والدي ما أروع قلبك

 
يوم توفيت والدتي الحبيبة، لم يكن والدي قد تجاوز بعد الأربعين من عمره، وكنتُ أنا ولده البكر، وقد تجاوزتُ للتو سنواتي الخمسة عشر، أما شقيقي الأصغر فقد كان في العاشرة من عمره.
توطدت علاقتنا بوالدنا كثيراً، فقد أصبح بالنسبة لنا الأم والأب معاً. كل هذا ولم نكتشف سوى متأخِرَين جداً أننا كنا نحمِّله فوق طاقته، وأننا تعاملنا معه بأنانية جمة، لا بل أننا تمادينا في إيلامه، أنا خاصة، لدرجة أننا حرمناه من الهناء وراحة البال. كل ذلك وهو لا يشكو ولا يتذمر بل يأخذنا باللين والعطف والدعاء بأن يهدينا الله الى ما فيه هدوء حالنا وحاله معنا.
أمضينا عاماً في حداد على والدتي، ووالدي يعتني بنا، ويؤثرنا على راحته الشخصية.
 بعد مضي عامين على وفاة والدتنا، بدأنا نسمع من جدتي كلاماً جديداً لم نستوعب كنهه فوراً. كان الكلام عن وحدة والدي وعن ضرورة وجود امرأة في المنزل، موضوع رفضه عقلي الباطن لدرجة أنني أقنعتُ نفسي أن جدتي بالتأكيد تريد القول بأن على والدي أن يستحضر خادمة لتُعنى بشؤون المنزل، لأنها هي أصبحت عجوزاً ومتعَبة.

دعانا والدي إلى تناول الغذاء في مطعمِ نختاره نحن على ذوقنا، بمناسبة انتهاء العام الدراسي الذي أنهيناه، شقيقي وأنا، بنجاح. أمضينا نهاراً رائعاً برفقة والدي الذي فاجأنا بهدايا رائعة.
عدنا مساءً إلى المنزل سعداء سكارى بالفرح، فطلب منا والدي أن نعقد اجتماع عائلي كي نتباحث في أمر هام.

لن أدخل في تفاصيل اللقاء والأحاديث التي جرت، لكنني سوف أختصر لأقول أن والدي قد شاورنا بأمر زواجه! صعقني الخبر وشل تفكيري.
بعد استيعاب الصدمة، رفضت، وقدمتُ كل الحجج الممكنة لتبرير رفضي، لكنها لم تقنع جدتي، التي أصرت على أن والدي ما زال في ريعان الشباب وأنه بحاجة لامرأة.

كنت في ذلك الوقت قد بدأتُ أكوِّن أفكاري الخاصة عن العلاقات الجنسية بين رجل وامرأة، لكن ذلك لم يكن كافياً كي أفهم ماهية الحاجات الجسدية والروحية لرجل أربعيني في عنفوان شبابه. فقد رفضتُ زواجه وآلمته كثيراً بتصرفاتي وكلامي، لكنه كان كدأبه دوماً والداً عظيماً ذا قلبٍ مفعمٍ بالحب والتسامح، فقد أصرّ على محاورتي والتأكيد لي بأنه سيبقى إلى الأبد والدنا وأن لا إنسان ولا شيء سوف يبعده عنا... فوافقتُ أخيراً لا لشيء، فقط لأجله هو، فقد كنتُ أحبه وأريد أن أرضيه.

أتت المرأة الغريبة إلى المنزل، فوضعتُ بيني وبينهاً حاجزاً كبيراً منذ اللحظة الأولى، ولم أسمح لها بتخطيه مهما حاولتْ.

وها أنا اليوم أعترف بأنني قد أتعبتها جداً، فقد حاولتْ المسكينة المستحيل كي تزيل هذا الحاجز، لكنني كنتُ أمعِنُ في إيذائها وفي إيلام والدي، لكن لا والدي ولا هي، وأشدد على كلمة، ولا هي، قد عاقباني يوماً على ما أفعل أو أقول، بل كانا يحتويان الموقف بكثير من الحكمة والتروي، إلى أن أهدأ قليلاً، فيسير المنزل هادئاً فترة من الوقت الى أن أجن مجدداً فأعاود إثارة المشاكل... وهكذا مرت السنوات.

أنا اليوم في الأربعين من عمري، متزوج ولي أولاد، وأعيش حياتاً أشبه بالجحيم، فزوجتي امرأة أنانية ومستهترة لا هم لها إلا المال... ثم المال. كانت شراكتنا الروحية والعقلية معدومة، فهي في عالم تفاهة التسوق ومعاهد التجميل وأنا في عملي واهتماماتي الأدبية.
ماذا يبقيني معها؟!... طبعاً الأولاد.

الآن فهمتُ حاجة الرجل لأن تشاركه امرأة في أدق تفاصيل حياته، إمرأة تمنح من روحها، وتنشر الدفء في الزوايا والحرارة في القلوب.
الآن فهمت أن الأولاد أهم جزء في مشاعرنا، لكن الرجولة فينا لا ترويها سوى امرأة تجيد فن التحاور مع حاجاتنا ومتطلبات إنسانيتنا ورجولتنا.


أولادي الأعزاء سامحوني... فأنا أحتاج لامرأة تشاركني حياتي، وتملأ الفراغ في قلبي.
والدي أيها العظيم في أبوته، والعظيم في رجولته، سامحني على كل سنوات الطيش والولدنة وعدم الفهم التي عشتها معك وآلمتك بها أشد الألم، في وقتٍ كنتَ تمنح فيه الحب والتفهم والاحتواء، المشاعر التي ما زلتَ حتى الآن تغمرنا بها، شقيقي وأنا، بكل ما في قلبك من طيبة وروعة.




Images rights are reserved to their owners









 


مع مرتبة الشرف


قال موظف المطار بفرنسيته المتقنة: آسف لقد ضاعت حقيبتك.
فشكرته بفرنسيتي الركيكة.
طلب مني بفرنسيته المتقنة أن أرافقه إلى الإدارة لتحرير شكوى.
ومجدداً شكرته بفرنسيتي الركيكة، ورفضتُ تقديم شكوى!
حاول أن يشرح لي الموقف، معتقداً أنني لم أفهمه بسبب ضعف لغتي الفرنسية، لكنني أكدتُ له أنني فهمته جيداً، حقيبتي قد ضاعت، وأنا لا أبالي لفقدانها، فما نفع الحقيبة وأنا قد أضعتُ الطريق.

... تركته غارقاً في ذهوله، وفمه مشدوه حتى آخر قطرة غباء على شفتيه.
التفتُ إليه وهو على تلك الحال وقلت صارخة: لا يهم أن أجيد لغتك، وأن تجيد لغتي، فبيننا سوء فهم ثقافي أيها الذكر.

ووجدتني في مطار الغرباء كمتسولة، ليس لي من المتاع سوى جراب مليء بالأحزان والدموع. وعلى كاهلي ذاكرة لها منقار نسر ينقر جرحي النازف الذي يأبى أن يتوقف عن نزف القيح وغثيان القرف.
نظرتُ الى وجوه الغرباء التي ليس لها ملامح، أين أنا؟ ومن أنا؟
وأين كنتُ قبل أن أحضر إلى هنا؟

سألتني المرأة الغبية التي تنام طويلاً في أعماقي عما أفعله وحدي في البلد الغريب؟
فقلت لها أن الزمن قد منحنا وسام الاستحقاق مع مرتبة الشرف في فن الغباء والحماقة، فللمرة الثالثة نتلقى طعنة العشق المسمومة من يدٍ ما أرادت سوى تجريدنا من كبريائنا، وتوجيه طعنة إلى قلبنا الذي ما طلب سوى الدفء في زمن الغربة والصقيع.
يا صاحبة الكبرياء والعظمة، يا ذاتي، هنيئاً لكِ تاج "الحمرنة" مع مرتبة الشرف.





Image rights are reserved to the owner















غولدا مائير نسخة عربية


اعتدت من الدنيا مزاحها الثقيل، فلطالما تركتني بقلبٍ ينزف أحزانه... ونحيبه. ما جعلني من ذوي الأمزجة الميالة للكآبة الدائمة، حتى لكأن الفرح يندم إن زارني هنيهة.

