ترويض الخيال المجنون


كنتُ طفلة بريئة حدَّ السذاجة... 
تقول أمي أنني كنتُ أروي الحكايات وكأنني "حكواتية" أصيلة وعتيقة. كانت جارة أمي تحبني جداً وتخاف عليَّ من "صيبة العين" فتحاول جاهدة أن تسكتني عندما "تفيض قريحتي" الحكواتية أمام أحد. لكنني لا أسكت قبل أن أنهي الحكاية الخيالية التي نسجتها في مخيلتي المسافرة دائماً فوق الغيوم.
أذكر أنني ذات سفرٍ على أجنحة خيالاتي الكثيرة، قررتُ أنني عندما أكبر سوف أطلب من النجار أن يصنع لي أطول "سُلَم" في العالم! كي أصل إلى الغيوم البيضاء التي كنتُ اعتقدها ثلجاً، حيث أبني لي منزلاً هناك وأعيش مع العصافير.

وكبرتْ... وليتني لم أفعل.
اكتشفتُ مع مرور الأعوام واتساع مخيلتي، أنني مهما اجتهدتْ ومهما بالغت في الخيالات، فلن أصل إلى مستوى الفرحة الساذجة التي كنتُ أشعر بها مع خيالات الطفولة تلك.
لكنني تعلمتُ أن أكون ممتنة لخالقي سبحانه على موهبة "الخيال المجنون" الذي منحني. فبفضل هذا الخيال الجامح، استطعتُ ترويض آلامي وأحزاني واتخذتها "سلماً" أصعد من خلاله إلى غيوم الوحدة، حيث بنيتُ لي بيتاً/عالماً هناك، حيث أعيش بين دفتي كتب، أبحر على بياض الورق ومجدافي... قلم.



Images rights are reserved to their owners

  

في ضيافة الشيطان

 
لكثرة ما لعنتُ الشيطان... خطفني!
كان ذلكَ بعد معركة حامية الوطيس شهِدّتها على محطة البنزين، بين مجموعةِ شبانٍ على أفضلية التقدم، والسيارات تصطف رتلاً يمتد طوله أكثر من كيلومتر!

ابتعدتُ عن المكان وأنا أشتم وألعن الشيطان، ألن تنتهي ألاعيبكَ بنا أيها المطرود من رحمة الله!؟
لم أحصل على وقود لسيارتي!... طبعاً لم أحصل، أنا لا أملك سيارة أساساً، كنتُ أمرُّ من هناك صدفة.


فجأة!... وجدتني في مكانٍ غريبٍ مرعب!
غابة كثيفة الأشجار، والليل حالك الظلمة. في الأجواء هسيسٌ مخيف، لم أفهم كنهه، وكأنه عويلٌ من جهنم، أو تراتيل مخلوقاتٍ شيطانية.
أين أنا؟... نظرتُ حولي، كانت ضربات قلبي وكأنها قرع طبول، وفي حلقي صحراءٌ جافة. حتى الدموع لم تسعفني!
أغمي عليَّ... بعد أن سمعتُ صوتاً!... استفقتُ ورائحة الكولونيا في أنفي... كنتُ بين يدي رجلٍ وسيم أنيق تفوح منه رائحة عطرٍ مميز، لم يسبق لي أن شممتُ مثيلاً له.
ناولني كوب ماءٍ وهو يبتسم... ثم قال: هوني عليكِ أنتِ في أمان ولا داعي للخوف.

