أرواح صديقة


نزعت نظاراتها ودعكت عينيها... منذ ساعاتٍ وهي تعمل.
 فجأة دوى صوتٌ رهيب اهتزتْ له الأرض. اجتمع الموظفون في الممر يتساءلون عما يكون هذا الصوت، وتسارعوا يستطلعون الخبر.
انفجار في المبنى حيث تسكن، ركضت ووراءها الزملاء.

وصلت لتجد أن المبنى قد تهشم والنيران تتصاعد من منزلها الكائن في الطابق الأول.
حاولت الصعود، لكن منعها رجال الأمن، ركضت إلى رجل اطفاء ورجته أن يُنقذ أصدقاءها. فسألها إن كان في المنزل سكان... تلعثمت ثم قالت "مكتبتي... مكتبتي".

فأهملها رجل الإطفاء... اعتقدها مجنونة، وقال بسأم "وهل هذا وقت المزاح". لكنها صرخت بأن هذا ليس مزاحاً.
"في المنزل مئات الكتاب، مئات الشخصيات... هم من روح ودم، إنهم أصدقائي... أهلي... كل عائلتي. هم يشعرون... ويحيّون معي، أتحاور معهم... أغضب منهم... أفرح معهم... أحزن لأحزانهم... وأفرح بانتصاراتهم".
لكن... بالنسبة لرجال الإطفاء، فالأولوية لإخماد الحريق.

أُخمد الحريق... فصعدتْ راكضة إلى شقتها... غرفة مكتبها كانت متفحمة.
جلستْ على أنقاض الحريق، لتبكي حرقة روحها.








 Image rights are reserved to the owner

أعطني حريتي


مترددةٌ... حائرة...
لا أعرف ما بي، لم أكن هكذا أبداً. كنتُ دائماً متأكدة مما أريد ومما أفعل. ولما طلب أيمن يدي كنتُ واثقة من حبي له، ومن إنني أريد هذا الرجل بالذات لأكمل حياتي معه.
فمنذ اللقاء الأول، حلمنا معاً بعش الزوجية، وبالحب الكبير الذي سيجمعنا.
لكن!... لا أعرف ما الذي أصابني، أصبحتُ أرتبك كلما طالبني أيمن بأن نعقد قراننا، وأجد الحجج كي أتهرب من هذا القرار. أصبحتُ مترددة في كل قراراتي، وحائرة أمام أسخف المواقف، لم أعد واثقة ومتأكدة مما أريد ومما أفعل. أمر آلم أيمن كثيراً، وتسبب كثيراً في إحراجه، لكنني لم أكن أعرف كيف أشرح له هواجسي.
أنا أعبد حريتي واستقلاليتي، وأيمن يحاصرني بحبه، ولا يترك لي فسحة لأتنفس بعيداً عنه. فهو يفرض رأيه في تفاصيلي الأنثوية، يرافقني الى السوق، ويصرّ كثيراً على أن أبتاع أثواباً لم تكن تعجبني، فأصبحتُ كثيراً ما أرتدي ملابس لا تشبهني.
ولشدة تسرعه بإتمام الزواج، أصبح يتجاهل رأيي في اختيار أثاث المنزل، ويقرر هو ما يعتقده مناسباً. الأمر الذي تسبب بشجاراتٍ كثيرة بيننا، يتهمني في نهايتها بأنني مترددة ولا أريد تجهيز المنزل. لكنني أقسم له بأنني أحبه. لكن!... أجدني منذ الآن أفقد استقلاليتي.

لم أكن أصدِّق أحياناً الجنون الذي سأفعله، سوف أربط حياتي كلها بهذا الرجل، الذي لا أعي إن كان سيترك لي مجالاً لأتنفس خارج إطار مصيري المرتبط بمصيره.
...وضعني أيمن أمام الأمر الواقع، وخيَّرني بين أن أصارحه بما يجري معي، أو أن نعيد النظر بعلاقتنا.
صارحته بهواجسي، وأخبرته كيف أنني أشعر بالاختناق، بسبب إصراره على الإمساك بزمام الأمور وحده، ودون أن يترك لي مجالاً كي أقرر أي شيء، حتى لو أخطأتْ.