زارتني جارة لي من ذلك النوع من النساء الذي يعرف مخرجاً لكل مأزق وحل لكل مشكلة. فقالت بابتسامتها الواثقة "صدقيني يا امرأة، الحل الوحيد هو أن تزوري طبيباً نفسياً كما أفعل أنا... وها أنا أنظري كيف أبدو دائماً فرحة ومتألقة رغم أن زوجي قد تركني مع ستة أولاد"!
والله لا أخفيكم سراً فقد أعجبني الاقتراح، وقلت لنفسي لما لا أيتها الخائبة، لعل لدى هذا الطبيب عصا سحرية، تحوِّل شقائي إلى فرح.

... وهكذا زرتُ الطبيبة التي تزورها جارتي.
بدأت الجلسة، بتفاهم وتناغم امرأتين اختبرتا نفس مصاعب ومِحَن وشؤون الحياة وفنونها وضروبها. فكم ضحكنا على مواقف نتعرض لها نحن النساء دائماً.
وهكذا إلى أن حان موعد الجد، فبدأت أخبر الطبيبة عن معاناتي وما أقاسي في الحياة، كنتُ أضحك أحياناً من ذكريات تدمع لها الطبيبة فأندهش، ثم أبكي بسبب ذكرى ما، فتبتسم وتقول لا عليكِ كل شيء سيكون بخير.
والله أحسستني ألعب أمامها في فيلم كوميدي، فإن بكيتُ ابتسمت، وإن ضحكتُ دمعت عيناها، حتى خلتُ أن خللاً قد أصاب جو الغرفة كان يوصل كلامي معكوساً الى أذنيها، لكنها أكددت لي مراراً أنها تسمعني جيداً، وتفهمني أكثر من نفسي حتى.

بعد مرور أكثر من ساعة على جلستنا، شخصت حالتي على أنها حساسية مفرطة في مشاعري، تجعلني في قمة الألم كلما تألم شخص أمامي، حتى لو كان ذلك في مسلسل تركي تافه، وأرق دائم يستوطن في ضميري، لدرجة أنه لا ينام ولا لحظة ليريح ضميره من التأنيب على أقل الخطايا والذنوب.
طبعاً لم أفهم التشخيص، لكنني سألتها "ما الحل يا دكتورة؟"
فأجابت بثقة عالية: إجراء عملية قطع الوتر الذي يربط ضميرك بعقلك، وتناول دواء مدى الحياة يخمد الأحاسيس في دمكِ ويجمد الحس الإنساني فيكِ!
وافقتُ على إجراء العملية، ومررتُ في طريقي على الصيدلية لصرف الدواء. ابتسم الصيدلي الشاب، معتقداً إنني أمازحه لغاية في نفس يعقوب، فقال: ما رأيكِ أن نتناول غداءاً صحياً أفضل من ألف دواء يصفه الطبيب. فشكرته وأوضحتُ له أن زوجي الغيور وأطفالي الخمسة بانتظاري لأحضر لهم الغداء.

خرجتُ مسرعة، فإذا بصوت يناديني، التفتُ فإذا به عجوز يحمل عكازاً، سبق ولمحته منذ قليل داخل الصيدلية.
قال ووجهه ينضح طيبة: عذراً يا ابنتي لكنني سمعتُ حواركِ مع الصيدلي صدفة.
فأجبتُ بخجل: لقد أساء فهمي.
فقال: أعذري شبابه، ما زال عظمه طرياً على هكذا أمور... ما رأيكِ أن أقترح عليكِ طريقة تستفيدين فيها من علاج طبيبتكِ، وتكرسين فيها شخصيتكِ الجديدة؟


بناءاً على اقتراح العجوز الحكيم الذي أعجبني منطقه، ها أنا الآن أبحث عن وظيفة!...
المؤهلات؟... سوف أخضع قريباً لعملية قطع الوتر الموصل بين ضميري وعقلي.
أتعهد بتناول دواء مخدِّر للمشاعر والأحاسيس مدى الحياة، كي أقضي على عادتي السيئة جداً بالتعاطف مع مشاكل الناس.
كما سيتم وضع جهاز في أذني، يمنعني من سماع الانتقادات... والشتائم.
الوظيفة المطلوبة: رئيسة دولة من دول العالم الثالث!.
ومن يجد لي وظيفة سوف أمنحه عمولة خاصة جداً، بأن أجعله رئيساً للوزراء!







Images rights are reserved to their owners






   

سيبويه


يسوؤني في زمن الإنترنت، ما يحصل من مجازر بحق اللغة العربية. جلستُ ليلة البارحة أبحث عن أسماء رواد أعطوا للغة حقها من الدرس والشرح والتفسير، فجأة سطع من شاشة الكومبيوتر نورٌ باهر، قفز منها رجل بملابس غريبة، ووقف أمامي مشدوهاً.

نظرنا الى بعضنا بدهشة!
وسرعان ما غرقتُ في الضحك بعد أن استوعبتُ الموقف، خلتني أشاهد مسلسلاً تاريخياً، لغرابة لباس الرجل.

تنحنح بعد ان استفاق من ذهوله، وقال: من أنتِ يا فتاة؟
فقلتُ: ولكن أنت اقتحمت خلوتي، فمن أنت؟
فقال: ألم تكوني توقظين الأموات في قبورهم؟
فأجبتُ متسائلة: أنا؟... وما دخلي بالأموات يا هذا؟
فقال: يا امرأة الم تكوني تبحثين عن رواد اللغة العربية ودارسيها وشارحيها؟
فقلتُ: أجل.
فقال: إذن كنتِ توقظين الأموات!.
فضحكتُ وقلتُ: والله معك حق، فاللغة أصبحت ميتة وعباقرتها قد انقرضوا.
فأجاب: حسناً يا امرأة، توقفي عن الضحك وتأدبي في حضرتي وأخبريني من تكونين؟
فقلتُ: وما رأيكَ لو تقدم نفسك أنت إليَّ؟ فأنت قد اقتحمت خلوتي لا العكس.
فقال بفخر: هل سمعتِ يا امرأة بسيبويه؟
فقلتُ: ألف رحمة ونور على روحه لا بد أنه يتعذب الآن بسبب المجازر التي تُرتكب بحق اللغة العربية وقواعدها.
اتسعت عيناه دهشة وقال: وهل تُرتكب المجازر بحق اللغة العربية؟
فقلتُ: كل دقيقة مليون مجزرة.
فصرخ: يا إلهي ماذا تقولين يا هذه؟
أجبتُ ببراءة: والله العظيم.
فقال: أين يجري ذلك ومن يفعله؟
فقلتُ: الفايسبوك.
ابتسمت أساريره وقال: أنتِ جنية يا امرأة وتنطقين بكلام الجن.
فقلتُ: بل أنا إنسية من بني البشر.
فقال: إذن ما هذا الذي تتفوهين به؟
فقلتُ: أحدثك عن الفايسبوك والكومبيوتر والنت.
زعق في وجهي مرعوباً: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم... انصرفي... انصرفي.
يا إلهي كم أضحكني رعبه، وتعابير الهلع على وجهه، لكنني تفهمتُ صدمة الحضارة التي أصابته، وقلتُ بهدوء: يا سيبويه لا تخف أنا انسية وكلامي ليس سوى تعابير عصرية نستخدمها في زمننا الحاضر.
فهدأ قليلاً وقال: هلا شرحتِ لي ما تعنين، وإياكِ يا هذه أن تنزليني من مقعد أستاذيتي لكِ ولك عربي؟
فقلتُ: حاشاك أستاذي سوف أشرح لك، ولن أخبر أحد.

طلع الفجر علينا وأنا أشرح لسيبويه عن الجهاز الذي قفز منه، وعن الشبكة العنكبوتية. وصاح الديك وزقزقت العصافير إيذاناً واحتفالاً بسيبويه وفهمه العميق لما أقول ولكل ما رأى.