بدأتُ أهدأ عندما لاحظتُ وجود امرأة معه، هي أيضاً كانت رائعة الجمال.
أجلستني على بساطٍ سميك، وناولتني قطعة من الشوكولا، ابتسمت وقالت: يبدو أن الرعب قد جفف عروقك، سيساعدك السكر على استعادة لون وجهك.
تناولتها بهدوء، ثم نطقتُ أخيراً: أين أنا؟ ومَن أنتما؟
ابتسم الشاب وقال وفي عينيه وميض: أنتِ في مملكة الشيطان.
ضحكتُ للطرفة... ضحكتُ إلى أن سالت دموعي وأصابني السعال.
ثم قلت: حلوة منك... لم يسبقكَ عليها أحد. يبدو أنكَ رائق البال، وتريد أن تتسلى بي.
أجابت المرأة: صدقيه عزيزتي فهو إبليس وأنا الشيطانة ليليث. ألم تسمعي عنا!؟
ضحكتُ مدداً، فهدر الرجل بصوتٍ أصابني بالخرس، ثم قال: توقفي عن الضحك، لسنا هنا لتسليتك.
ازدرتُ ريقي وقلت: هل تقسمان بالله أنكما لا تتلاعبان بي؟
أجاب الرجل بابتسامة خبيثة: شيطانٌ ويقسم بالله!!!
انتحبتُ وقلت: مَن أنتما وماذا تريدان مني؟... فدية؟... عائلتي تحت خط الفقر، و...
قاطعتني المرأة وقالت: لا نريد فدية من أحد، وإن وافقتِ سوف نعطيكِ ثروة.
خدرٌ غريبٌ تغلغل في شراييني، فوجدتني أستسلم للعبة.
فقلت: حسناً... صدقتكما... فماذا تريدان مني؟
أجاب الرجل: أحضرتكِ إلى هنا لأقدم لكِ الدليل على أنني بريءٌ من أفعال البشر، فهم مَن يوحي إليَّ بما يريدونه من خططٍ ومؤامرات!
ضحكت بسخرية وقلت: شيطان وتريد أن تقنعني أن البشر هم مَن يوحون إليكَ بشيطنتهم!؟
أجاب بهدوء: أجل... ويجب أن تقتنعي.
أجبتُ باستسلام: حسناً... موافقة أقنعني، المهم بسرعة كي أعود إلى المنزل قبل أن تقوم عائلتي بالإبلاغ عن اختفائي.
ابتسم بارتياح وأجاب: لا تقلقي بهذا الشأن.
ساعدتني "ليليث" على الوقوف، لنبدأ في رحلةٍ داخل الغابة.
سألني بيلي (طلب مني أن أناديه بهذا الاسم): من أين تريديننا أن نبدأ؟
أجبت بتصميم: من انفجار مرفأ بيروت.

اصطحبني إلى مبنى ضخم، فيه عشرات الموظفين، شاشات كومبيوتر ضخمة- شاشات تلفزيون- أجهزة تنصت- أجهزة بث وإرسال...
يا إلهي... ما هذا؟ سألتُ بقلق.
أجاب بيلي: هنا مركز مخابراتنا... نستخدمه حالياً لنعرف مَن المسؤول عن هكذا انفجار!
فقلت بحماس: إذن؟... مَن فعلها؟
استاء بيلي ومعه ليليث!... وقالت الأخيرة: والله لم نعلم حتى الآن مَن المسؤول، فكلما دخلنا إلى عقل أحدهم، أحالنا إلى مئة عقلٍ غيره!
صرخت: لكنكم أنتم مَن وسوس لهم بهذه الفعلة، فلمن وسوستم؟ وفي عقل مَن رسمتم هذه الكارثة؟
تفت ليليث في صدرها كما تفعل الجميلات في مصر الحبيبة وأجابت: معاذ الله أن نوحي لشخص بهكذا كارثة، منتهى قدراتنا أن نوسوس لشخص أن يضرب الآخر أو يُطلق عليه النار، لكن أن يبيد مدينة!!!!... لا وألف لا، هل انعدم ضميرنا إلى هذه الدرجة!!!

بكيتُ... ثم ضحكت بهستيريا... ثم بكيت بتفجع... ثم ضحكتُ...
صفعني بيلي وقال: اهدئي... هل ستنهارين الآن؟... لم نبدأ بعد.
وصلنا إلى صالة تمتد كمدينة، تحيط بها شاشات ضخمة، تعرض ما يشبه البورصة... و... فجأة رأيته!... كان يعطي محاضرةٍ عن المال والاقتصاد.
صرخت: هذا؟... انه...
ضحك بيلي وأجاب: فوجئتِ؟...
شتمته أعني المحاضر وقلت: وماذا يفعل هنا!؟
أجاب بيلي: هذا أقدم أساتذة الاقتصاد هنا.... بروفسور في نهب الخزينة وإفلاس الدول.
حاولتُ أن أحلل الموضوع في عقلي... (هذا ال....) يعلم الشياطين؟... أم الشياطين يعلمون أمثاله؟
أغمي عليَّ... رشتني ليليث بعطر جميل الرائحة، استفقت وقلتُ بغصة: متى تنتهي هذه الرحلة ؟!
قالت بحزم: لا... ما زال أمامك الكثير لتريه.

