هدير الصداع


دلع الليل لسانه في وجهي. بعد أن رجوته أن يحضر سريعاً، لعل تعبي يضع أحماله، بعد نهارٍ حافلٍ بالمسؤوليات.
تحاملتُ على نفسي، حملّتها جسدي المنهك، ووليتها شطر السرير. تمددتُ على جزيرة أحلامي، ووضعتُ صداع رأسي على خاصرة المخدة.
أصدر جسدي صوت ارتياح: طششششششششششش... فشششششششش.
قدماي المتورمان من التجوال بسبب انقطاع البنزين... صرختا: الله يهدك... هديتينا.
فأجابت يداي: اسكتي... اسكتي... لقد حملّتنا أثقالاً اليوم.
فزعق ظهري: أجبرتني اليوم على رفع المفروشات، تريد أن تنظف المنزل... وعندما صرختُ من الوجع، أخرستني وقالت: عيييييب... عييييب... ما زال أمامنا الكثير.
أما كاهلي فبكى وقال هو ينشج: تزداد همومي تراكماً، يوماً بعد يوم.
فقلتُ وقد هدني التعب: اعذروني فالحياة كلها مصاعب.
همست عيناي المحمرتان: أرجوكِ أغمضينا، لم نعد نرى شيئاً.
أغمضتُ عيناي لحظاتٍ، ومددتُ يدي لأمسك بيد الحلم الممدودة مِن عالم النوم.
فصرخ دماغي: أطفئيني!... أرجوكِ أطفئيني... لم أعد احتمل أن أبقى هادراً وأنتِ تنامين!
حاولتُ إطفاءه يدوياً، فانكسر زر التشغيل.
شتمتُه وقلتُ بين الصحو والنعاس: أرجوك... انخمد ولو لليلة واحدة... أريد أن أنام.
فلعنني وقال: ومن سيطفئني بعد أن كسرتِ زر التشغيل.

وما زلتُ أنام عن شواردها... ودماغي يهدر.




 Image rights are reserved to the owner

هي وأنا... والسيد عولمة


جوري بطلة قصتي هي شخصية ورقية تمردت على سير ما أرسمه لها من أحداث. أجل لقد تمردتْ عليَّ... أخرجت لي لسانها منذ اللحظة الأولى، ونعتتني بال... "متخلفة"!
لم أفاجأ بتصرفها، فهي ابنة هذا الزمن، وهم أبناء السيد عولمة الذي يتحكم بهم، ويمسك بيده "خيوطهم".
وهكذا وجدتني طوال القصة، أتعارك معها ومعه (أقصد بطلتي والسيد عولمة) لعلي أنقذ منها ما يمكن إنقاذه.