نظر إليّ بعد أن انتهى الشرح وقال: حسناً يا فتاة والآن أخبريني من تكونين؟
فقلتُ: أنا لينا شباني.
فأجاب: لا يعنيني اسمك. أنا أسألكِ من تكونين يا هذه، ماذا تفعلين في هذه الحياة؟ وما هي رسالتك؟
فقلتُ: عندما ولدتني أمي سقطتُ سهواً في محبرة، فنشأتُ هاوية للأدب وعاشقة للغة العربية، وقد أنشأتُ مدونتي الخاصة، وبدأتُ أجمع من حولي بعض الأصدقاء الذين يتابعون كتاباتي ويعجبون بقلمي... آسفة أقصد يعجبون بأناملي التي تطبع على الكيبورد... أقصد...
فقال بضيق: حسناً... حسناً فهمتُ قصدك... هيا يا فتاة أقرئيني شيء من كتاباتك كي أحكم بنفسي.

عرضتُ عليه بعضٌ من كتاباتي المتواضعة... فقال: حسنًا لا بأس بلغتك العربية، لكن عليكِ أن تعملي كثيراً لأجل تطويرها والتعمق بها والغوص في خفاياها.
لن أخفيكم سراً لقد سرني كلامه، فأن يقول سيبويه عن لغتي لا بأس، في زمن تكتب فيه كلمة شكراً (شكرن) فهذا شرف عظيم.
فقلتُ له متأففة: ما زلتُ أفضل من غيري يا سيبويه...
فقاطعني وقال: تأدبي يا بنت.
فقلتُ: آسفة أستاذي العظيم، أقصد أن أقول أنني ما زلتُ أفضل بكثير من غيري ممن يدَّعون الكتابة، ويحملون بدل القلم سكين الجهل، يرتكبون به المجازر بحق اللغة.
فقال: هلا شرحتِ لي أكثر؟

أدخلته الى الفايسبوك وعرضتُ عليه بعض النماذج.
شخص لن نسميه كتب:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ
بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
فَتُوْضِحَ فَالمِقْراةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُها
لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وشَمْألِ

ابتسم وقال: امرؤ القيس...كم أحب هذا الولد، مع أنه سكير وماجن ولكنني أحببته دائماً.
فقلتُ: وأنا أيضاً أستاذي أحبه، وقد أحببته أكثر بعد أن شاهدتُ مسلسلاً تلفزيونياً يروي سيرته.
فقال: يا بنت يا عفريتة، أنتِ لم تحبِ امرؤ القيس، بل يبدو أنك قد أحببتِ الممثل.
فضحكتُ وقلتُ: لقد كان ممثلاً وسيماً.
فضحك وقال: أرأيتِ إياكِ أن تكذبي على أستاذك.
ثم تنبه لما يجري وقال بدهشة: وهل لامرؤ القيس صفحة على الفايسبوك؟
فقلتُ: لا لم يسبق أن أيقظتُ أحداً غيرك من نومه... أقصد من موته. أفلم تلاحظ أن اسمه غير موجود؟
فقال: أجل... أيعقل أنه يتخفى وراء اسم مستعار؟
فقلتُ: لا بل أن الشخص صاحب الاسم هو من يختبىء من جهله بأن "يلطش" أشعار وقصائد العظماء ليضعها باسمه، وأنظر بعينك كي يمدحه الجميع كونه أشعر الشعراء.
فضحك للدعابة وقال: لكنه طبعاً في النهاية يوضح الأمر ويخبرهم بالحقيقة؟
أومأتُ برأسي أن كلا.
أصيب سيبويه بالصدمة، فقررتُ أن أصدمه للنهاية، فقلتُ: أنظر كيف يشكر الجميع، وبأي لغة.
"شوكرن أصديقاءي على المرور حلو".
فقال سيبويه: ما هذه اللغة التي يكتب بها؟
فقلتُ: العربية.
فغضب وقال: ألن تكفي عن الهزء بي يا امرأة؟!
فقلتُ: والله أنه يكتب بالعربية.
فأجاب بضيق: حسناً وماذا يقول يا فالحة.
قرأتُ له الجملة: شكراً أصدقائي على مروركم الجميل.
ضحك سيبويه وقال: طبعاً هم يكتشفون من تعليقه أنه لا يجيد خط كلمة واحدة صحيحة، فكيف بقصيدة كهذه؟.
نظرتُ اليه ببراءة المغلوب على أمره... فقال: لا
أومأتُ برأسي وأجبتُ: لا

وبدأتُ أخبره عن المجازر والمهازل التي تجري على النت، وقلتُ أنظر أستاذي سوف أريك شيئاً...
انتفض واقفاً وهو يحمل نعليه وقال صارخاً: ليناااااااااااااا... كفى... اقلقتي موتي الأبدي، وبعد هذا الكابوس لن أعرف أن أموت مجدداً... منك لله... منك لله.

والله آسفة سيبويه، لكنني لم أعرض أمامك سوى قطرة من بحر دماء اللغة العربية.




Image rights are reserved to the owner

قيد أنثى


"كنتَ تقرأ أوراقي... وأقرأ أنا عينيك. وترقب فيَّ الأديبة... وأرقب همس شفتيك. وأذوب في حرير أناملك وأنتَ تلمس أوراقي... تلمسني.
ترتشف قهوتك المُرَّة وتطالع قصائدي... وأرتشفُ مرار قهوتي مع شوقي إلى لمس يديك. فذاك العجوز بوجه طفل ساذج، لا يعرف من أبجدية الحب حرفاً. كم أكرهه، هذا العابث الذي يقلبني بين يديه كدمية لا أحاسيس في دمها، ويعزف على جسدي أسوء ألحان الهوى. كم أتمنى العتق من أسره، لأعيش معك حريتي... صباي... أحلامي... جنوني... لهفتي... توتري... كبريائي... أنوثتي... وحتى طربي ودواري... "

رفع رأسه عن أوراقها مذهولاً، لا يمكن أن يصدق ما تراه عيناه، زوجته الحبيبة الصغيرة! تكرهه... وتخونه!... المجرمة... الكاذبة... المخادعة... عادت مساءاً، نشوى بصباها، عرف أنها كانت معه، فرائحته تفوح من ثيابها، وبصماته على جسدها.

قبل أن ينتصف الليل، كانت تنتحب في منزل والديها... لقد طلقها ويرفض أن يخبرها عن ذنبها.

لم يصدقه أحد، حين ادعى أنها خائنة، هي لا يمكن أن تخونه، فلا واحدة من زوجاته الثلاث السابقات أحبته مثلها، وأخلصت له بقدرها. لكنه أصر على موقفه... فهي خائنة... وكفى.

صدر كتابها الجديد... وعلى غلافه مقطع مما سبق وقرأه في أوراقها... إذن دليل خيانتها في كتابها... دعا كل الأصدقاء تلك الليلة... وخرج ليبتاع عشر نسخ من كتابها.

أمسك الجميع بنسخهم وطالعوا بداية الموضوع بوجوم... إلى أن... وصلوا الى المقطع الأخير من القصة:
"أجبرني والدي على الزواج منه، رغم صغر سنه، فأنا مطلقة ولزاماً عليّ أن أصبح في عصمة رجل... رجل؟... "

لم تكن هي قد تزوجت قبلاً، وزوجها أو طليقها كان يكبرها كثيراً لا العكس، و...
إذن كانت القصة!... مجرد قصة.
أغلق الأصدقاء كتبهم وانسحبوا بهدوء، وهو في الركن يبكي.

خلال مقابلة تلفزيونية معها، كان يتابعها وهو في فراش المرض.
سألتها المذيعة عن طليقها: أيعقل أنك ما زلت تحبينه؟
أجابت: أجل... وسأبقى دائماً أحبه.
فأكملت المذيعة: لا بد انه قد عرف الحقيقة، فهل يمكن أن تعود المياه إلى مجاريها.
أجابت بثقة: ما كُسِر لا يمكن أن يُصّلح... فأنا... لم أعد أحترمه .