أخذتني إلى مكانٍ أشبه بمنتجع أو "سبا" كبير جداً، نساء... نساء... آلاف النساء... أزياء... عطور... مكياج... اكسسوارات... وكل ما له علاقة بالنساء!
شتمتها وقلت: هنا تم إعدامِ المودة الزوجية، وقتل قيم العائلة بدمٍ بارد.
أجابت وعلى ثغرها ابتسامةٌ ساخرة: لم نفعل سوى أن علمنا النساء بعض الخدع لتصبح أجمل في عين الرجل.
أجبتُ باستياء: لكنكِ علمتها التمرد على الرجل!
أجابت: لا... هي علمت نساء جنسها التمرد، ها أنا مطيعة لبيلي الحبيب إلى الأبد.
أرسل لها قبلة في الهواء.

حملني بيلي بين ذراعيه كما يحمل "شوال البطاطا"، وأوقفني أمام!... ما هذا!؟... لم أفهم... على عرشٍ عرضه صفحة السماء، يتربع الدولار و... ما هذا؟! سألتُ بيلي.
أجاب الأخير: الدولار...
يبدو أن ملامح وجهي كانت مضحكة، فليليث ضحكت بطريقة هستيرية وهي تقول: يا لها من طفلة ساذجة... هبلة... هبلة...
بكيتُ بسبب التنمر، فربت بيلي على كتفي وقال: هي تمازحك لا تبكي... يا عزيزتي ما ترينه هو معبد لعبادة المال... وعلى العرش فوق توجنا الدولار.
كفكفتُ دموعي وسألته: وماذا تفعل هذه الجموع الساجدة تحت أقدامه!؟
أجاب بيلي: تقدم فروض الولاء والطاعة...
قلت بدهشة: للمال!؟...
دهِش بدوره وقال: لا تقولي انكِ فوجئتِ!؟... فأين تعيشين أنتِ؟
أجبتُ بإحباط: حسناً... طبعاً عبادة المال هي دين العصر... لكن!... هل من أساليب أخرى للنهب تعلمهم إياها؟... ثم تدَّعي انك بريء من أفعالهم!
ابتسم باستهزاء وأجاب: وغضبتِ من ليليث حين نعتتكِ بالهبلة!... يا صغيرتي هم يأتون إليَّ، يضعون أمامي كل المعطيات التي بين أيديهم لنهب الأموال... أنا فقط أفتح لهم الطريق وأضع لهم ثغراتٍ يدخلون منها لإعطاء المشروعية لنهبهم المنظم.
جلستُ على الأرض "أبحت" كما يفعل طفلٌ لم يُستَجَب طلبه وقلت: لم أعد أحتمل... أعيدوني إلى أمي... أعيدوني إلى منزلي...
قال بيلي: بقي أمرٌ أخير أريدكِ أن تريه.

اصطحبني إلى ما يشبه ملعب كرة قدم، مساحة لا نهاية لها، أطفالٌ من جميع الأعمار، والألوان والأعراق... بنات وصبيان... يبكون ويلعنون كلما ظهر على شاشة السماء صورة زعيمٍ عربي... من أكبر ملكٍ إلى أصغر مسؤول حكومي...
أشرتُ إلى ما أرى أسأل دون كلام، فأجابت ليليث: إنهم أطفالي الأحباء... يلعنون كل مَن يشارك في قتل وظلم الأطفال حول العالم...
نظرتُ إلى بيلي وقلت: ألستَ أنتَ مَن تزين لهم الحروب واحتلال الدول، وقتل البشر!؟
أجاب: هل رأيتِ يوماً شيطاناً يقود طائرة حربية؟!... هل سمعتِ يوماً عن مملكة يحكمها شيطان، قامت باحتلال مملكة شيطانية أخرى!؟
نحنا منذ خلقنا الله نعيش في سلامٍ فيما بيننا. نخرج إلى دنيا الإنس لنقوم بعملنا، فمن استدعانا لبيناه، ومَن حاربنا بآية الكرسي كفيناه شرنا.
أغمي عليَّ...


عندما فتحتُ عيني، وجدتني في غرفةٍ بيضاء. ابتسم شخصٌ في وجهي وقال: الحمد لله على السلامة.
وضعتُ يدي على رأسي المتألم وقلت: أين أنا؟
أجاب الرجل: أنا الدكتور يوسف، أنتِ في المستشفى، لقد تلقيتِ ضربة على رأسك وأنتِ تمرين أمام محطة البنزين، هل تذكرين؟
أجبت: لا... لا أذكر... فقط أذكر إنني كنتُ مع الشيطان في رحلة.
ضحك الدكتور وأجاب: الفكاهة دليل تعافي... الحمد لله على سلامتك... سوف أنادي عائلتك.

 

 

 Images rights are reserved to their owners