بدأت القصة، يوم جلستْ بطلتي جوري أمام شاشة الكمبيوتر، بعد غياب أسبوع بسبب توقيفها من قِبل الشرطة، على خلفية ضربها المبرِّح لجارتها الثرثارة- كما تصفها- وهنا اسمحوا لي بمداخلة لأقول أن شخصية بطلتي، وذلك خارجٌ عن إرادتي طبعاً... شخصية عصبية... سليطة اللسان. عكس طبيعتها في السوشيال ميديا... إنها نموذج عن ازدواجية كثيرٍ من مستخدمي الإنترنت الفارغين من كل محتوى!
وجدت في بريدها الخاص على عدداً من الرسائل من "صديقٍ!"... يطلق على نفسه اسم "أنين القلم". بالمناسبة بطلتنا
جوري تطلق على نفسها اسم "ماء الورد"، الذي اعتبره "أنين القلم" خلاصة الرومانسية، وانه وجد إلهامه في اسمها.
باختصار... كان في قلب "أنين القلم"- ككل شابٍ يحوم حول أنثى- حنان خمس أمهات! وبذلكَ امتلك شغاف قلب بطلتي الحمقاء، التي غافلتني وتكونت أمامي عكس ما أردتها، فأنا أردتُها كاتبة/ إمرأة ضاجة بالأنوثة، متجللة بالكِبَر، وعلى مستوى عالٍ من الثقافة، لذا فقد أعطيتها اسماً رومانسياً.
لكن...!
كان قلقاً عليها، يعاتبها على غيابها... ويستفسر عن أحوالها. لا بل انه رجاها في رسالته الأخيرة، أن تطمئنه عنها لأنه لم يعد يستطع النوم لشدة قلقه عليها!
ذهلت "ماء الورد"، وحلَّق فوق رأسها فرس أبيض على صهوته فارس يحمل بدل السيف "قلم" وينشد قصائد في عشقها الملتهب في قلبه.
أمسكتها من كتفها لعلها تعود إلى رشدها، وقلت لها "مهلاً... كيف له أن يكون مغرماً وأنتما لا تعرفان بعضكما...!"
أجابت: يا متخلفة... نحن نعرف بعضنا من خلال منشوراتنا.
حاولت أن ترد على رسالته، فضربت يدها كي تتوقف. لكنها دفعتني عنها بعنف وقالت: نكاية بك سوف أكتب له رسالة تشعل نيران الغرام في قلبه.
وكتبت: صديقي أنين القلم... أشكرك جزيل الشكر على افتقادك لي، لو تعرف يا صديقي ما يعنيه لي اهتمامك، أنا اليتيمة...
ضربتُ يدها مجدداً وقلت: والداكِ في الخارج يا جاحدة.
فصرخت بوجهي: اخرسي.
وتابعت: أنا اليتيمة منذ الأزل، فلا أب يسأل ولا أم تهتم، ولا عائلة تحضن.
كدتُ أن يغمى عليَّ من كذبها... لكنها تابعت بهدوء ماكر:
اهتمامكَ جاء بلسماً على جروح عمري... عمري الذي قضيته وأنا أدعو الله أن يرسل لي انساناً يشاركني هموم الحياة.
صرختُ بها: يا عديمة الحياء... وهل مثلكِ تعاني من جراح!
هذه المرة صرخ بوجهي السيد عولمة وقال: اصمتي انه لزوم الدلال لكسب حبيب.
فقالت ماء الورد: لايك... أحسنت يا سيد عولمة.
والتفتت إليَّ وقالت: وأنتِ اخرسي.
ثم أكملت رسالتها: الآن أصبحتُ بخير، وشفيتُ من مرضي، فلا أخفي عليكَ سراً، لقد كنتُ في المستشفى بين الحياة والموت.
رفعتُ حاجبيَّ استغراباً، فقالت: إياكِ أن تنطقي وإلا مسحتُ قصتك.
هنا صفق السيد عولمة بيديه وهتف: لايك يا بنت... أبدعتِ.
وتابعت ماء الورد رسالتها:لكنهم أنقذوني والآن قد أصبحتُ بخير تماماً بعد سؤالكَ عني.
وختمت رسالتها، بعد أن أخرجت لي لسانها وقالت تودعه:
لا حرمني الله منك... أتركك في أمان الله.
ضربتُ رأسي بالطاولة، فقال السيد العولمة: يا ابنة هذا الزمن دعي شخوصكِ تتحرك على هواها، فهي وحدها مَن يعرف أخلاق هذا الزمن.
لزمتُ الصمت!...

عصر اليوم التالي، فتحت ماء الورد بريدها على الفايسبوك، وجدت رسالة من صديقها أنين القلم وكانت الرسالة مؤلفة من كلمة واحدة... "أحبكِ"!
طار صواب بطلتي وهي تقرأ هذه الكلمة... فنهرتها وقلتُ لها: أين عقلكِ يا ساذجة؟... انتما لا تعرفان بعضكما!
طبعاً قالت لي: اخرسي.
ثم كتبت له رسالة ملتهبة، زعمت في آخرها انها: لا أنام... والله لا أنام لأنني أفكر بك.
ضربتها على يدها، ومحوتُ الجملة. دفعتني بعيداً وأعادت كتابة الجملة، وأرسلتها قبل أن أستطيع منعها.
وقالت: وما أدراكِ أنتِ بالحب يا متخلفة، أنا أحبه منذ أن قرأتُ له أول خاطرة.
مضى أسبوع ملتهب بالأشواق. هو يبثها شوقه وغرامه، وهي تشعل نيرانه بدلالها وغنجها.
تتساءلون عن دوري؟!... لقد فقدتُ حيلتي أمام إصرارها وعنادها. لا بل انزويتُ أراقب من بعيدٍ ما يجري، وأعالج جراح قلبي، بعد أن نعتتني أكثر من مرة بال... متخلفة!
وأخيراً اتفقا على اللقاء - بالمناسبة لقد أخبرها "أنين القلم" عن اسمه الحقيقي، لكنها لم تقله لي- وادعى انه يعمل في إحدى دول أفريقيا، وانه سيأتي خصيصاً من أجل الزواج بها!
يا الهي... انتفضتُ من خرسي، وحاولت بشتى الطرق أن أقنعها أن لا تتسرع، فلعله كاذب!
لكنها أعادتني إلى زاويتي بعد أن نهرتني بكلمتها المعتادة "متخلفة".