اعتبر أن حذري من تنفيذ الزواج بسرعة، واختناقي من محاصرته لي، له معنى واحد... أنني لا أحبه!
...اعتقد أنه ترك لي القرار النهائي بأن أكمل الطريق معه أو أن ينتهي كل ما بيننا. 
لكنه رحل قبل أن أقول كلمة الفصل.





Images rights are reserved to their owners











 





  

برد


البرد... يا إلهي هذا البرد...
لم يكتفِ بأن يحتل المكان والزمان، بل تسلل أيضاً إلى الروح، وتغلل فيها عميقاً، محوِّلاً كل ذرة في وجودي إلى صقيع موجع.
ارتداني البرد، حتى لأخالني وقد قُدِدتُ من جليد. أنظرُ حولي، فأرى كيف تسلل البرد من داخلي، وغلف الأشياء، لكأن السرير والكنبة والمطبخ قد نِحتوا من جليد.

منذ سنوات طوال، أخالها بطول التاريخ السحيق، ألزَمَني والدي على الانتقال إلى هذا الكوخ على رأس الجبل. لأنه باختصار راهن على منزلنا في لعبة قمار، وخسره! فانتقلنا الى هذا الكوخ، الذي تكرَّم به علينا صديق والدي... مقامر مثله طبعاً.
أحسد أمي بشدة لأنها لم تستسلم لهذا المقامر، فاختارت الموت لأنه أرأف بنا منه. اختارت جنة القبر، على جحيم هذا الزوج الذي أذاقها مُرّ العذاب منذ الليلة الأولى. فرغم أنها تركتني وحيدة معه، إلا أنني اعذرها، وأحسدها على قرارها، إذا ما كان الموت قراراً نأخذه بإرادتنا.

بدأت الحياة تشتد صعوبتها عليّ، فالبرد بدأ يتغلغل إلى عظامي، إلى أن عطب مفاصلي، فأصبتُ أنا الثلاثينية بألم المفاصل، الذي حسم الطبيب أمره بأن أرجعه إلى البرد!
البرد يؤلم مفاصلي... والصقيع يؤلم روحي. وكوخنا لا تدخله التدفئة إلا فيما ندر، على حسب ربحه أو خسارته على طاولة القمار.
وأرقبُهُ بحقدٍ وهو يتجول أمامي، ويعيش تفاصيله المقيتة بكل أنانيته وصفاقته.

أتاني ذات ليلة سوداء، بأحقر قرار يمكن أن يأخذه والدٌ بحق ابنته. لقد قامر عليَّ لصالح صديقه مالك هذا الكوخ البارد! وصديقه كسب الرهان، لكنه خسر منزله، لذلك سوف ينتقل منذ هذه الليلة للعيش معنا في الكوخ، إلى يتم زواجي منه خلال بضعة أيام.
أمضيتُ ليلي كما يمضيه مجنون. كنت أبكي لساعات... ثم أطلق ضحكات هستيرية... فأنا ابنة مقامر، وسأصبح زوجة مقامر، فهل من هناءٍ يشبه هنائي!!


وأشتدَّ البرد، الثلج يتراكم في الخارج، والصقيع يشتدَ في الكوخ، وحقدي يتمدد في روحي.
تأملتهما مساءً عائدين من لعبة قمار، يبدو انهما خسرا فيها كل ما يملكان، فقد عادا دون وقود للمدفئة. وأكتفيا بالعدس لعشائهما.
تلك الليلة اتفق من هو والدي مع الزوج المنتظر، أنه لن يُغيّر حظهما سوى زواج سريع، وأبلغتُ "الخبر السعيد!" ... سوف يُعقد القران غداً.


أخلدا إلى النوم كثورَين أنهكتْ قواهما في الفلاحة . وجلستُ أنظر حولي، أفكر بهذا الرجل الغريب الذي سيعطيه والدي غداً، الحق بأن ينتهك جسدي وانسانيتي، كما سبق له هو أن انتهك عمري.
ولم أنجح بتدفئة نفسي... طمرتُ نفسي تحت البطانيات، لكن جسدي ما زال يرتجف، وروحي ما زالت تتألم.

