لم يفشل زواجك لما عدت أبداً. تخليتَ عني بسبب إشاعة، ولم تعد لأجلي، بل عدتَ لأن زواجك قد فشل.

زارتها شقيقته فجر يومٍ قارص البرودة. وأخبرتها أنه تعرض لحادث سيارة خطير وهو الآن يحتضر، ورجتها أن ترافقها لتراه.
همست له من خلال دموعها: أرجوك لا ترحل مجدداً وتتركني وحدي.
فتح عينيه وهمس: إن لم تكوني حلماً فسوف أعيش.
وعقدا خطوبتهما...

أثناء التحضيرات لزفافهما، خبرٌ مهول هزَّ الناس جميعاً! شابٌ يدَّعي بأنه يقيم مع ريم علاقة غرامية، ألزمته بإنهائها كي تتزوج من الطبيب الذي يفوقه جاهاً ومالاً.
فسخ عقد قرانهما، دون أن يترك لها مجالاً كي تثبت برائتها. وبدأ بحزم حقائبه.

تقدمت بشكوى بحق الشاب بتهمة تشويه السمعة والافتراء...
النتيجة كانت مذهلة! لقد أثبتت التحقيقات أن الشاب قد تقاضى خمسة آلاف دولار لتشويه سمعتها... والمحرِّض إحدى العائلات الحاقدة التي رفض هو، كما فعل شقيقه قبله، أن يرتبط بإحدى  فتياتها!... وهكذا دفعت هي الثمن مرتين.

عاد من سفره ذات فجر... ورفض أن يدخل إلى منزله قبل أن يراها، فطرق بابها بإصرار.
منعته من الدخول وقالت: بإمكانك أن تموت هذه المرة دون أن تنتظرني... فأنا لن أسامحك... ولن أعود اليك.
أغلقت الباب بهدوء خلفه... وعادت الى سريرها لتكمل نوماً هنيئاً، لن تسمح بعد الآن لأحدٍ أن يقطعه.

 

 

  

 Images rights are reserved to their owners

 
























  



المعجب الأوحد

فضَّل الله سبحانه عليّ، فمنحني حضوراً لافتاً، هكذا أخبرني أستاذي في معهد التمثيل. مما جعلني محط اهتمام أساتذتي.
تخرجتُ في معهد التمثيل شبه محترفة، فقد رشحني بعض من أساتذتي من لأداء أدوار في أعمالهم التلفزيونية والمسرحية، وأنا ما أزال طالبة. فكانت هذه المشاركات، بمثابة اللبنة الأولى التي بنيتُ عليها مجدي المسرحي.
بطبيعة الحال، زاد من حولي المعجبون عملاً بعد عمل.
فامتلأ منزلي وغرفتي في المسرح، بورود المعجبين.
أمرٌ عادي لكل فنان. لكن!...
كان لبطاقة أحدهم المرافقة دائماً لوروده الحمراء، سحرٌ خاص.
وهكذا أصبحت حروف اسمه نغمٌ تتراقص على وقعه نبضات قلبي.
كان كلامه يبعثرني ويعيد تشكيلي من جديد حرفاً في قصيدة عشقِ لم أعِ ألوانها قبل أن يصبح قلبي أيقونة تحمل اسمه، كنقش فينيقي عتيق، يصطبغ بلون أرجوانٍ، أنتجته روحٌ تواقة الى لون حبٍ يضيء الحياة من حولها.

ذات أمسيةٍ، أصبحتْ كل تاريخي... حمل لي الأثير صوته، ابتدأه بمقولة سبق وأهداني إياه " قال لها تعالي نجلس في القمر... فقالت له ما أولعك بالجمع بين الضرائر".
وهكذا أصبح صوته سيمفونية عشقي، وأحرفه أبجدية تكتبني آلاف قصائد حب.

أصبحتُ أبدع كل عرضٍ، لأجله هو فقط، لأجل أن أرى في عينيه نظرة إعجابٍ يلونها العشق. فأقف نهاية كل عرضٍ لأحيي الجمهور، مستقبلةً تصفيقه الحار وهتافاته بابتسامة هادئة، وقلبي يصرخ... "من أنتم أمام روعة حضوره في كل تفاصيل حياتي، ومن قال أنني أبدع لأجلكم وبفضلكم؟ إنني أبدع لأجل معجبٍ أوحد، أعاد بي تشكيل الممثلة والأنثى التي لم أكنها قبل لمس يديه.