Image rights are reserved to the owner

ذكريات محاها المطر


كيف يمكن لحدثٍ بسيط أن يعصف ريحاً في كيان إنسان!؟ كيف يمكن لكبسة زر أن تغير تاريخ رجل اعتاد العراك مع الهزائم والألم؟
لدقائق عصفت ريح عاتية في عالم صادق كرم بور، دقائق كانت كفيلة بأن تقلب مقاييس منطق رجل تجاوز جنون التهور منذ زمن، كانت ريحاً من القوة بحيث حملت رجلاً في منتصف الأربعين لتعيده طالباً جامعياً يقوده جنون العشق لملاحقة كل زهرة في حديقة عالمه الرحب.
حصل ذلك لحظة دخل صادق كرم بور الى مدونة خاصة بالقصص القصيرة. فصادق هو أستاذ محاضر في الجامعة، حائز على دكتوراه في العلوم الاجتماعية، وهو الآن بصدد تأليف كتاب عن التغيرات الاجتماعية التي حصلت بعد الكومبيوتر والشبكة العنكبوتية في حياتنا المعاصرة، وقد خصص قسم من كتابه لظاهرة المدونات.
بالصدفة أخبره أحد طلابه عن هذا الموقع الخاص بكاتبة مغمورة هي حنين العجمي. أول أقصوصة في هذه المدونة كانت عن حادثة حصلت للراوية في الجامعة خلال سنتها الجامعية الأولى!... يا الله!... هذه الحادثة! هذه الحادثة تتكلم عنه كطرف ثانٍ في الحكاية، هو الآن يذكرها كما لو حدثت البارحة.
وبطلة الحادثة!... يا إلهي كيف ينسى ذاك الوجه البريء؟!
أطل وجهها من بين الحروف، فتاة تكاد أن تكون طفلة بوجه عادي الجمال، به مسحة من جاذبية وسحر، وعينان عسليتان لا تعبير فيهما، وكأنه لا يعنيها كل ما يدور حولها، كان أجمل ما فيها شعرها الطويل.
كان ذلكَ وهو طالب في سنته الجامعية الأخيرة.
كثيراً ما تبادلا النظرات من بعيد، كانت بنظره مجرد طفلةٍ لا شيء فيها لافت. لكن كان وجهها يسطع في ذاكرته أحياناً دون سبب محدد.
تخرج هو وسافر لإكمال دراسته، حاملاً في صدره طموحه وفي ذاكرته وجهاً بريئاً لطالما أطل من بين الضباب في باريس، الى أن محته الدراسة... والمطر.

أرسل لها على بريدها الإلكتروني رسالة يشرح فيها أسباب اطلاعه على مدونتها، وطلب مقابلتها للحصول على مزيد من المعلومات لكتابه.
للوهلة الأولى لم تصدق عيناها!... إنه هو... حقاً هو! صادق كرم بور، وهل يمكن أن تنساه، الشاب الشهير بجماله واسمه الفارسي المميز. "الإيراني الجميل" هكذا كانوا يطلقون عليه في الجامعة، وهي ككل فتيات الجامعة أعجبت به... فهل سيذكرها بعد كل هذه السنين؟

... اتفقا على لقاء في مقهى.
لم يشعر بضربات قلبها المجنونة، لقد كان مشغولاً بتأملها... امرأة جميلة، يبدو أنها خبرت الحياة جيداً، في عينيها سهام سحر، وفي عطرها نشوة التغلب على أربعين من العمر.
فجأة - وخلال حوارهما- لمح في عينيها تلك النظرة التي ما زال يذكرها جيداً... نظرة فتاة تنظر ولا ترى، وكأن لا شيء يعنيها... أو كأنها تنظر الى عالم داخلي خاص بها وحدها. دامت تلك النظرة برهة، وسرعان ما اختفت.
... سألها إن كانت تحتفظ بصور لها حين كانت في تلك الجامعة؟ لم تسأله توضيحاً، فقد كانت تعرف ما يدور في ذهنه.
أحضرت له صورة في لقائهما التالي.
تأملها طويلاً... رفع اليها عينين لونهما الحنان والحنين وقال: هل تذكرينني؟!
فأخبرته قصة فتاة صغيرة ساذجة، كانت ككل فتيات الجامعة، منبهرة بالشاب البهي الطلة، القادم من إيران بلغة عربية ممتازة، ليشغل بال فتيات الجامعة.
ابتسم بحنينٍ لتلك الفترة وقال: ولدتُ هنا... فأمي لبنانية. وأحمل الجنسية اللبنانية لأن والدي كان يحملها قبل أن يتزوج من أمي.
وأخبرها عن سفره إلى باريس، وحصوله على الدكتوراه. وروى لها حكاية شاب سافر وفي ذهنه ذكرى وجه بريء لطالما أطل من بين الأحرف والضباب... وجه للأسف... محاه المطر.

تزوجا...
وفشلت حياتهما الزوجية.
لقد نسيا أن البراءة تنضج... والشخصيات تتبدل. وأن الزواج يبدأ "الآن"... وأن جمال الذكرى يكمن في أن تبقى مجرد ذكرى... حتى لو... محاها المطر.




Images rights are reserved to their owners











امرأة من رخام


أحب طرح الأسئلة في سبيل تقطيع الوقت فقط، لكن لا شيء يعنيني حقاً  كي أستقصي جوابه.
لامبالاتي أيضاً لا تهمني لدرجة أن أضع لها حداً. مع انها تحرمني نعمة التعاطف مع أفراح البشر وآلامهم.
لم تترك لي هذه اللامبالاة دموعاً أذرفها في المآتم، أو ابتسامات مزيفة أوزعها في الأفراح.
لا شيء يهمني حقاً...

أيضاً فالشخص الوحيد الذي أحببته في حياتي لم يعد يهمني. 
فلكثرة ما انتظرته، لم يعد يعني لي شيئاً.
فحين تنبَّه لحبي بعد خمس سنوات من الألم الصامت...
وقال "أحبكِ"... ضحكت.
لم أجد إجابة غيرها، تماثل سخافته.




Image rights are reserved to the owner


يوميات ولد شرير(؟)


شاركتُ في حلقة تلفزيونية عن الاكتئاب، بصفتي طبيباً نفسياً. خرجتُ من مبنى التلفزيون مباشرة بعد الانتهاء من بث الحلقة. اقترب مني شابٌ في العشرين من عمره، وقال دون  مقدمات: أرجوك يا دكتور ساعدني.
فوجئت به يبكي شبه مُنهار، فهدّأتُ من روعه وطلبتُ منه أن يزورني في عيادتي.
فقال: إن لم تساعدني فسوف أنتحر!.
عرفتُ أن الأمر خطيرٌ جداً وأن الموضوع لا يحتمل التأجيل، وبأنني يجب أن آخذ تهديده بالانتحار على محمل الجد.
قال بعد أن أبديت استعدادي لمساعدته بأنه سوف يأتي غداً إلى العيادة، فأعطيته العنوان ورجوته أن لا يفكر بأي شيء إلى أن ألقاه غداً.

حضر في موعده تماماً، كان يحمل حقيبة صغيرة، جلس أمامي شاحباً، منهكاً، يائساً. ما إن سألته عن حاله حتى دمعت عيناه وقال: لم أعد أحتمل يا دكتور.
 بدأ حديثه بكلام غير مترابط، فهمتُ منه أنه لم يعد يحتمل لا آلام روحه ولا آلام جسده المستمرة منذ سنوات طوال. وأخبرني أن كل الأطباء الذين يزورهم ينصحونه باستشارة طبيب نفسي.
بعد أن تكلم لأكثر من ساعة، قال إنني يجب أن أقرأ دفاتر يومياته كي أفهم مأساته، ولا أخفيكم سراً كانت هذه أفضل طريقة لأفهمه، إذ أنه يبدو متوتراً ومشوشاً، لذلك فكلامه غير مترابط وفكره مضطرب. أعطيته أدوية مهدئة، وحددتُ له موعداً.
                             
بدأتُ مساءً بقراءة دفاتر يومياته التي بدأ كتابتها منذ سن السادسة، وذلك بناءاً على نصيحة معلمته في المدرسة التي أخبرتهم أنهم إذا أرادوا أن يعرفوا ماذا حصل في طفولتهم فعليهم أن يدونوا يومياتهم الى أن يبلغوا سن الرشد.
وقد جاءت يومياته على الشكل التالي بعد أن لخصتها وصححتُ أخطاءها اللغوية قدر ما أستطيع.


