عائد من الماضي


للحظاتٍ لم تستوعب ما تراه... أهو حقاً أمامها؟ أم أنه خيالها الجامح؟... الذي لطالما أحضر لها طيفه، منذ أن قرر أن طعنها تلك الطعنة الموجعة، التي ما اندملت آثارها بعد.
وقفا ينظران الى بعضهما بصمت، كمن يحاول أن يستوعب ما يراه أمامه، أو كمن يحاول استعادة رباطة جأشه وإخفاء صدمة أو مفاجأة لم يكن يتوقعها.
ابتسم بتردد وقال: مرحبا.
أجابت بصوت متحشرج: أهلاً...
فبادرها بقول: كيف حالك؟
أرادت أن تقول " تقصد كيف حالي بعد طعنتك؟".
لكنها اكتفت بأن قالت: الحمد لله.
ما أجملها من كلمة فضفاضة، تسمح بالإجابة عن السؤال، لكنها تبقي الإجابة الحقيقية مفتوحة على كل الإحتمالات.
ساد الصمت... انتبهت من ذهولها وقالت محاولة أن تكمل طريقها: عفواً...
أمسك ذراعها مانعاً إياها من المسير وقال: دقيقة لو سمحت.
أبعدت يده عن ذراعها... ونظرت إليه.
قال بخجل وتردد: علمتُ البارحة... أنكِ... ما زلتِ... عزباء.
لم تجب... فأكمل: كنت أعتقد... انكِ تزوجتِ...عماد...
للحظات لم تذكر مَن يقصد، لكنها سرعان ما استوعبت إنه يقصد عماد جارهم البعيد، الذي لم تستطع يوماً أن تميز بينه وبين أيٍ من أشقائه.
فأجابت متسائلة: ولما أتزوج من شخص لا أعرفه؟
ارتبك أكثر وأجاب: هكذا قيل لي وقتها.
قالت باستغراب: وقتها؟!...
قال بسرعة قبل أن يفقد شجاعته: أرجوك ريم...أعطني فرصة أن أوضح لكِ الكثير من الأمور...
قالت بجرأة بالغة لتزيد من إرباكه: عن أي أمور تتحدث؟
نظر إلى الأرض وأجاب: يبدو أن كل ما جرى كان سببه سوء فهم.
أرادت أن تصرخ في وجهه "وهل تعتقد أن السنوات السبع من العذاب التي قضيتها بسببك كانت مجرد سوء فهم؟".
لكنها اكتفت بالقول: لا أعتقد أن بيننا أي أمور تستحق الإيضاح.
ابتعدت مسرعة تاركة إياه وسط ذهوله، راقبها وقد رافقتها روحه، وأخذت ضربات قلبه تعنف "أيعقل يا الهي أنني فقدتها كل هذه السنوات، لأجل... لا شيء!".

جالست صديقاتها بعض الوقت، ثم استأذنت للمغادرة بحجة موعد ضروري.
لكن موعدها لم يكن سوى مع الألم، ألم جرحٍ نازفٍ منذ أن غادر دون وداع... منذ أن رحل ذات خريف دون أن يلتفت وراءه، تاركاً لها نزيفاً في الروح.
وضعت نفسها في أول سيارة أجرة صادفتها، نطقت باسم أول منطقة خطرت لها... البحر.

هناك ستخبر الأمواج عما فعله بها...
فجأة انتبهت أن في منزل جارتهم الأرملة العجوز، شابٌ يترصد حركاتها وتحركاتها. لكنها لم تعر ذلك أي اهتمام، بعد أن عرفت انه ابن العجوز العائد من السفر.
مرّ عام وهو على حاله هذه، وقد أصبح واضحاً لها ولوالدتها التي تراقبه من بعيد، أنه يرصد تحركاتها ويلاحقها.
صدفةٍ قربت المسافات بينهما. فقررت أ، تفتح له بابها الموصد في وجه كل العشاق.
كانت تنتظر منه اعترافاً يخرجهما من لعبة القط والفأر التي يلعبانها معا، والتي بدأت تصبح غير بهما، هما الناضجين خريجَي الجامعات. فاللف والدوران حول أي موضوع هو من شيم المراهقين، وهما تجاوزا هذه المرحلة منذ زمن.
وفجأة اختفى من أمام أنظارها، لم تعد تراه واقفاً في النافذة أو في الشرفة، ولم يعد يلحق بها حين تمر أمام منزله.
لم يقلقها الأمر بدايةً، فقد بدا لها تصرفاً طبيعياً بالنسبة لما طرأ على علاقتهما، فقد أصبح بإمكانه أن يكلمها في أي مكان وأي وقت، لا بل أصبح بإمكانه أن يطرق بابها ليزورها كما يفعل الجيران... وبذلك اعتبرته دليل قرار منه بأنه حان الوقت ليتصرفا كراشدين يملكان زمام أمورهما، وترك أفعال المراهقين هذه. وانتظرت مبادرته...
لكن!... ما أكثر الجارات الثرثارات، وما أكثر تفاهاتهن، لكنهن، وأحياناً دون قصد، ينقلن لنا الخبر الذي نحتاج معرفته الأكثر. فقد ذكرت الجارة موضوع عقد خطوبته على........
دام سفره سبع سنوات، وأثمر زواجه طفلين... ولم تره أبداً طوال هذه السنوات. كانت تعتقد أن الجرح قد التأم وأنه لم يعد في قلبها سوى ذكرى إنسان حاول أن يدخل حياتها، لكنه تحوّل إلى جهة أخرى.
الموجع في الأمر أن رؤيته مجدداً قد أضرمت النار التي كانت تتظاهر بأنها خمدت.
والآن يريد أن يوضح... سوء الفهم!... عذابها هي سوء فهم؟!. لن تسامحه أبداً. ولن تستمع اليه... فليرحل أو يبقى... لن تهتم له ولن تكترث لما يمكن أن يقول.