فجأة انتبهتُ إلى ما حولي! أثاث المنزل المتهالك من خشب، وجدران الكوخ من خشب، وأنا أشعرُ بالبرد... البرد... وجدتُ في قعر القارورة بقية من مادة الكاز، حرصت على توزيعها بالتساوي بين أرجاء الكوخ، ومنحتُ الرجلين بعد أن قيدتهما، عود ثقابٍ مشتعل.
وجلستُ أراقب النيران تمتدّ ... وتمتدّ... وأكملتُ مذكراتي على صوت صراخهما، الذي ما لبث أن همد، ورأيتُ النار تقترب مني، صدق من أسماها الفرح الأكبر. فما هي سوى دقائق حتى أشعر بالدفء... دفء أبدي.
والآن سوف أرمي مذكراتي من النافذة... أنه الدفء أخيراً.




Images rights are reserved to their owners



 








حادث اجهاض

عدتُ مساءً إلى منزلي وقد أنهكني التعب. وقفتُ أمام المرآة أراقب هموم العمر تحت جفنيّ... وفجأة وجدتني أجهض!... دم شبابي أريق أمام ناظري، وأنا لم يكن لي حَول ولا قوة أمام ما يجري لي، لم أستطع حتى أن أضع حداً للسيل الذي يخرج مني
 منتشراً في كل زوايا غرفتي.
أفقدني الألم وعيي لفترة... استفقتُ وقد احتلني احساسٌ أوحد...
كنتُ أشعُر بالخواء.
الإجهاض استنزف كل ما بداخلي... فأصبتُ بحالة تشبه حالة إنسان أفرغوا أعضاءه من داخل جسده لتشريحه أو ربما تحضيراً لتحنيطه. وهكذا أفرغ داخلي وأنا صاحية، أنظر إلى نفسي في المرآة، وأراها تُفرغ عضواً عضواً أمام ناظري. وهكذا أصبتُ بالخواء.
فأين عمري؟... وأين شبابي؟... أين أحلام صباي؟... أين روحي التي كانت تشبه فرساً جامحاً يرمح في البراري، دون أن يتمكن ولا حتى أمهر الفرسان من ترويضه.

حين تخرجتُ في الجامعة كنتُ ممتلئةً صخباً وأحلاماً وطموحاً هادراً لتغيير كوني الذي يحيطني... لكن! الأبواب التي ما تزال تغلق بوجهي منذ سنوات طوال، قد أفرغتني من صِبايا وطموحي وأحلامي ... ودمائي.
أنا امرأة أجهضتُ عزيمتي وإرادتي على الحياة. لقد غادرني دم صباي، قطرة فقطرة، على مذبح هذا الوطن الديمقراطي!... اللاطائفي!... المؤمن بكفاءة الإنسان لشخصه!... لا لانتماءاته الحزبية على أنواعها!!
اليوم، وقبل أن أعود إلى منزلي وأجهض... قد أُغلق آخر أبواب العمل في وجهي بعنف. هو آخر الأبواب التي كان من الممكن أن أدخل منها من هامش الزمن إلى وسط الحياة، في هذا الوطن الذي يصرّ من يتزعمه، على إفراغنا من كل أحلامنا، لتحنيطنا في متحف الوطنيات والشعارات الفارغة من كل معنى... وضمير.
وهكذا وقفت أمام المرآة أراقب نفسي تُجهض كيانها...
وأنا أجلس في منتصف غرفتي، أراقب نزيف أحلامي، الذي انتشر من حولي... سمعت طرقاً على بابي، فتحاملت على نفسي لأذهب وأرى من الطارق، فقد كنت أسكن وحدي منذ أن ذهب أهلي إلى القرية طلباً للهدوء والسكينة.
الطارق كان عاصم... جاري، شابٌ جامعي ضاقت به السبل مثلي، فتزوج مالكة البناء الذي نسكنه، والتي تكبره بأكثر من عشرين عاماً... تزوجها بعد أن أغرته بالمنزل الفخم، ومحل يبيع فيه العطور... ويسلي نفسه بإهداء الأحلام للصبايا، أثناء غياب العجوز، المسافرة كثيراً إلى حيث أولادها منتشرون في هذا العالم. وهكذا كنا وحيديّ هذا البناء.
حالي وحاله المتشابهان، ربطنا بوثاق التعاطف وأوقع بنا في تيار الحب، الذي ما أزال حتى الآن أقاوم الوقوع فيه، لكن نبيل لا يمل المحاولة.
لم أقل شيئاً حين رأيته يقف في الباب.
فابتسم بحنان وقال: رأيتك تعودين وأقلقني حالكِ... هل من أمرٍ يضايقك؟
استفقتُ وعاصم بجانبي، غارقٌ في نومه وأحلامه التي حققها... نظرتُ حولي، فرأيتُ هذه المرة أن دماء عذريتي هي التي تلوِّن المشهد، فعاودت التمدد... ولم أستطع أن أجد أي إحساس في داخلي... ما زلت أشعر بالخواء.