الدفتر الأول
بدأه يوم 20 تموز 2000 
أنا حزين جداً... غداً العيد وماما لم تشترِ لي ملابس جديدة، لأن بابا ما معو صرامي. هكذا قالت ماما فقلت لها أن الملابس ثمنها مصاري مش صرامي،  فصرخت في وجهي وقالت روح من وجهي يا بلا مربا.



23 تموز 2000
فادي  صديقي كان يرتدي ملابس العيد، مع أنه يتيم... يعني ما عندوا بابا ليشتري له ملابس. سألت بابا فقال أن مؤسسات رعاية الأيتام تعتني به فقلت له ولما لا تعتني هذه المؤسسات بي؟ ضحك بابا وقال لما موت بيعتنوا فيك فسألته أيمتى رح تموت؟ بابا ضحك بصوت عالي لكن ماما صرخت بوجهي وقالت اني شيطان ومش طفل. فقال لها البابا إنو لازم يكون عندك حس الفكاهة يا عليا.
سألت خالتو ملاك شو يعني حس الفكاهة فقالت يعني مزح. وفهمتُ أن البابا يحب المزح وأنه لا يزعل مني مهما قلت أو فعلت.


25 تموز 2000
هذا أسوء عيد مرَّ علينا لقد تشاجر بابا مع ماما وقد أمضيا العيد لا يتكلمان مع بعض إلا أمام الناس. وحين أخبرتُ تيتا أن ماما وبابا كل ليلة يصرخان في غرفتهما، ضربتني ماما وقالت أن الولد المهذب لا يقول أسرار منزله للناس. لكنه لم يكن سراً، لأن جارتنا طانط سعاد سمعتهما وسألت الماما لما كان صريخهما عالياً. لكنني لم أسمع الإجابة لأن ماما طردتني من الغرفة. أصلاً تيتا مش ناس... تيتا هي أم الماما. 


26 تموز 2000
اليوم زارنا عمو شوقي وسمعته يقول لبابا طول بالك يا خيي إن شاء الله عن قريب رح لاقيلك وظيفة. فقال بابا حاسس إني مش مطوَّل عن قريب رح روح وارتاح من عذابي. فقال عمو شوقي بعيد الشر. ولكن لما يقول عمو هكذا إن كان بابا سوف يرتاح إذا راح وإذا كانت مؤسسة الأيتام سوف تعتني بي إذن لما يكون بعيد الشر.


من 1 آب حتى آخر الشهر 2000
أمضيتُ هذا الشهر في اللعب مع فادي، وقد سمح لي أن ألعب بألعابه، وقد علمتُ أن هناك امرأة تعطي والدة فادي مصاري وتقول لها أن هذا مال المحسنين. يبدو أن المحسنين يعملون بعكس بابا الذي لا يعمل ولا يشتري لي الملابس والألعاب.


2 ايلول 2000
زارتنا اليوم تيتا، وقد أحضرت لي كاتو لذيذ جداً. لكنها كانت حزينة وتبكي وقالت لماما أن خالتو ملاك سوف تموّتها بتصرفاتها الطائشة. ولم أفهم ما معنى ذلك ولم أسأل كي لا تضربني ماما. 


3 ايلول 2000
حضرت اليوم خالتو ملاك وكانت خائفة جداً، ثم جاء خالو عباس وأمسك خالتو ملاك بشعرها وهي تصرخ وتقول والله العظيم التقيتو صدفة وما كنا متواعدين. لكنه ضربها، وبابا أبعده عنها وصرخ بوجهه هيك بتحل المشاكل يا متعلم؟ شو تركت للجاهلين؟ ولم أفهم سوى أن خالتو ملاك قد قامت بشيء سيء لأنو خالو عباس كان هايش مثل الثور. هكذا قالت ماما. كنت أحلم بأن يكون لي إخوة، لكن لم أعد أريد كي لا أصبح ثوراً مثل خالو عباس. ولأنني خائف جداً فقد زربت نفسي في غرفتي. 


4 ايلول 2000
زرتُ اليوم فادي ووجدتُ أن غرفته أجمل من غرفتي، فهو عنده العاب أكثر وملابس أكثر وعنده أيضا كومبيوتر
 و play station  . تأكدتُ اليوم أن اليتيم أحلى من الذي عنده بابا. 


5 ايلول 2000
زارنا اليوم عمو شوقي، وقد أحضر لي معه دبابة تعمل على البطاريات فرحتُ بها كثيراً، ودخلتُ الى غرفتي كي ألعب بها، وتذكرت كيف أنني كنتُ أريد دبابة كبيرة لأقتل بها الإسرائيليين. لكنهم قبل أن يصبح عندي دبابة انتحروا عن البلد، هيك سمعتها في التلفزيون ولم أفهم معناها، فقال بابا أولاً قل اندحروا وكتبها لي كي أهجيها وأحفظها جيداً، وقال أن معناها أن الإسرائيليين الكلاب راحوا على جهنم. فسألته إن كانوا قد أخذوا معهم الى جهنم طياراتهم التي يقصفون بها الأولاد أم تركوها للناس في الجنوب؟ ضحك بابا وعمو شوقي وخالو عباس كثيراً وقال بابا نيالك يا حبيبي على هبلك وقال عمو شوقي الله يديمها عليه نعمة.
بعد أن لعبت بالدبابة  خرجتُ من غرفتي لأشرب فسمعت عمو شوقي يقول لبابا هانت يا خيي الفرج صار قريب. فقال بابا موت يا حمار.
ذهبتُ لأسأل ماما لما يقول بابا لعمو شوقي موت يا حمار، أمسكتني من أذني وقالت كم مرة فهمتك يا بلا تهذيب إنو ما تتسمع على حكي الكبار؟ بست التوبة ووعدتها أن لا أعيدها أبداً. 


15 ايلول 2000
لم أكتب منذ مدة لأنني كنتُ أنتظر أن تسجلني ماما في المدرسة مع فادي، لكنها قالت أنها لم تستطع وأنها سوف تنقلني من مدرستي إلى مدرسة حكومية. فبكيتُ كثيراً وقلتُ أن خالو عباس يقول إن المدارس الحكومية في بلدنا تشبه الزريبة وأنا لستُ حماراً كي أذهب الى الزريبة، أنا أريد أن أذهب الى مدرسة للناس. فقالت ماما حتى لو رحت على السوربون رح تبقى حمار. طبعاً لم أفهم لكن خالتو ملاك أفهمتني أنها جامعة في فرنسا يذهب اليها الكبار ليتعلموا. فتصورت كيف يذهب الكبار الى السوربون وهم يرتدون المريول ويحملون الشنطة على ظهرهم. وضحكتُ كثيراً جداً وأصرت خالتو ملاك على أن تعرف لما أضحك، أخبرتها فضحكت. لكن ماما قالت لها قلت لك إنو حمار ورح يبقى حمار. زعلتُ كثيراً من الإهانة وأردتُ أن أستعطف ماما فقلت إنني لن أذهب الى السوربون لأن الكبار رح يدعسو عليِّ مثل النملة. فضحكت ماما وخالتو ملاك وأنا لم أعرف ماذا أفعل فضحكت.


7 تشرين ثاني 2000
أنا أذهب الى المدرسة منذ يوم الإثنين، وهي لم تعجبني... أنا مشتاق لفادي ولرفاقي.
سوف قاهر بماما لأنها طلعتني من مدرستي.


1 تموز 2001
لم أكتب في دفتري كل السنة لأنني كنت حزين. بابا وماما تخانقوا كتير، تيتا قالت إنن بيتخانقوا على كشك الجيران. سألت بابا ما معنى ذلك ضحك عليّ وماما أمسكتني من أذني وقالت لي يا بلا تهذيب.
كانت كل السنة علاماتي ساقطة، ثم صارت على الحافة. خالو عباس قال لماما ما قلتلك إنو إبنك بالمدرسة الحكومية رح يصير حمار. عندما قال خالو ذلك ركضتُ الى غرفتي ووقفتُ أمام المرآة، وكنتُ ما أزال عبودي ولم أصبح حماراً. ضحك عليَّ خالو عباس وماما أيضا ضحكت.