صباح اليوم التالي أرسل لها من يخبرها أنه سوف يزورها بعد ساعة لأنه يريدها بأمر هام. خطر لها أن تغادر المنزل، كي لا تترك له فرصة أن يعكر صفوها أكثر مما فعل البارحة. لكنها لا بد أن تمر أمام منزله إن غادرت، ووقتها قد يصرّ على أن يستوقفها في الطريق.
وهي في خضم حيرتها حضر... وهو ينتظرها في الصالون.
تمنى لو أنه يستطيع أن يحضنها، لكنه لم يجرؤ حتى على مد يده للمسها.
اكتفى بأن قال: شكراً لأنكِ استقبلتني.
قالت بتحدٍ: لم تترك لي خيار.
فعلم أن مهمته لن تكون سهلة أبداً.
أخبرها بداية أنه عاد الى الوطن، لأن زواجه قد فشل، وأنه حصل طلاقه منذ أسبوع. نظر في وجهها فلم يرى تعبيراً، كان الصمت يلفها وكفى. تابع أنه أعطى حق حضانة الأطفال لأمهم....
لم تعلق على أي كلمة مما قاله، فقرر أن يدخل في صلب الموضوع الذي حضر لأجله... ما الذي جرى منذ سبع سنوات، ولما قرر الرحيل فجأة.
أخبرها أنه منذ عشر سنوات حين أنهى دراسته في الخارج، وعاد الى الوطن يحمل شهادة في الطب، لم يكن ينوي مغادرة البلاد مجدداً أبداً، وأنه أسس عيادته لأجل أن يستقر في الوطن. ثم رآها. هي لم تفطن لوجوده بداية، إلا أنه أحبها وحلم بيوم تعي فيه مشاعره وتبادله غرامه، ليصبح أسعد رجال الأرض.
وهو يتهيء لإبلاغها بمشاعره، أخبرته الجارة الثرثارة بأنها ستتزوج من عماد... ولم يحتمل فكرة أن يرى حبيبته تتزوج من آخر... وتتخلى عنه بهذه البساطة. لذلك قرر أن يثبت لها أنه غير آبه لها... فتزوج بسرعة، وسافر الى حيث لا يراها ولا يسمع أخبارها... لكن زواجه فشل لأنه لم يحب هذه الزوجة أبداً، ولأنه لم ينساها هي أبداً.
أنهى كلامه أنه فوجئ عندما عرف بأنها لم تتزوج عماد، كما سبق وأخبروه.
قالت بصوت أشبه بالهمس: إذن تزوجت لأنك اعتقدت أنني سأتزوج من آخر؟
أومأ برأسه إيجاباً.
ارتفعت نبرة صوتها قليلاً وقالت: صدقتَ ثرثرة امرأة جاهلة... دون أن تسألني؟
قال خائباً: هذا ما جرى بالتفصيل.
فسألته بحدة: ولما أتيت الآن؟
أطرق وأجاب: قلت لك... لقد طلقتُ زوجتي.
فأعادت القول: أنا أسألك لما أتيتَ إليَّ الآن؟
فأجاب بسرعة قبل أن يفقد شجاعته: لأقول لك ما لم أجرؤ على قوله سابقاً... أنا أحبك... ولم أنساكِ يوماً.
أشارت له إلى الباب وقالت: ارحل... ارحل ولا تعد إلى هنا.
كاد يختنق وهو يقول: أرجوك ريم... أنا لم أستطع العيش من دونك.
فصرخت به: أنتَ عشتَ من دوني سبع سنوات... وأنجبت طفلين... والآن لم تعد لأجلي، بل عدتَ لأن زواجك قد فشل. ولو لم يفشل زواجك لما عدت أبداً. تخليتَ عني بسبب إشاعة، ولم تعد لأجلي، بل عدتَ لأن زواجك قد فشل.

زارتها شقيقته فجر يومٍ قارص البرودة. وأخبرتها أنه تعرض لحادث سيارة خطير وهو الآن يحتضر، ورجتها أن ترافقها لتراه.
همست له من خلال دموعها: أرجوك لا ترحل مجدداً وتتركني وحدي.
فتح عينيه وهمس: إن لم تكوني حلماً فسوف أعيش.
وعقدا خطوبتهما...

أثناء التحضيرات لزفافهما، خبرٌ مهول هزَّ الناس جميعاً! شابٌ يدَّعي بأنه يقيم مع ريم علاقة غرامية، ألزمته بإنهائها كي تتزوج من الطبيب الذي يفوقه جاهاً ومالاً.
فسخ عقد قرانهما، دون أن يترك لها مجالاً كي تثبت برائتها. وبدأ بحزم حقائبه.

تقدمت بشكوى بحق الشاب بتهمة تشويه السمعة والافتراء...
النتيجة كانت مذهلة! لقد أثبتت التحقيقات أن الشاب قد تقاضى خمسة آلاف دولار لتشويه سمعتها... والمحرِّض إحدى العائلات الحاقدة التي رفض هو، كما فعل شقيقه قبله، أن يرتبط بإحدى  فتياتها!... وهكذا دفعت هي الثمن مرتين.

عاد من سفره ذات فجر... ورفض أن يدخل إلى منزله قبل أن يراها، فطرق بابها بإصرار.
منعته من الدخول وقالت: بإمكانك أن تموت هذه المرة دون أن تنتظرني... فأنا لن أسامحك... ولن أعود اليك.
أغلقت الباب بهدوء خلفه... وعادت الى سريرها لتكمل نوماً هنيئاً، لن تسمح بعد الآن لأحدٍ أن يقطعه.

 

 

  

 Images rights are reserved to their owners