في اليوم الموعود، تأنقت بطلتي كعروسٍ في ليلة زفافها. كان موعد اللقاء في مقهى صغير في منطقة جبلية، فالجو حارٌ في العاصمة، وطقس الجبل منعش ولطيف.
بدأ لقاءهما برقصة هادئة، أمطر خلالها أنين القلم كل ما في غيومه من كلمات الغزل والحب والهُيام! وبطلتي تذوب بين ذراعيه!
وكلما حاولتُ أن أتدخل، نهرني السيد عولمة وقال: إياكِ أن تقتربي منهما.
وصل الغداء، فأكلا هنيئاً مريئاً... وبعد التحلية، دارت الكؤوس.
لا ليس خمراً... بل عصير فواكه طازجة.
لكن لم أعرف لما جعلها العصير بهذا المزاج!...
لقد غفت فجأة على الكنبة، فحملها أنين القلم ومشى بها ناحية الداخل.
حاولتُ أن أعيدها إلى وعيها لكن لا فائدة.
اقتربتُ من كوب العصير وحاولتُ أن أتذوقه، وجدتُ طعمه غريب، سخر مني السيد عولمة وقال: انه الجامايكا... فعلاً أنتِ متخلفة!
وكما تعلمون فإن هذا العصير مخادع، ففي ظاهره هو عصير... لكن البعض يضيف إليه الكحول!
... وعلمتُ أن بطلتي ليست مسؤولة عن تصرفاتها!.
اسرعتُ حيث أخذها إلى الداخل، وكان قد حجز المقهى لهما فقط- والآن عرفتُ السبب! لكنني وصلتُ متأخرة!
باختصار... لقد قطف زهرتها التي هي مراده منذ البداية.
بعد جهد جهيد مني، وبينما السيد عولمة يصفق بيديه فرحاً، استطعتُ أن أوقظ بطلتي.
وأمام دموعها، وعدها أنين القلم انه سيتزوجها... فهو قد حضر من السفر خصيصاً من أجل أن يتزوجها. وتأكيداً على كلامه، أعطاها عنوانه ورقم هاتفه، وأوصلها بسيارته ليعرف عنوان منزلها.
وتواعدا على أن يأتي غداً مع والديه لطلب يدها.
أمضت العائلة سهرتها على خبر خطوبة ابنتها المدللة. وأنا أندب حظها!
هل صدَّق أهلها انه سيتزوجها حقاً!؟
فأجاب السيد عولمة: طبعاً صدقوا... ولما لا يصدقون؟
حاولتُ أن أتكلم مع بطلتي قبل أن تغفو، نهرتني وقالت: أنا سعيدة هذه الليلة فلا تنغصي عليَّ فرحتي يا متخلفة. أفكاركِ البالية ضعيها في قصة أخرى.
وغفت من فورها.