5 تموز 2001
ظهرت نتيجة المدرسة  ونجحت بالدفش. هذا ما قالته ماما . وعاقبتني على حمرنتي.


8 تموز 2001
بابا حزين جداً، ولم يعد يضحك معي. رأيته يبكي في المطبخ.  ذهبت الى غرفتي وبكيتُ أنا أيضاً. 


12 تموز 2001
لم أكتب لأنني زهقان... ولأن الدنيا زعلت بابا.


21 تموز 2001
سمعتُ بابا يقول لعمو شوقي أنه لن يكون سعيداً إلا إذا شرب ديمون (يقصد الديمول) ركضتُ الى ماما وقلت لها أن تحضر الديمون لبابا كي يصبح سعيداً. ضربتني وزربتني في غرفتي.


22 تموز 2001
كل الكبار يقولون كلاماً لا أفهمه. وكلما جلستُ معهم تطردني ماما وتقول لي إذهب والعب مع فادي. 


25 تموز 2001
كنا نلعب أنا وفادي في منزله، وقالت لنا جدته أن لا نخرج إلى الشرفة لأنها وضعت قنينة ديمون كي ترش الزرع. تذكرتُ أن الديمون هو الذي يريد بابا أن يشربه كي يصبح سعيداً. وقد قال لماما إن هي أحضرت له الديمون سوف تكون مزحة جميلة. سرقتُ قنينة صغيرة من الديمون دون أن يراني فادي.


26 تموز 2001
استفقت صباحاً وكانت ماما تتشاجر مع بابا  وهو حزين جداً، لأنها قالت له إنتَ ما عاد تنفع لشي. جلس على الشرفة ودخَّن كثيراً، وحين تكلمتُ معه لم يضحك. ذهبتُ الى ماما وقلت لها إنني لا أحبها لأنها زعلت بابا، فقالت لي إنني إبن كلب وما بستحق إنها عم بتربيني. عند المساء ترك بابا كوب العصير على الشرفة ودخل إلى الحمام، وضعتُ له الديمون في الكوب كي يصبح سعيداً ويضحك على المزحة. وعدتُ الى غرفتي كي أنام. سوف أخبره في الصباح أنني أنا مزحتُ معه. 


27 تموز 2001
استيقظتُ صباحاً وكانت ماما وتيتا وخالتو ملاك وكل الناس يلبسون ملابس سوداء. وعندما رأتني ماما بكت كثيراً وقالت بكير يا منير رحت بكير يا حبيبي. فسألت إلى أين ذهب بابا بكير؟
أخذني عمو شوقي إلى غرفتي، وأخبرني أن بابا رحل وتركنا وحدنا. خفتُ أن أقول أن بابا لم يحب المزحة. لكنني سألته إن كان بابا زعلان مني فقال عمو شوقي أن بابا لا يمكن أن يزعل مني، وقال أن البابا كان يجب أن يذهب لأن الله يريد ذلك. سألته هل سيكون سعيداً عند الله، فقال إنه سعيد جداً. فقبلتُ كلامه، لكنني حزين لأن بابا لم تعجبه مزحتي، وفضّل أن يذهب عند الله.


1 آب 2001
ما زلتُ أنتظر أن يعود بابا من عند الله. ولا أفهم لماذا الناس يزوروننا كلهم كلهم.


2 آب 2001
قلت لماما أن بابا رحل لأنه زعل منها بعد أن صرخت في وجهه. ضمتني وبكت. يبدو أن ماما نادمة لأنها زعلت بابا، عندما يعود سوف أقول له أن يسامحها. 


1 ايلول 2001
أخيراً لم يعد منزلنا مليء بالناس، بدأوا يذهبون حتى عدنا وحدنا أنا وماما. ما زلتُ أنتظر عودة بابا. عمو شوقي وزوجته طانط ليلى وخالو عباس وتيتا وخالتو ملاك يزوروننا كثيراً. تيتا تقول لماما دائما اطلعي من الحزن وانتبهي لأبنك. وعمو شوقي يجلب لنا أغراضاً كلما أتى. وخالو عباس أيضاً. 


2 ايلول 2001
زارتنا اليوم طانط أم فادي وقالت لي ماما أن أدخل أنا وفادي لنلعب في غرفتي. 


10 ايلول 2001
أخبرتني ماما أنها سوف تعيدني الى مدرستي مع فادي، وقالت بشرط أن تنجح. فوعدتها أن أكون شاطراً. المهم أن أعود الى مدرستي مع فادي.


11 ايلول 2001
لن أكتب طوال السنة، لأنني أريد أن أدرس كي أنجح ليفرح بابا ويعود.



الدفتر الثاني
13 تموز 2002
أخبرت فادي  للمرة الأولى أنني أنتظر أن يعود بابا. فقال لي أنه لن يعود. فقلت ولما لن يعود، أكيد أن الله سيتركه يعود مع والد فادي، ضحك فادي عليّ وقال أن والده ووالدي ماتا، وقال أيضاً أن الأموات ما بيرجعوا يا أهبل. سألته هل مات بابا وأبوه كما مات الناس اللي قصفتهم اسرائيل؟ قال أجل ماتوا كلهم ولن يعودوا. يعني يموت الناس وحدهم ودون أن تقصفهم إسرائيل؟ بعد أن ذهب فادي بكيت لأن بابا لن يعود أبداً. 


14 تموز 2002
اليوم سألتُ عمو شوقي لماذا يموت الناس؟ فقال أن الله هكذا يريد. قلت له أنني لا أفهم ما يقول، فقال أنني عندما أكبر سوف أفهم.


25 تموز 2002
أنا سعيد لأن أمي احضرت لي play station  لكنني حزين لأنني مشتاق لبابا. 


1 آب 2002
أخبرتني اليوم تيتا أن خالتو ملاك سوف تتزوج وتسكن في منزل آخر مع زوجها. عندما حضرت خالتو ملاك سألتها إن كانت ستنساني وتحب زوجها، فقالت أنها سوف تحبنا نحن الاثنين فزعلت. ضحكت وقالت إنها ستحبني أنا أكثر بكثير.


3 آب 2002
زارتنا اليوم خالتو ملاك مع خطيبها عمو ناصر. أبعدته عن خالتو ملاك وجلست أنا بجانبها، وهو ضحك ووضع يده على رأسي.


10 آب 2002
زارنا اليوم خالو عباس وقال لأمي إنه وجد عملاً. سألته ماذا سيعمل فقال مصور في التلفزيون، فقلت له أنني سأراه في التلفزيون كل يوم، فقال أنه سيكون وراء الكاميرا وليس على الشاشة.
مساءاً نظرت وراء التلفزيون فلم أجده. ماما قالت الله يعينك على هبلك خالك داخل التلفزيون مش وراه. تعجبتُ كيف يكون خالو الكبير داخل تلفزيون صغير... سوف يختنق. ماما ضحكت عليّ وأنا تذكرت أن بابا كان دائما يضحك حين أتكلم معه. 


20 آب 2002
لم أكتب طوال الأيام الماضية لأنني كنت زهقان ففادي ذهب مع أخوه وأمه الى القرية وأنا بقيت وحدي مع ماما. 


30 آب 2002 
ما زلت زهقان وأنتظر عودة فادي. أتمنى أن أذهب الى القرية لكن ماما تقول مش وقتها هلق.


5 ايلول 2002
البارحة كان عرس خالتو ملاك، رأيتها ترتدي فستان أبيض جميل، كانت مثل الذي يقف داخل الغيمة. في الصالون سمعت عمو ناصر يقول لخالو عباس إنه يحب خالتو ملاك كثيراً، وقال أيضاً لخالو أنت فكرت أنو في شي صار بس ملاك أشرف من الشرف. خالو باس عمو ناصر وقال له مبروك. ثم أمسك خالتو ملاك بيدها وأخذها الى السيارة وباسها كثيراً ثم ذهبت مع عمو ناصر.
اليوم سألت ماما ما معنى ما قاله عمو ناصر، صرخت عليّ وقالت ما رح تبطل قلة التهذيب. لكنه ليس جواباً، فأنا لا أفهم وأريد أن أفهم، فمن أسأل.


