أحمد وجورج


تصادف يوم الأربعاء الموافق 28-7- 2021 يوم اندلاع الحرائق الكبيرة في  غابات عكار، يوم ميلاد جورج، ابن الثامنة والثلاثين، الذي ترك حفل ميلاده وانضم إلى زملائه من أجل إطفاء الحرائق.
كانت الحرائق هائلة... ألسنة اللهب تصل السماء بالأرض، وكأنها شرارات من الجحيم، يزأر داخلها ألف شيطان، يسكبون اللعنات على سكان الأرض. ونواح الشجر يصمّ القلوب، فوحدها القلوب النابضة، تسمع نواح الشجر.
حدثٌ مهول، استدعى تضافر جهود كل رجال الإطفاء والدفاع المدني، من جميع أنحاء لبنان.

في تمام منتصف الليل سمع رجال الإطفاء على أجهزة اللاسلكي نداء من زميلهم أحمد، بأنه محاصر ومعه رفيقه جورج المصاب ببعض الحروق، وكسرٍ في قدمه.
خبرٌ أذهل أبناء تلك القرية الشمالية، فأحمد وجورج على خلافٍ منذ حوالي السنة، والسبب أنثى زارت القرية يومها، فأحبها الشابان واختلفا بسببها. 
فغادر أحمد المنطقة.
كان ذلكَ قبل أن يتبين للجميع أنها كانت امرأة مندَّسة، هدفها زرع الفتنة بين الشباب، لإظهار أبشع صورة عن التعايش هناك.
عُرفت الحقيقة، لكن عزة النفس منعت أحمد أو جورج من أخذ المبادرة للاتصال بصديقه.
ومضى العام وكلَ صديقٍ بانتظار اتصالٍ من صديق عمره.

جاء الجواب لأحمد بأنه لم يعد بإمكان الطوافات أن تحِّلق، فالرؤية سيئة.
أجاب أحمد: أصبحنا في بقعة مطفأة والنار تبتعد عنا... سأعتني بجورج... هو يتألم لكنه يستطيع الصمود... استطعتُ أن أمدده على التراب بعد أن حفرته للتخلص من الجمر المشتعل... أعلمكم بأي جديد... اعتنوا بأنفسكم... الله معكم.
لم يجد الرجال بداً من الإذعان لما قرره أحمد، فالوضع فعلاً سيء.
كان جورج يتألم بشدة، فوضع أحمد في فمه قطعة قماش وقال له:استعد... سأحاول أن أعالج جروحك... على قدر المستطاع... اصمد يا صديقي...
عندما انتهى أحمد من عمله، نزع القماش من فم جورج وقال له:اصمد أرجوك فالفجر على وشك الطلوع.
حاول جورج أن يبتسم، لكنه تألم... فقال بعد جهد: أيعقل انكَ ما زلتَ تحبني؟
فأجاب أحمد وهو يمسح الرماد الأسود عن وجهه المتعرق: بل أكرهك... لكنني أحاول أن أقوم بدور البطل.


 جورج يتألم، التهبت حروقه وقدمه أصبحت بحجم قدم الفيل بسبب الكسر. وأحمد يحاول التخفيف عنه وتشجيعه.
ثم تكلم جورج مبادراً بفتح الموضوع فقال: لما لم تبادر للاتصال بي؟
أجاب أحمد: ولما لم تبادر أنت للاتصال بي؟... ألستُ أنا الكبير؟
حاول جورج أن يبتسم، وأجاب: يخرب بيت راسك الكبير... يبدو أن كلانا أعند من بغل..
ضحكا معاً، بين آلام جورج ودموع أحمد.
بصوتٍ خافتٍ فيه أملٌ ورجاء، بدأ أحمد يتلو أدعية لجورج كي يهدئ وينام... ثم أخذ يتلو عليه آياتٍ من القرآن... {يا نارُ كوني برداً وسلاماً على إبراهيم...}.
قاطعه جورج وقال: أحمد كرر... كرر هذا فهو مريح...
كرر أحمد الآية... إلى أن هدأ جورج قليلاً.

شقشق ضوء الفجر، سمع أحمد صوت هليكوبتر فوق رأسيهما. فهمس: جورج... هل تسمعني؟
همس جورج وهو يئن من الوجع: ما زلتُ حياً.
مسح أحمد على رأسه وقال له: حضرت الطوافة والحمد لله.

استغرق علاج جورج، حوالي الشهر. كانا كافيين لتصفى القلوب.
غادرا المشفى، وأحمد يجر كرسي مدولب عليه جورج، والناس تدعو له بالشفاء العاجل.
وصلا كاراج السيارات... أشار أحمد بيده وقال: ها هي السيا...
وقبل أن يكمل كلامه، رأى صبية جميلة تتجه صوبهما.
فقال: يؤبرني الله ومنتجاته...
أجاب جورج: اخرس... هذه خطيبتي التي أخبرتك عنها.

كانت الصبية قد أصبحت قريبة، ابتسمت وانحنت ناحية جورج تقبله وتقول: الحمد لله على سلامتك حبيبي... آسفة لأنني لم أكن موجودة.
 فأجاب: لا يهم حبيبتي المهم انكِ أتيتِ... والحمد لله على سلامتك أنتِ أيضاً.
التفت إلى أحمد وقال: أحمد أعرفك إلى جوليا...
صافحها أحمد وقال: أهلاً يا أختي...
ابتسم جورج وقال: اي هيك... حسِّن خطك عشان حبك.
وضحكا معاً لكن جوليا لم تفهم.
فابتسمت وقالت: أنا لا أفهم شيئاً.
أجابا معاً وهما يضحكان: العمر طويل أمامنا... والحكايات لا تنضب.




 Image rights are reserved to the owner



 

No comments:

Post a Comment