Images rights are reserved to their owners














 

سجينة الطابق الثاني عشر


معلقة بين الأرض والسماء، تتناهبها الأفكار والهواجس في شقة
واسعة الأرجاء، يسكنها البرد ليلاً نهاراً. فالصقيع يعشش في الأماكن التي تشهد وعلى مدار الأيام، حكاية انهزامها وانكسارها، هي المنذورة منذ صغرها للقضايا الكبرى كما أفهمتها أمها يوم نفذتْ أول اعتصام لها وهي مراهقة، لتسجيل موقف تجاه ما وصفته حينها بأنه حدٌ من حريتها، وتدخلٌ سافر بحياتها. كان ذلك يوم منعها والدها من محادثة ابن الجيران. دافعت عن حريتها دون أن تفهم المعنى الكبير لكلماتها، هي الطفلة التي لم تتجاوز بعدُ الثالثة عشرة من عمرها.
لم تفقه ما معنى ذلك، لكن والدتها وعدتها أن تشرح لها حين تصبح جاهزة، وأفهمتها أنّ كل ما عليها أن تفعله إلى ذلكَ الحين، هو أن تتعلم وتتعلم ولا شيء غير أن تتعلم، مع ضرورة أن يحفظ ويعي فكرها الصغير أن كل ما تتعرض له الآن من تسلط والدها ما هو سوى مرحلة عابرة يجب أن تتخطاها بنجاح.

أجالت نظرها في أرجاء الشقة الواسعة... الباردة، التي يسكنها الصقيع ويعشش فيها البرد.
"إذن هذا هو نجاحي يا أمي!". أين النجاح في عزلة تامة داخل شقة فاخرة البرودة، في الطابق الثاني عشر من بناءٍ في أحد شوارع لندن الراقية؟. وقفت في النافذة تنظر إلى لندن... لندن الفخامة... لندن الضباب... لندن البرد.
ما الذي يربطها برفاهية الصقيع هذه؟... أيعقل أن هذا المنزل هو مسرح لندني راقٍ، وهي هنا تؤدي دور أسيرة في قلعة محصنة؟ أم أنها أميرة ضل فرسها فأسرها قطَّاع الطرق وأهدوها لأميرهم المتخفي في ثياب فارسٍ نبيل؟
في الخارج تتساقط الثلوج، وفي روحها تمطر الذكريات.
تابعت دراستها بيقين من ستتغير حياته بعد نيل هذه الشهادة، إنَّ سعادتها كلها ووجودها وكيانها المستقل مرهون بنيلها هذه الشهادة.

نالت شهادتها الجامعية في الحقوق يوم توفيت والدتها جراء الضرب المبرح الذي تعرضت له على يد زوجها المتسلط!... لماذا؟ ببساطة لأنها واجهته وأصرَّت على مخالفة أوامره حين قررت أنّ ابنتها يجب أن تنال شهادة الدكتوراه.
وجدت عائلة الأب محامياً حرَّف القضية عن مسارها، لتصبح قضية زوج يدافع عن شرفه أمام زوجة مستهترة تريد أن تأخذ ابنتها إلى حياة المجون التي تحياها.
وهكذا أقفِلتْ القضية والنعجة أصبحت هي المذنب في مهزلة بطلها رجلان... ولم تنفع شهادة أشقاء المغدورة بأن شقيقتهم تعرضت للضرب المبرح فقط لأنها دافعت عن ابنتها البالغة الرشيد، حاملة الشهادة الجامعية.
لكن... لا أحد يصدق شقيقاً مطعوناً في شرفه وقلبه.
ما زالت كلمات والدتها الأخيرة وهي تلفظ أنفاسها تتردد في رأسها "لا تعيشي مع هذا الوحش... غادري المنزل".