20 ايلول 2002
عاد فادي من القرية ولعبتُ معه كثيراً في الأيام الماضية، وعندما أنام في سريري ليلاً أبكي كثيراً لأن بابا مات والأموات ما بيرجعوا، هيك قال لي فادي وعمو شوقي أيضاً.


21 ايلول 2002
سألت ماما كيف مات بابا؟ فصرخت عليّ وقالت بطل أسئلتك البلا طعمة. 


24 ايلول 2002
أريد أن أعرف كيف مات بابا، لكن لا أحد يقول لي. كان خالو عباس سيقول لي لكن ماما منعته. فوعدني أن يخبرني عندما أكبر.


25 ايلول 2002
ذهبت إلى الجامع وطلبت من الله أن يجعلني كبيراً كي يخبرني خالو عباس كيف مات أبي.


26 ايلول  2002
قفزتُ من سريري في الصباح وذهبت لأقف أمام المرآة كي أرى إن كان الله قد جعلني كبيراً. لكنني ما زلت عبودي ولم أكبر. 


28 ايلول 2002
بعد يومين سوف تبدأ الدراسة، لذلك سوف أخبيء دفتري هذا كي لا تراه ماما عندما أذهب الى المدرسة.



الدفتر الثالث
14 تموز 2003
البارحة كان عيد ميلادي، أصبح عمري تسع سنوات. أحضر لي خالي عباس كومبيوتر هدية عيد ميلادي وأيضاً هدية نجاحي في المدرسة. أما خالتي ملاك وزوجها العم ناصر فقد أحضرا لي ساعة لأنني أصبحت شاباً. عمي شوقي أحضر لي ثياباً جديدة. وأحضرت لي جدتي الكرة التي وعدتني بها وبيجاما للرياضة. أما أمي فقد أحضرت لي سكوترلألعب بها في القرية مع فادي.


25 تموز 2003
ما زلتُ أكتشف برامج الكومبيوتر، وخالي عباس يساعدني على التعلم، وقد أخبرني أنني عندما أجيد استعمال الكومبيوتر سوف يضع لي عليه أنترنت.


30 تموز 2003
سمعتُ اليوم جدتي تقول لأمي أن خالتي ملاك بدأت تتوحم ولم أفهم ما معنى ذلك، وعندما سألت جدتي غضبت أمي وقالت أن أسئلتي البلا تهذيب لا تنتهي، لكن جدتي كانت تضحك وتقول أنني أصبحت شاباً. أنا أحب جدتي كثيراً لأنها تحبني وتضحك عندما أكلمها. كما كان أبي. 


5 آب 2003
علمتُ اليوم أن خالتي ملاك سوف يصبح لديها طفل، سألتهم من أين سوف تشتريه. فقالت جدتي أن الأولاد لا نشتريهم بل إن الأم تخرجهم من بطنها، فسألتها كيف تخرجهم، قالت أن الطبيب يفتح بطنها ويخرج الطفل.
أنا خائف جداً على خالتي ملاك لأن الطبيب سوف يفتح بطنها. 


14 تموز 2004
البارحة أصبح عمري 10 سنوات. وقالت لي أمي أنني يجب أن أتصرف مثل الرجال لأنني أصبحتُ كبيراً. وعندما جاء خالي عباس وعمي شوقي وقفت بجانبهما فوجدتُ أنني ما أزال صغيراً. 


16 تموز 2004
زارنا اليوم خالي عباس ومعه فتاة جميلة اسمها فاتن وأخبرني أنها خطيبته. وفهمت لوحدي هذه المرة إنها سوف تأتي الى منزل خالي عباس وتنام بجانبه على السرير وسوف تنجب طفلاً. 


17 تموز 2004
نسيتُ أن أكتب البارحة أن طانط فاتن كانت ترتدي فستان مثل نانسي يعني مزلط لكنه كان جميل. وهي أيضاً جميلة.


18 تموز 2004
اليوم عرس خالي عباس، وسوف يسكن مع طانط فاتن في منزل جديد، وسيتركان جدتي لوحدها. وأنا قلت لجدتي أن تأتي لتسكن معنا أنا وأمي كي لا تخاف وحدها في البيت.



الدفتر الرابع
13 تموز 2005
إنه دفتري الجديد، وقد أصبحت في ال 11 من عمري. وقد فهمتُ هذه السنة أشياء كثيرة. لقد فهمتُ كيف يتزوج الناس وكيف يولد الأطفال. وعرفتُ أن الإنسان يموت لأن عمره قد انتهى. وأنه لكل ميتة سبب.
إذن ما سبب موت والدي؟ 
 

14 تموز 2005
سألتُ جدة فادي عن الديمول الذي ترشه على الزرع كي تموت الحشرات، ولما يشعر الانسان بالسعادة إذا شربه؟. ارتعبت جدة فادي وسألتني لما أقول ذلك، فأخبرتها كيف قال أبي أن الديمول سوف يجعله سعيداً. دمعت عينا الجدة وقالت أن أبي بالتأكيد كان يمزح عندما قال ذلك، لأن الكل يعرف أن الديمول مادة قاتلة مثل السم والسلاح. وقالت أن والدي أيضاً كان يعرف هذا.
يا الهي لقد وضعتُ الديمول في كوب والدي وهو سام. كيف  مات أبي؟  هل مات لأنه شرب الديمول؟ 



20 تموز 2005
زرتُ خالي عباس وحدي، وسألته كيف مات والدي؟ فأخبرني الحقيقة، وقال أن أبي كان يريد دائماً أن يموت لذلك فقد شرب الديمول وانتحر. صرختُ في وجه خالي عباس وسألته هل توفي أبي لأنه شرب الديمول؟ فقال خالي أن الطبيب الذي فحصه قال إنه توفي بسبب الديمول، فأخبروه أن أبي دائماً كان يتكلم عن الانتحار والديمول، لكن أمي كانت تعتقد أنه يمزح. 


30 تموز 2005
طوال الأيام الماضية كنتُ مريضاً جداً، كانت حرارتي دائماً مرتفعة وأمي أخذتني الى الطبيب كثيراً، وهو يقول أنني لست مريضاً، لكنه لا يعرف سبب حرارتي المرتفعة. وسألني كثيراً عن مدرستي وأصدقائي وأيضاً سألني عن أبي. بكيت وأخبرته أنني مشتاق الى أبي كثيراً. خفت أن أقول له عن الديمول لأن أمي سوف تقطع رقبتي. يا الهي لقد مات أبي لأنني وضعت له الديمول في الكوب.


1 آب 2005
أريد أن أعرف كل شيء عن الديمول، أريد أن أعرف كيف كنتُ السبب في موت أبي. 


3 آب 2005
رفضت أمي أن تكلمني عن مادة الديمول، وصرخت في وجهي وقالت لي ارحمني يا بلا ضمير وبطّل أسئلة. وكانت تبكي كثيراً. هل أخبرها بما فعلت؟ ماذا ستفعل بي إذا أخبرتها؟


5 آب 2005
ذهب فادي وعائلته الى القرية، لكن نحن لم نذهب لأنني أصبحت أمرض كثيراً، وأمي وخالي عباس يأخذاني الى المستشفى وهناك يجرون لي فحوصات كثيرة. والطبيب يقول أن مرضي نفسي. وأنا لا أفهم ما معنى ذلك. 


30 حزيران 2006
كانت هذه السنة صعبة جداً، لقد غبتُ كثيراً عن المدرسة لأنني مرضت كثيراً، واليوم ظهرت النتيجة وقد رسبت في صفي، وأمي حزينة جداً وتبكي كثيراً. هذه أول مرة لا تضربني لأنني كسول. 


13 تموز 2006
أصبح عمري اليوم 12 سنة، والآن أصبحتُ أفهم أكثر أنني قاتل!... لقد قتلت أبي!
منذ الصباح اسرائيل تعتدي على لبنان وتقصف كثيراً بالطيران، وأنا خائف جداً.