... لم يحضر أحد في الموعد المقرر. والعائلة مجتمعة تتبادل النظرات الحائرة.
وقفت بطلتي وقالت: لعلهم علقوا في زحمة السير... سأتصل ب (...) لأطمئن.
كان هاتفه مغلقاً... ومضت السهرة والهاتف مغلق.
ذهب الجميع إلى النوم دون أن ينبث بكلمة.
حاولتُ إفهامها أنها المخطئة منذ البداية لأنها صدقته.
لكنها نهرتني وفتحت الفايسبوك لتراسله!...
يا إلهي!... لقد وجدت في بريدها الإلكتروني صورها وهي عارية. ومعها رسالة تهديد بأنه يعرف عنها كل شيء! أما صفحة أنين القلم فلا وجود لها.
وبدأت تنتحب وتقول... ماذا أفعل؟... ماذا أفعل؟...
عندما لم أرد عليها صرخت بوجهي: قولي لي ماذا أفعل؟ ألستِ الكاتبة؟
فأجبت: لو كنتُ مكانكِ لما صدقته منذ البداية. ثم إنني كنتُ كلما حاولتُ أن أنهاكِ تصرخين بوجهي.
ضربت على وجهها وقالت باكية: لكنني صدقته... فماذا أفعل؟
كان السيد عولمة في الزاوية يضحك... فشتمته البطلة وحمَّلته مسؤولية كل ما جرى.
ثم بدأت تبكي وتصرخ وهي تخمش وجهها وتقول:
ماذا أفعل الآن؟... ماذا أفعل الآن؟...
وعدتها أن أجد لها حلاً، شرط أن تمهلني حتى الصباح.

أمضيتُ الليل وأن أتشاور مع زوجي في وضع بطلتي- أخبرته أنها ابنة صديقة لي، فلو أخبرته بالحقيقة لنهرني وقال: كبري عقلك يا امرأة... إنها مجرد قصة، وأنتِ الكاتبة.
لكن المسكين "قبضها جد" وحاول أن يجد للمظلومة حل.
فقال: فلتلجأ إلى النيابة العامة... قسم الجرائم الإلكترونية.
دهشتُ من قوله، وسألته: وهل في لبنان جهاز حكومي كهذا؟
فقال: طبعاً... لا حل لابنة صديقتك سوى هذا الحل.

حسناً... لعلكم تضحكون وتقولون سيقرأ القصة ويعرف!
أجل سيقرؤها ويعرف... وسأعرف كيف استسمحه وأطيّب خاطره.
والآن أودعكم لأرافق بطلتي إلى أروقة النيابة العامة... قسم الجرائم الإلكترونية. 

أيقظتني بطلتي عند الساعة الثالثة فجراً، وهي تصرخ بي:
أتعتقدين نفسكِ تكتبين قصة للناشئة لتعطينا المواعظ! من قال أن مشكلتي ستحل في حال رفعتُ قضية في قسم الجرائم الإلكترونية؟ سوف افتضح يا هذه؟ وسأموت قتلاً على يد والدي.
فأجبتُ وأنا نصف غافية: أنا لم أضعكِ في هذا الموقف، تذكري انكِ تمردتِ عليَّ.
فصرخت: لقد صدقتُ السافل سيد عولمة، هو أوحي لي أن أتمرد عليكِ.
فقلت: إذن لا تلوميني.
فقالت تستعطفني: المهم جدي لي حلاً... ألستُ بطلة قصتك؟
فقلت وقد طار نوم عيني: اذهبي للنوم ولا تخافي سأجد لكِ حلاً في الصباح.
فصرخت مجدداً: أقول لكِ أبي سيذبحني ألا تفهمين؟.
تمالكتُ نفسي وقلت: أرجوكِ لا تصرخي... ستوقظين زوجي.
فقالت: فليستيقظ ويجد لي حلاً معكِ.
شعر زوجي بي أتململ في نومي، فهمس: هل أنتِ بخير؟
فقلتُ: الأرق.
فسأل: وما الذي يؤرق منامك؟
فأجبتُ ببراءة: ابنة صديقتي.
فأجاب وهو يمسد شعري: استهدي بالله، وأشكريه سبحانه على أنها ليست ابنتنا... هيا نامي.
لم أنم، بل تظاهرتُ بالنوم.