عندما استفقنا صباحاً، كان عاصم فرحاً، كطائر يرقص حول نافورة ماء في حديقة خضراء. تكلم كثيراً، ناثراً وعوده وأحلامه فوق دماء أحلامي وعذريتي. أخبرني أن "العجوز" زوجه، قد نقلت ملكية المحل لتصبح باسمه، وكيف أنها قريباً سوف تنقل له أيضا ملكية المنزل وربما البناء بأكمله، وهكذا...
- سوف نتزوج... لا بل نحن الآن متزوجان أمام الله، لكننا سوف نعلن زواجنا قريباً جداً... أعدك.
أحببتُ جداً ما منحني إياه، هذا الصباح، من إحساس بأن هناك من يهتم لأمري ويرعاني ويحوطني بالحب والحنان فأردتُ أن أتعلق برقبته، أردتُ أن أتمسك بما أعطاني من أمل، أردتُ أن أحيا فقط لأشعر بيديه تلامسني.
قبل أن يغادر المنزل قبّلني وقال:
- لن أرضى بسواكِ أماً لأولادي.

وهكذا أصبح مساءً لا يعود إلى منزله بل إلى منزلي... حيث يرعاني ويهتم بشؤوني ويشعل الحرائق في أنوثتي...
إلى أن عادت العجوز من السفر! فتغير وضعنا... عدنا جارين بالكاد نتبادل التحية، فالعجوز لم تكن تترك عاصم وحده أبداً.

...وسكنت في أرجوحة، وقد مزقني القيء.
ابتسم الطبيب بحنان أبوي، معتقداً نفسه ينقل بشرى الحمل لعروسٍ، ما زالت منذ ليلة زفافها تدعو أن تصبح حاملاً!
 حين رأى الذعر في عينيّ انطفأت ابتسامته، وقد فهم أنه نقل لي خبر مصيبة، لا بُشرى حمل.

حين عدتُ قبيل الغروب، كانت سيارة إسعاف تقف أمام المبنى حيث أسكن، وكان شابان ينقلان العجوز زوجة عاصم على نقالة، تبادلنا النظرات، وصعد إلى الإسعاف، ملفوفاً بالصمت والغموض... ولم أفهم ما يجري.

جلستُ في غرفتي، وأنا أحاول إعادة ترتيب أحلامي حسب أولوياتها... زواجي من عاصم كان أولوياتي الوحيدة... أمام أمومتي لم يعد يعنيني أي شيء.
استفقتُ من شرودي، استجابة للمسة معتصم وصوته:
- ما بك؟ لما هذا الشرود؟
ارتميتُ على صدره، فعانقني وأنا أردد:
- خائفة... خائفة...
استطاع تهدئتي، وأراد أن يفهم ما أصابني... أخذتُ يده ووضعتها على بطني وقلت:
- انه هنا...
- ما هو؟
- حبك... أنه هنا... ابنك هنا.