وجد لها خالها مكتب محاماة تتدرب فيه، وكان المكتب لابن مديره المباشر.
أعجب المحامي بجهودها واجتهادها، فمنحها كل الإمكانات كي تثبت جدارتها. وهذا ما فعلته.
لكن!... حصلت عملية سطو على بنك راح ضحيتها الحارس الليلي. والجناة لم يلقَ عليهم القبض إلا بعد أكثر من سنة على الحادثة، والمخطط للحادث كان... والدها!.
أفاد أثناء التحقيق بأن ابنته المحامية هي مَن أعطاه النصيحة بالفرار والتواري طوال هذه المدة. لكن القبض عليه جاء نتيجة وشاية من أحد أفراد العصابة الذي طمع بالمزيد من المال.
ولم تكن تبعات الخبر عادية بالنسبة لها أو منصفة. فقد أوقفتها نقابة المحامين عن العمل وقدمتها للمحاكمة. لم يثبت عليها الجرم، لكن وصمة العار بقيت ملتصقة باسمها!
وهكذا أصبحت عاطلة عن العمل في منزل خالها الذي سرعان ما ضاقت زوجته بالوضع وأصبحت تتذمر من كل شيء.

دخلت عليها زوجة خالها يوماً ووجهها يحمل البشرى السارة كما قالت. أخبرتها أن جيرانهم القادمون من دولة عربية، يبحثون لقريبهم المغترب عن عروس تكفيه شرَّ الوحدة والغربة.
ووضعتها المرأة أمام خيارين... القبول بعريس لم تره يوماً... أو البحث عن مكانٍ آخر تعيش فيه. فالمنزل بدأ يضيق بسكانه!

تزوجته...
من ناحيته كان رجلاً صريحاً وواضحاً، فقد أخبرها بقصته كاملة، كان متزوجاً من امرأة من بلده، أنجبا ولداً وحيداً قبل أن يحصل على فرصة للعمل في لندن ككاتب صحفي.
وهناك!... سرق بريق لندن براءة زوجته البسيطة، فهربت مع عشيقٍ لها. فطلقها وأصبح وحيداً مع طفل صغير، حتى أمه نبذته ورفضت تحمل مسؤولياتها تجاهه.
قررت أن تتقبله، أقله هو رجلٌ متعلم وعلى مستوى ثقافي، ويعرف كل شيء عنها وقد أبدى منذ أن تعرَّف إليها تعاطفه معها ضد كل الظلم الذي تعرضت له.

وهكذا وجدت نفسها في لندن، تسكن شقة واسعة باردة الفخامة، في الطابق الثاني عشر، مع زوجٍ قمة في التهذيب والرقي والبرود الإنكليزي... وطفل صغير يحتاج للرعاية على مدار الساعة.
ألقت نظرة على الطفل النائم بوداعة، دون أن يعي ما سببه وجوده لها من حزن... فلعل والده أراد الزواج لأجل أن يجد مرافقة لابنه.
طبعاً لم يكن مسموحاً لها بالخروج وحدها، لأن لندن كبيرة على صبية غريبة قادمة من الشرق حيث الكل يتكلم لغة واحدة. لكن السبب الغير مُعلن كان غيرة زوج يحمل عقدة من زوجة سابقة شاركه فيها الكثير من الغرباء. تقبلت سجنها في شقة واسعة وباردة مع طفل صغير، وخادمة تصرّ أن تفرض رأيها بكل كبيرة وصغيرة، فهذه لندن يا سيدة... هنا لا أسياد ولا عبيد.
كم حاولت أن تحول معرض الجليد هذا، إلى منزل زوجي. كم تفننت للفت نظر زوجٍ ما زال في ريعان شبابه. لكنه كان يقابل دلالها الأنثوي بالابتسامات الودودة، كتلك التي نلقيها في وجه طفل بريء يحاول أن يسترعي انتباهنا بعيداً عن شؤوننا الهامة جداً.
ليلة البارحة، لم يأبه لمحاولاتها في التقرِّب منه أو لمسه، فقد كان مشغول الفكر لدرجة أنه بالكاد بادلها قبلة لا حرارة فيها، وأدار ظهره لينام.
هل كان حقاً نائم؟ أم يتظاهر بذلك كما تفعل هي في معظم الأحيان، حين تمتنع عن الحركة كي لا توقظه، وتتظاهر بالنوم في وقت تتقاذفها فيه الأفكار.
"عدم القدرة على النوم والامتناع عن الحركة: إنه منزل الزوجية"... تلك هي جملة كونديرا الشهيرة.