وبعد أن خرج صباحاً إلى عمله، فتحتُ اللابتوب لأجد حلاً لهذه المسكينة، المهددة بقطع رقبتها.
تنبهتُ إلى أن السيد عولمة يجلس في زاوية غرفتي ويبتسم بخبث.
شتمته، وقلتُ له: هيا جد حلاً للمصيبة التي أوقتنا بها.
تنحنح وأجاب: النيابة العامة!؟... سوف تفضحين بطلتكِ وستنتشر صورها على السوشيال ميديا... هذا في حال لم يقتلها والدها.... حسناً في الحالتين ستنتشر قصتها.
فأجبته بغيظ لأنه محق: وماذا تقترح يا سافل؟.
اقترب مني وقال: فلتذهب إلى منزله.
أعجبتني الفكرة...
أخذتها بسيارتي... وجُبنا الشوارع ونحن نسأل عن العنوان... لكننا لم نجد لا عنوان، ولا أي شخص يعرف المدعو(....) حسناً ما دام قد أعطاها اسماً مستعاراً فما فائدة أن نذكره.
خلال الطريق، شتمتُ السيد عولمة، أما هي فصرخت بنا: ماذا أفعل الآن... أخبراني؟
همس السيد عولمة بأذني: فلتقصد المقهى حيث وقعت الواقعة، ولتسأل عنه.
رافقتُ بطلتي إلى المقهى المقصود، وطوال الطريق وأنا ألقنها ما يجب أن تقوله.
نفى صاحب المقهى معرفته بما تدعيه بطلتي، وأكد أن مقهاه لم يقفل في أي يوم.
ولما أصرَّت بطلتي على أن ترجوه وتتوسل إليه.
صرخ بها: إليكِ عني يا مجنونة...
جررتها من يدها وأنا أقول: السافل لن يعترف بشيء، أعرف هذه الأشكال جيداً.
فصرخت باكية: وماذا سأفعل الآن!؟ فالسافل الآخر يهددني بنشر صوري إن لم أستجب لطلباته.
دفعتها إلى داخل السيارة وأنا أقول: سأجد لكِ حلاً، حين نصل إلى المنزل.
عدنا إلى المنزل... فتحتْ الفايسبوك، فوجدتْ رسائل التهديد، فتحت بريدها الإلكتروني لتجد صورها مرفقة برسائل تهديد مبطن، واقتراحٌ بأن ما سيطلبه منها سيجعلها تكسب الكثير من المال.
ذكر المال أسكرها... زاد السيد عولمة طين طيشها بللاً وهو يرسم لها مستقبلاً مشرقاً في حال كسبها لهذا المال.
والمعتوهة- بطلتي- بدأت تفكر بالأمر. أما السيد عولمة فكان في الزاوية يضحك، ويمد لي لسانه.
وأنا لا حول لي ولا قوة.
ماذا أفعل يا الهي؟
أنهى السيد عولمة حيرة بطلتي، بأن قال: وماذا سيطلب منكِ؟ بعض الأعمال تكسبين منها مالاً يساعدكِ على عيش حياة أفضل.
رفعتُ حاجبي دهشة، فقالت وقبل أن أنبث بكلمة: اخرسي... معه حق.
ردت على رسائل التهديد، بأن وعدت بتنفيذ أي شيء يطلبه منها، ما دام سيقدم لها مالاً بالمقابل.

لمدة شهرٍ لم يعرف جفني طعم النوم، وأنا أراها قد تحولت إلى مروجة مخدِرات. بعد أن هربت من منزل والديها.
وحلت المصيبة يوم قرر مشغِلها أن يبيعها لأميرٍ داعشي! فقد دفع بها هذا الأخير مبلغاً طائلاً!
جنت بطلتي، وجثت تحت قدميّ مشغِلها ترجوه أن لا يفعل بها ذلك.
لكنه جرجرها من شعرها، وهو يتوعدها بالقتل إن لم تنصع لأوامره. لقد وعد الأمير ولن يتراجع عن وعده له.
صفق السيد عولمة بيديه فرحاً وصرخ: يااااااااااه... كم أصبحت اللعبة شيقة.
استنجدت بي بطلتي المتمردة، وصرخت مختنقة بدموعها: أرجوكِ أنقذيني.
مسحتُ دموعي وأنا أقول لها: ماذا فعلتِ بنفسك يا ابنتي... إلى أين أوصلكِ عنادكِ!.
فصرخت: أرجوكِ لا وقت للعتاب... أنقذيني.
حاول السيد عولمة أن يتكلم... لكن بطلتي صرخت به: اخرس أنت.
وفجأة خطرت لي فكرة... وقلتُ لها: هيا اهربي... اقفزي من شاشة اللابتوب.
فصرخت باكية: وأين أذهب!... هل أصبح مشردة في الشوارع!؟
فقلت لها وقد أعجبني الحل جداً: أعدكِ أن أجد لكِ حياتاً أخرى كريمة في قصة جديدة.
ضربتُ مشغِلها على رأسه، وبطلتي قفزت من شاشة اللابتوب...
تنفستُ الصعداء. وضحكتُ وأنا أشاهد الرجل مذهولاً من اختفائها!
والسيد عولمة في الزاوية يضحك بصخب... وقال: لايك ذهبي يا بنت... أحببتُ الحل جداً.
فقلتُ وأنا أغادر المكان: عليك اللعنة.