15 تموز 2006
ذهبنا كلنا الى سوريا، أنا وأمي وجدتي وخالتي ملاك وزوجها والخالة فاتن، لكن خالي عباس أوصلنا الى سوريا ثم عاد الى لبنان لأنه لا يستطيع أن يترك عمله. ثم أتى عمي شوقي وزوجته وأولاده. وأيضاً التقينا بفادي وعائلته وكانوا يسكنون في منزل مجاور مع أقاربهم.
فرحتُ لأن فادي أتى الى سوريا وسوف أراه كثيراً. هو يسألني دائماً لما أصبحتُ حزيناً هكذا، لكنني أخاف أن أخبره،  سوف يكرهني ويقول أنني قاتل. وربما عرفت الشرطة ووضعوني في السجن. 


20 ايلول 2006
عدنا الى منزلنا بعد أن انتهت الحرب، منزلنا في القرية ومنزل فادي ومنزل عمي شوقي دمرتهم اسرائيل، وأصبحوا ركاماً كما يقولون في الأخبار. منزل جدتي في الضاحية قد دمروه أيضاً. وقد أتت لتقيم معنا أنا وأمي بعد أن أصلحنا منزلنا.
ما زلتُ أمرض كثيراً، والطبيب يقول أنهم يجب أن يعرضوني على طبيب نفسي. لم أحب الفكرة، محمود شقيق فادي يقول أن الطبيب النفسي هو للمجانين. وهذا ما تقوله أمي أيضاً حين تبكي وتقول لخالتي ملاك أنها ربتني كي أصبح رجلاً، لكنني بدأت أجن. وتستمر بالبكاء وتقول لما ابني مجنون يا رب؟... هل أنا مجنون؟


21 ايلول 2006
ربما أنا مجنون لأنني قتلت أبي، لكنني لن أخبر أحداً بذلك، لأنني خائف جداً. أصبحتُ أرى والدي في الحلم كثيراً، وهو يصرخ في وجهي: يا مجرم... يا مجرم... وأستفيق وأنا أصرخ... وتأتي أمي وجدتي الى غرفتي على صوت صراخي.

انتهت مذكرات المريض ( ع ).



إذن المريض (ع) قد قتل والده عن طريق الخطأ، أو دون قصد، والسبب هو أنه لم يجد إجابات شافية لأسئلته الكثيرة، التي إن دلت على شيء فإنما تدل على وعي كبير وإرادة على الفهم.
وقد رفض  المريض (ع) أن يخبر التفاصيل لأحد، بل اكتفى بأن قال أنه يتردد على طبيب نفسي ليتخلص من أمراضه وكوابيسه.

بعد سنة من علاجه كتب المريض (ع) ما يلي:
خضعتُ طوال السنة لعلاج طويل مع الطبيب النفسي، الذي كان متفهماً جداً، ولم ينعتني بالقاتل أو المجنون. بل أصرَّ على أنني كنت طفلاً لا أعي ما أسمع وما أفعل. وقال أنه ليس خطأي إن كنتُ لم أفهم، فكل الأطفال لا يفهمون الكثير من مصطلحات الكبار، لهذا يجب أن يكون الأهل على وعي وفهم كبيرين بحاجة الطفل إلى طرح الأسئلة لإيجاد الأجوبة التي تنير لهم كل غامضٍ من حولهم.
وقال أنني لم أكن طفلاً غير مهذب لأنني أسأل كثيراًً، بل بالعكس، كثرة طرح الأسئلة دليل على وعي مبكر، وعلى طلب المعرفة والفهم. لكن عدم إجابة الأهل على أسئلة ولدهم لا يعني أن يفسر الولد ما يسمعه على قدر فهمه وحده، وأيضاً لا يجب أن يسأل أصدقاؤه، بل عليه أن يبحث عمَّن هو أكبر ليسأله، حتى لو اضطر للإنتظار كثيراً.
وقال أيضاً أن الكبار من حولي يتحملون المسؤولية معي على عدم فهمي للأمور، لكنه ليس ذنب أحد إن توفي والدي، فموته حصل بسبب خطأ غير مقصود، ولا أحد مذنب بهذا الموضوع. والأهم أفهمني أن والدي في مكانه ليس غاضباً مني، فهو أكثر إنسان يعلم أنني غير مذنب، وأنني لم أقصد إيذاؤه . قال أن والدي وهو في السماء يعلم تماماً أنني لم أكن سوى طفل لا أقدِّر عاقبة الأمور، ولم أكن أعلم حتى أن الديمول (وليس الديمون) هو مادة قاتلة. وأن والدي حين قال عنه أنه سيريحه، كان يتكلم بلسان كبيرٍ يائسٍ من حياته، ومن هو في وضعه دائماً يعتبر الديمول والسم والسلاح وكل شيء مميت، هو راحة له. 
عملنا كثيراً على فكرة أننا حين نقوم بفعل دون قصد ودون فهم، فلسنا مسؤولين عنه أمام ضمائرنا وأمام الله وأمام القانون وأمام الناس أيضاً، فالخطأ هو خطأ، وليس ذنب أحد.
وعملنا أيضاً على فكرة أن لا أحد يدينني أو يحكم عليّ بسبب ما فعلت. وأن والدي بالتأكيد يسامحني على فعلتي. ولكنني أصررتُ على أن لا يعلم أحد بما فعلت، ووافق الطبيب في الوقت الحالي.

تحسنتُ ببطء خلال السنة الماضية، وقال الطبيب أنني إن تابعت هكذا فسوف ينتهي علاجي بأسرع مما حدد لي سابقا.
بدأ مرضي يخف، كما أنني بدأتُ أرى والدي في الحلم، فيضمني ويضحك ويقول لي أنه ليس غاضباً مني، بل هو يريدني أن أنجح وأن أصبح رجلاً عظيماً.
أما أمي فقد اقتنعت بأنني لست مجنوناً، وبدأت تفهم أيضاً ما هو العلاج النفسي.
ولعل أهم ما تعلمته خلال علاجي، بالإضافة الى تحسن أسلوبي بالكتابة، هو أنني كنت طفلاً أبحث عن إجابات لأسئلتي العديدة والكبيرة والتي تدل على أنني أحمل عقلاً كبيراً واعياً. وأيضاً أهم ما فهمته هو أنني كنت طفلاً من حقه أن يسأل، من حقه أن يتعلم، من حقه أن يفهم.
وإن كنت سأعطي لمذكراتي هذه عنواناً كما نصحني الطبيب، فسوف أعطيها عنوان "من حقي أن أفهم" .
ولأنه دائماً وأبداً من حقي أن أفهم، فسوف أتابع علاجي، وأتابع دراستي، وأتابع القراءة، وسوف أسأل منذ الآن فصاعداً أناساً مثقفين أكبر مني وأكثر فهماً.


ملحق
شرعة حقوق الطفل
المادة 1
لأغراض هذه الاتفاقية، يعني الطفل كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة، ما لم يبلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب القانون المنطبق عليه.

المادة 13
1-   يكون للطفل الحق في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حرية طلب جميع أنواع المعلومات والأفكار وتلقيها وإذاعتها، دون أي إعتبار للحدود، سواء بالقول، أو الكتابة أو الطباعة، أو الفن، أو بأية وسيلة أخرى يختارها الطفل.

المادة 37
(أ): ألا يعرض أي طفل للتعذيب أو لغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. ولا تفرض عقوبة الإعدام أو السجن مدى الحياة بسبب جرائم يرتكبها أشخاص تقل أعمارهم عن ثماني عشرة سنة دون وجود إمكانية للإفراج عنهم. 

المادة 40
1-   تعترف الدول الأطراف بحق كل طفل يدعى أنه إنتهك قانون العقوبات أو يتهم بذلك أو يثبت عليه ذلك في أن يعامل بطريقة تتفق مع رفع درجة إحساس الطفل بكرامته وقدره، وتعزز إحترام الطفل لما للآخرين من حقوق الإنسان والحريات الأساسية وتراعي سن الطفل وإستصواب تشجيع إعادة إندماج الطفل وقيامه بدور بناء في المجتمع.
(ب)-4- عدم إكراهه على الإدلاء بشهادة أو الإعتراف بالذنب، وإستجواب أو تأمين إستجواب الشهود المناهضين وكفالة إشتراك وإستجواب الشهود لصالحه في ظل ظروف من المساواة. 

     
 
     
       Images rights are reserved to their owners