صباحاً شعرت بوعكة، فنصحتها قريبته بإجراء فحص للحمل...
وجدته في الغرفة وهي تخرج من الحمام تحمل في يدها جهاز فحص الحمل...
قالت والدمع يكاد يفر من عينيها أنها حامل...
ابتسم بود... لا بل بسعادة وقال: إن ذلك أفضل ما يمكن أن يحصل لكِ ولي.

تركته نائماً والساعة تعلن منتصف الليل، وقفت أمام صورة والدتها. وضعت يدها على بطنها وقالت: أمي... إنه انتصاري على سجن الحريم.







Images rights are reserved to their owners




                                                    
                                       

هوى رجل...وهوا امرأة


"منذ اللحظة التي تلاقت فيها أعينهما أدركتُ أن الحيوان القابع فيهما سأل "أأستطيع؟ فأجاب الآخر "نعم بكل تأكيد". 
جملةٌ قالها بطل ليو تولستوي في قصته الشهيرة "سوناته لكروتزر". لخص فيها وجهة نظره في الزواج، وفي حيوانية الحب الذي نتوهمه كبيراً وعظيماً طالما أننا لم نلمس الحبيبة بعد.
فكرة اقتحمتْ ذاكرتي، وأنا ألامس أناملها الحريرية وأغوص في الضوء الذي انبثق 
من ابتسامتها المشعة.

فجر اليوم أنهيت ديواني الجديد "قبلةً لطيفها"... فقررتُ أن أضع حداً لعزلتي.
توجهتُ بداية الغروب إلى شارع الحمراء وتحديداً إلى زاويتي المعتادة، حيث أحتسي قهوتي مختبئاً خلف دخان سجائري.
وإذ بعلياء (وهو اسم مستعار) تقتحم وحدتي بكثير من الصخب. وعلياء هي كاتبةٌ من زمن الفشل، لم أكن أستسيغ حديثها، ولم يكن لي طاقةٌ للصبر على قراءة حتى صفحة واحدة مما تكتبه تحت  مسمى الأدب. لكنها اقتحمت وحدتي وتعلقت برقبتي كعادتها في القاء التحية، وتلفتتْ حولها قبل أن تجلس، وكأنها تريد التأكد من أن الجميع قد رآها تجلس معي... بكل تواضع أقول هذا.
ولحسن حظي لم يطل بنا المقام حتى حضر صديقي اللدود المفضل الشاعر نبيل الزين، ولأنه يعرف "مودتي!" لعلياء فقد دعاني لمرافقته لحضور معرض رسم لفنانة مبتدئة سوف أدعوها ريم.
وريم هي التي أثارت في ذاكرتي جملة تولستوي وأنا أصافح أناملها الحريرية وأغوص في لؤلؤ ابتسامتها.
دعوني أولاً أبشركم أن علياء رفضت مرافقتنا الى المعرض، لعدم حبها لرسامي هذه الأيام، فأين هم من "الموناليزا"! هكذا قالت هي فأجبت بلؤم "تقصدين أين هم من دافنشي فهو الرسام لا الموناليزا".
فقالت بلامبالاة
what ever-

دامت غيبوبة ذهولي أمام إبداعها، ساعتين كاملتين. وكان صديقي نبيل قد غادر بعد ساعة لارتباطه بموعد سابق، وبقيتُ وحدي أجول في المكان، ولا أنزع عينيّ عن اللوحات إلا لأختلس النظر الى المبدعة التي لا تقل روعة عن لوحاتها، فهي بحدِّ ذاتها لوحة شِعرية خطتها يد مبدعٍ وشمها بكل آيات جماله.
خرجتُ من صالة العرض وأنا مفعمٌ بالشِعر، وقلبي يتراقص طرباً على وقع وعدٍ انتزعته منها بقبول دعوتي الى جلسة فن وأدب في مقهى من مقاهي المثقفين في شارع الحمراء، الذي رأيته بعد خروجي من دائرة شعاعها بحلةٍ جديدة، لقد غسل مطر الربيع  الأرصفة صعوداً الى القمر، الذي شع نوره وكأنه أصبح مضاعفاً خمسة أقمار.
...ولفتُّ نظر المارة وأنا أدندن أغنية "أغداً القاك".
وبذلك كنتُ لمن عرف هويتي صورةً حية عن جنون الشعراء.

وجدتها... ملهمتي... التي أبحث عنها منذ أكثر من أربعين 

عاماً. الأنثى التي ستزرع عمري وروداً وموسيقى وعشقاً... 