 Image rights are reserved to the owner


أحمد وجورج


تصادف يوم الأربعاء الموافق 28-7- 2021 يوم اندلاع الحرائق الكبيرة في  غابات عكار، يوم ميلاد جورج، ابن الثامنة والثلاثين، الذي ترك حفل ميلاده وانضم إلى زملائه من أجل إطفاء الحرائق.
كانت الحرائق هائلة... ألسنة اللهب تصل السماء بالأرض، وكأنها شرارات من الجحيم، يزأر داخلها ألف شيطان، يسكبون اللعنات على سكان الأرض. ونواح الشجر يصمّ القلوب، فوحدها القلوب النابضة، تسمع نواح الشجر.
حدثٌ مهول، استدعى تضافر جهود كل رجال الإطفاء والدفاع المدني، من جميع أنحاء لبنان.

في تمام منتصف الليل سمع رجال الإطفاء على أجهزة اللاسلكي نداء من زميلهم أحمد، بأنه محاصر ومعه رفيقه جورج المصاب ببعض الحروق، وكسرٍ في قدمه.
خبرٌ أذهل أبناء تلك القرية الشمالية، فأحمد وجورج على خلافٍ منذ حوالي السنة، والسبب أنثى زارت القرية يومها، فأحبها الشابان واختلفا بسببها. 
فغادر أحمد المنطقة.
كان ذلكَ قبل أن يتبين للجميع أنها كانت امرأة مندَّسة، هدفها زرع الفتنة بين الشباب، لإظهار أبشع صورة عن التعايش هناك.
عُرفت الحقيقة، لكن عزة النفس منعت أحمد أو جورج من أخذ المبادرة للاتصال بصديقه.
ومضى العام وكلَ صديقٍ بانتظار اتصالٍ من صديق عمره.

جاء الجواب لأحمد بأنه لم يعد بإمكان الطوافات أن تحِّلق، فالرؤية سيئة.
أجاب أحمد: أصبحنا في بقعة مطفأة والنار تبتعد عنا... سأعتني بجورج... هو يتألم لكنه يستطيع الصمود... استطعتُ أن أمدده على التراب بعد أن حفرته للتخلص من الجمر المشتعل... أعلمكم بأي جديد... اعتنوا بأنفسكم... الله معكم.
لم يجد الرجال بداً من الإذعان لما قرره أحمد، فالوضع فعلاً سيء.
كان جورج يتألم بشدة، فوضع أحمد في فمه قطعة قماش وقال له:استعد... سأحاول أن أعالج جروحك... على قدر المستطاع... اصمد يا صديقي...
عندما انتهى أحمد من عمله، نزع القماش من فم جورج وقال له:اصمد أرجوك فالفجر على وشك الطلوع.
حاول جورج أن يبتسم، لكنه تألم... فقال بعد جهد: أيعقل انكَ ما زلتَ تحبني؟
فأجاب أحمد وهو يمسح الرماد الأسود عن وجهه المتعرق: بل أكرهك... لكنني أحاول أن أقوم بدور البطل.