انها حبيبتي... معبودتي. 


 وأنا أحدثها عن الشِعر الذي رأيته في لوحاتها، اقتحم علينا  مجلسنا شاب يقدح الشرر في عينيه. أراد من ريم أن ترافقه بهدوء، لكنها  تحولتْ الى لبوة شرسة وطردته بعد أن أسمعته كلاماً قاسياً، كان  من القساوة بحيث أنني شعرتُ مثله بالجرح والمهانة، وللحظات أحسستُ بالشفقة عليه وهو يغادرنا مطأطىء الرأس كسيراً كقائدٍ فقد كل جنوده وأسلحته بضربةٍ واحدةٍ في بداية الحرب.
بلمح البصر استعادتْ وجهها الملائكي، وأخبرتني قصتها معه... هو صديقها المقرَّب الذي تمرد على أعراف الصداقة واعتقدَ أنه بماله يستطيع اقتناؤها وإضافتها الى سرب حريمه!... أخبرتني كيف إنها حاولت اقناعه برفق ولين، بأن يرتدَّ عن الإساءة إلى صداقتهما، لكنه اضطرها مؤخراً لاستخدام العنف معه.  
توَّجها قلبي آلهة عشقه وهواه. لكنها كانت تمعن في صداقتي التي تضعها دائماً حاجزاً في وجهي. فآثرُ الصمت وكبح جماح عواطفي وبوحي. خوفاً من أن أخسر صداقتها. 
 ذات يومٍ عاصفٍ ماطر من أيام منتصف الشتاء، وجدتها 
 تقف ببابي،  مبللة بدموعها... 
راقبتها وهي ترشف المشروب الساخن الذي حضّرته لها بعد أن  بدَّلتْ ملابسها المبللة ببجامتي الوحيدة النظيفة.
 متمنعة عن الاعتراف بما يوضح لي حالتها الراهنة التي لم يسبق لي أن رأيتها عليها. 
هممتُ بتأنيبها على ما بدأ يظهر لي من مزاجيتها... لكن!... وجدتها تدخلني في دائرة النار، وبدأتْ تمارس عليّّ لعبة اغواءٍ لا قدرة لي على مقاومتها!... يا الهي... أخيراً معبودتي بين يديّ وترتدي منامتي.
أعرف أنها مزاجية ومستهترة ومتفلتة من أي قيود ومجنونة  أيضاً، لكنها حبيبتي، ولا يمكن أن أستغل ضعفها.
وهمستْ بين قبلتين "أنت تحبني... أنا أعرف ذلك"... أمام همستها المباركة هذه لم أستطع الصمود، ونسيتُ كل الكون...

تأملتها وهي تنام بجانبي كطفلٍ بريءٍ لم يعِ وجوده بعد، واقتنعتُ بعد ما حصل، انها لن تفارقني أبداً... وهكذا بدأتُ أضع الخطط لزواجنا وأنا مفعمٌ بالسكينةِ والعشق.
استيقظتْ من نومها ببطء... وبعد أن استعادتْ زمام أمرها، أنبتني لأنني استغليتُ ضعفها!... يا الهي... حسبتها تمارس عليَّ جنونها المعتاد، 
وإنها سرعان ما ستضحك بعد أن تتأكد من هلعي وذهولي.

لكن...! وبعد ثلاثة أيامٍ من المفاوضات والشرح والتأكيد على مشاعري رفضتْ الارتباط بي!. 
وهي تشرح أسبابها الواهية اللامنطقية، اقتحم جلستنا شاب طويل، على وجهه سيماء التوحش والصرامة. ودون أن ينبث بكلمة أمسكها من يدها وجرَّها بهدوء، فرافقته دون أن تلتفت ناحيتي!.

بعد مرور أسبوعين على اختفائها الغامض وذهولي، قرأتُ في الصحف خبراً مفاده أنها تزوجت من ابن عمها رجل الأعمال، ذاك الذي أخذها من أمامي في المقهى... وغامت عينايَّ فكدتُّ أختنق بلوعتي. 
حملتني قدماي الى ملهى ليلي، على أمل أن يعالج المشروب  جراح روحي.
 هناك صادفتُ صديقها، القائد المهزوم، الذي كثيراً ما صادفناه خلال تسكعنا هنا وهناك، والذي كان دائماً يبتسم بوجهي باستهزاء كلما تقابلت أعيننا. 
 جلجلت ضحكته عندما لمحني وصاح: أتيت يا مغفل...أهلاً بك... 
وهز الرجل الجالس بجانبه وقال له: أنظر هذا هو المغفل رقم اثنين الذي صدقها... 
عبّ كأسه بجرعة واحدة وقال: هل أخبرتكَ يا صديق عن غرامها المستعرّ بابن عمها رجل الأعمال الذي حاولتْ أن تنساه معي ومعك؟... والآن تزوجها بعد أن رجاه والدها... 
عبَّ كأساً أخرى وتابع: لا أحد يعرف كيف يكبح جماح جنونها سواه... هل فهمتَ أخيراً يا مغفل؟ 
قال جملته الأخيرة وهو يعطيني كأساً بيدي... في هذه الأثناء، انطلق من المسجل صوت معين شريف:
أصعب كلمة بفكر فيها
هي الكلمة اللي قلتيها
كيف قدرتي ما تخبّيها
 بعيونك الحلوين
كيف قدرتي تقسي عليّ
وتقوليلي ما عاد فيي
آخر كلمة بقلك هيي
 شو بيشبهك تشرين
وحين صاح:غدااااااااااار... غدااااااااار...
شو بيشبهك إنتي...ع غفلي بيشتي
كان شريك الخذلان يضحك... وجاره يغني مع المطرب.
أما أنا فركعتُ على ركبتيّ، وأنا ألعن الشيطان الذي تقمص وجهها الملائكي. 

                                                                                         

Images rights are reserved to their owners



  

شهرزاد ترسم عالمها

قلتَ أخبريني عن عالمك؟

فقلت...
فـــــــي عــــــالمي
الحيوانـــــــــــــات
تنطـــــق بــالحكمة.


والطيــــــــــــــــور
تمشي على الأرض
بعـــــد أن تُهــــدي
أجنحتهـــــا للبشــر.


أما الأطفـــــــــــال
فيــــــــولدون مـــن

أغصـــان الشـــجر.


والعجــائز لا يمتِّنَ
بــــل يتضــــــائلنَّ
الــــى أن يختفيــن.


فــــــي عــــــالمي
المغنــــــــــــــون 

يصــــــابون بالبكم
.ســـــــاعة ولادتهم



والممثلون يُنحَتون
مـــــن خشــــــب 

مثــــــل بينوكيـــو
وأن أنــــــــــوفهم
تصغــــــر كلمـــا
.كــــــذبوا أكثـــــر



والفلاســــــــفة
عــــــــــــــاهرون
والعــــــــــــاهرات
.يُحاضرنَّ في العفة


 فــــــي عـــــــالمي
شهريــــــــــــــــار
يروي القصـــــص
وينصت مسرور
وشــــــــــــهرزاد
. هـــــي السيـــاف


صرختَ مندهشـــاً
كـــم هذا غريــب
لا أصدقـــــــــــه!



ولكن!.....
هل هي أغـــرب
من قصة اعتزالك
مطـــاردة النساء؟








Image rights are reserved to the owner



















حين راقصها قلبي

دعيتُ الى حفل زفاف أحد الأصدقاء، وعزمتُ على حضوره طبعاً، فلن أخفيكم سراً فأنا أستمتع بحضور كل أنواع الاحتفالات لأنني مولع بمراقبة رقص الحِسان وهنّ يتمايلن بكل الغنج والدلال والغوى الذي جُبلت به
أجسادهنَّ التي تشبه أعواد الزنبق. كم أصبحتُ أحب الورود على أنواعها لأنها تختال أمامي كقدِّ صبيةٍ حسناء تتمايل على أنغامٍ ساحرةٍ تنطلق من آلةٍ لا تقل نعومةً ورقةً وعذوبة عن قدها.

لكن أرجو منكم أن لا تسيؤا الظن بي، فأنا إنما أحب مشاهدة الرقص كفنٍ بحد ذاته. إذ يجذبني حس المرأة المرهف لدرجة أن يطيعها جسدها، فيتمايل مع روحها على إيقاع النغمات المتلاحقة لترسم بجسدها لوحة من تناغم الروح والجسد.
أراقب كل ذلك في رقص الأنثى، دون أن أحمل لجسدها أي نوايا دنيئة، لا... بل أنا أحترم هذا الجسد المتمايل مع الإيقاع، إنني أحب حالة الطرب التي تصيب الروح وتسيطر على الجسد.