 جورج يتألم، التهبت حروقه وقدمه أصبحت بحجم قدم الفيل بسبب الكسر. وأحمد يحاول التخفيف عنه وتشجيعه.
ثم تكلم جورج مبادراً بفتح الموضوع فقال: لما لم تبادر للاتصال بي؟
أجاب أحمد: ولما لم تبادر أنت للاتصال بي؟... ألستُ أنا الكبير؟
حاول جورج أن يبتسم، وأجاب: يخرب بيت راسك الكبير... يبدو أن كلانا أعند من بغل..
ضحكا معاً، بين آلام جورج ودموع أحمد.
بصوتٍ خافتٍ فيه أملٌ ورجاء، بدأ أحمد يتلو أدعية لجورج كي يهدئ وينام... ثم أخذ يتلو عليه آياتٍ من القرآن... {يا نارُ كوني برداً وسلاماً على إبراهيم...}.
قاطعه جورج وقال: أحمد كرر... كرر هذا فهو مريح...
كرر أحمد الآية... إلى أن هدأ جورج قليلاً.

شقشق ضوء الفجر، سمع أحمد صوت هليكوبتر فوق رأسيهما. فهمس: جورج... هل تسمعني؟
همس جورج وهو يئن من الوجع: ما زلتُ حياً.
مسح أحمد على رأسه وقال له: حضرت الطوافة والحمد لله.

استغرق علاج جورج، حوالي الشهر. كانا كافيين لتصفى القلوب.
غادرا المشفى، وأحمد يجر كرسي مدولب عليه جورج، والناس تدعو له بالشفاء العاجل.
وصلا كاراج السيارات... أشار أحمد بيده وقال: ها هي السيا...
وقبل أن يكمل كلامه، رأى صبية جميلة تتجه صوبهما.
فقال: يؤبرني الله ومنتجاته...
أجاب جورج: اخرس... هذه خطيبتي التي أخبرتك عنها.

كانت الصبية قد أصبحت قريبة، ابتسمت وانحنت ناحية جورج تقبله وتقول: الحمد لله على سلامتك حبيبي... آسفة لأنني لم أكن موجودة.
 فأجاب: لا يهم حبيبتي المهم انكِ أتيتِ... والحمد لله على سلامتك أنتِ أيضاً.
التفت إلى أحمد وقال: أحمد أعرفك إلى جوليا...
صافحها أحمد وقال: أهلاً يا أختي...
ابتسم جورج وقال: اي هيك... حسِّن خطك عشان حبك.
وضحكا معاً لكن جوليا لم تفهم.
فابتسمت وقالت: أنا لا أفهم شيئاً.
أجابا معاً وهما يضحكان: العمر طويل أمامنا... والحكايات لا تنضب.




 Image rights are reserved to the owner



 

أزقة الذكريات


صعدتُ قطار الزمن، وجلتُ على متنه في أزقة الذكريات.
رأيتُني هناك طفلة تشع ابتسامتها، وهي تسرِّح شعر لعبتها.
سألتها عن لعبتها الحبيبة ذات الضفائر الذهبية؟
ذرفت دمعتين وآهة وقالت: قتلتها الحرب.

رأيتني يافعة ترقص في شرفة القمر، على أنغام لحن حبٍ أسمعها إياه ابن الجيران.
سألتها عن فرحة اللقاء؟!
ذرفت دمعتين وغصة، وقالت: اغتالوا براءته، وحرمونا دهشة القُبلة الأولى.

رأيتني صبية خبأت حبها الأول في زجاجة حبر، وكتبته أبجدية حب.
سألتها عن القصائد؟
أدمعت عيناها، وأجابت: طمرتها أرطال التفاهات، التي يبثها شويعروا* هذا الزمن.

رأيتني في مدرجات الجامعة، وبين يدي موسوعة "قصة الحضارة" لويل ديورانت.
سألتها عن الآمال الكبيرة؟!
بكت ابنة الخذلان وقالت: اغتالوا أحلامي... أماتوا طموحي... وحولوني إلى قهرٍ بملامح إنسان!

على ناصية الحلم التقيتُني ولم أعرفني... ابتسمت هي في وجهي الساذج.
صاحت بحنجرةٍ من وجع: ألم تعرفيني يا ابنة التيه!؟ أنا/أنتِ... أنتِ/أنا.
بكيتُ مع نفسي... على هوى/غوى صبيةٍ، شابت خُصل شعرها... يبست سنابل القمح في عينيها.

أن ترتب ذاكرتك! يــــــــا له من وجع.



* شُويعِر: تصغير شاعر. وذلك تقليلاً لشأن كتاباته.






 Image rights are reserved to the owner