هناك رأيتها... كانت تتمايل وحدها، ثم سرعان ما أحاط بها الجمع تاركين لها الساح.
لم تكن جسدٌ يرقص بل روحٌ تحلق في البعيد، في عالم عجائبي لا صلة تربطه بأي من الحضور، لكأنها كانت تراقص طيفاً تراه هي فقط، ذاهلة معه عما يجري من حولها. لم يكن رقصها رقصاً عادياً كالذي سبق لي أن شاهدته مراراً وتكراراً... فلم يكن تمايل جسدها تمايل الإغواء الكامن في أساس الرقص، بل كان رفرفة روح ملاكٍ يريد الانعتاق من أسر جسدٍ وضع فيه قسراً. 
ووجدتني أتساءل مع ذاتي... إن كانت روحها تريد الانعتاق من أسر الجسد، ترى الى أين تريد الذهاب؟ أم أن وجهتها إنسانٌ
بعينه؟ رجل؟... أين هو إذن؟... لما يتركها وحدها؟

إنتهت رقصتها البديعة، فعادت أدراجها بهدوء، مخلفة وراءها ساحة رقصٍ استعادت صخب راقصيها الكثر.



استمريتُ بمراقبتها، كما كنت أفعل منذ قليل، محاولاً استشفاف أي تعبير على وجهها، لكنها ما زالت تحمل ذات النظرة الساهمة، المتطلعة الى  البعيد، أو ربما هي متطلعة الى الداخل. داخلها الغامض الذي ما استطعتُ تبين لونه في ملامحها.
كانت إن حدثها أحد تبتسم بتحفظ يضع مليون حاجز بينها وبين محدثها.
وابتسامتها المتحفظة كانت أكثر سحراً من أي ابتسامة رأيتها في حياتي.
آآآآآآآآآآآآآآه من ابتسامتها كيف تموت على شفتيها، حين تضبطني متلبساً بمراقبتها.

قررتُ أن أكتشف هويتها لأعرف سرها، حتى لو قضيتُ العمر كله وأنا أقتفي أثرها.

عرفتُ عنوانها بعد أن تبِعتُ سيارتها طويلاً، لقد كان منزلاً بعيداً في منطقة نائية... ذكرني موقعه بأديرة الراهبات وصوامع النساك.
ابتلعها ظلام الحديقة الصغيرة، ولم يبقَ لي منها سوى صورة شعرها الحريري الذي يلوح مع الهواء... ونفحة من عطرها.

... وجدتني صباحاً أقف أمام سور حديقتها، آملاً أن ألمح طيفها بعد ليل شديدة السواد قضيته مؤرِّقاً. لم ألمح إنسياً في الحديقة، حتى لخلتُ أنني كنتُ أحلم، وأن المنزل خالٍ من البشر... الى أن كان العصر، رأيتها تخرج من منزلها وتتجه الى زاوية في الحديقة.
قرعتُ جرس بوابة الحديقة، وأنا أحمل باقة وردٍ ذبُل من طول الانتظار.
اتجهتْ نحو البوابة وثوبها الحريري الأبيض يتراقص مع الهواء... نظرت إليَّ بوجه نظيف من الزينة، لم يرتسم عليه أي شعور بالدهشة أو المباغتة أو حتى النفور. كان كليلة أمس، وجه لا تعبير فيه، مجرد عينين تنظران الى عالم خيالي، أو لكأنهما تنظران الى داخلها.
أشارت ناحية الحديقة، وتقدمتني فتبعتها كمن يتبع قدراً لم يتبين ملامحه بعد.

جلستْ على مقعد، فجلستُ بجانبها وقالت دون مقدمات:
- إن روحي منذورة له وحده أمير عمري وسيد قدري... هو حبيبي، وكل الرجال بعده... إشاعة.

وتركتني مذهولاً ومرتبكاً وذليلاً...
غادرتْ وشالها يتطاير في الهواء، كيدٍ تلوَّح مودعة!
وأغلقت بابها بهدوء... ربما كي لا تزعج أميراً نائماً في عالمها السحري.
                                                      
  

                           Images rights are reserved to their owners