صُعق! وهربت دماؤه من شرايينه! أخذ يدور في المنزل وهو يقول:
- لماذا؟... لماذا الآن يا الله؟... لماذا؟
جاء دوري لأهدّئ من روعه، وأقنعتُ نفسي أنه فرح للخبر، لكنه فوجئ لأنه حصل بهذه السرعة. لم أكن أريد أن أرى أن امتقاع لونه لا يدل أبداً على السعادة.
وألقى في وجهي قنبلته:
- العجوز لا أولاد لها... لقد كانت تسافر بداية لأجل أن تعالج نفسها من العقم... ثم أصبحت تسافر لإجراء عمليات تجميل ... والآن عادت لتقول أنها مصابة بالسرطان وأنها تحتضر...
- وماذا سنفعل؟
- أنا سأبقى معها، فهذا شرطها لأحصل على كامل الميراث...
أرعبني صمته فهززته وقلت:
- وأنا؟ ...ماذا سأفعل أنا؟
- عليك أن تتخلصي منه... سوف ننجب لاحقاً حين نتزوج بعد أن تموت العجوز.
...ولم ينفعني دفاعي المستميت عن أملٍ بدأ ينمو بداخلي، فعاصم لم يوافق على أي حلٍ قدمته، ولم يوافق على أن أذهب بعيداً بطفلي، على أن يلحق بي بعد أن تموت العجوز.
قال بحدة ناهياً الموضوع:
- سوف تتخلصين من هذا الطفل... وكفى.
خرج إلى الصالون وأجرى اتصالاً، ثم عاد وقال:
- هيا بنا... سوف نذهب الآن.
- الى أين؟
- سوف نتخلص منه.

فتحتُ عينيّ، فرأيتُ الطبيب العجوز الذي سبق أن أخبرني بحملي، ابتسم بذات حنوّه الأبوي وقال:
- الم يكن الأجدى يا ابنتي لو أنك أخبرتني بما تريدين كي نتحاشى ما حصل معك؟!
تحاملتُ على آلامي وسألت بصعوبة:
- ماذا حصل؟
قال متردداً:
- المرأة التي أجرت لك عملية الإجهاض... آذتكِ كثيراً... لقد نقلوكِ إلى هنا... وأنتِ على وشك أن ... لماذا فعلت ذلك يا ابنتي؟
- ولكن هل سأشفى من هذه الآلام؟
أطرق وقال:
- يؤسفني أن أخبرك...أنها آذتكِ كثيراً...لم يعد باستطاعتك الحمل مجدداً.
ملأتُ المستشفى صراخاً.
حين حقنتني الممرضة، كان عاصم يُمسك بي، ويقول شيئاً. وكان وجهه آخر ما أراه قبل أن أغيب عن الوعي.


عاصم اختار المال، وتركني أصارع بحر اجهاضاتي المتتالية وحيدة، فإضافة لكوني امرأة الإخفاقات، أصبحتُ أيضاً امرأة الإجهاضات. فبعد أن أجهضتُ أحلاماً أمام رجل أردته أباً لأولادي... أجهضتُ على يديه طفلي... وأحلامي.
فهل يعرف الرجال معنى أن تجهضي طفلاً؟ معنى أن تجهضي حلماً؟... هل يعرفون معنى أن يُجهض إنسان كل معنى بداخله؟
هل يعرف الرجل، الفرق بين الإجهاضين؟ بل هل يعرف أوجه التشابه بينهما؟
رجل أحلامي، ولأجل أحلامه، أجبرني على الإجهاض... هو أجهض طفلاً لأجل حلم... وأنا! الإجهاض قضى على أحلامي وآمال...
إجهاض أحلامي شوَّه في روحي منطقة الإرادة على المضي قدماً في الحياة. وإجهاض طفلي عطب قدرتي الأنثوية على الإنجاب.
فمن أنا؟ من هي هذه المرأة التي تقف في مرآتي؟... وأين الناس؟... أين أصدقائي؟... أين أمي؟... أين هي من أسقطتني في هذه الدنيا جنيناً لن يكتمل نموه أبداً؟




Images rights are reserved to their owners



























                                                                                                          

مذكرات شابة أصبحت في الخمسين


كنت أرفض الزواج دوماً، ليس لأنني أعيش قصة حبٍ مستحيلة، بل لأن ما كان بداخلي هو مجرد وهم وسراب، فقد حدث لي أنك
مررتَ أمام حياتي. 
المسافة بيننا واسعة، فما يفصلنا هو مساحاتٌ من حقيقة وواقع،  جعلت الرباط الذي يأسرني بروحك، رباط من الخيال والأحلام.
ولأنك المسافر عن عمري دائماً، فقد قنِعتُ بإنسلاخي عنك، وأرسلتُ روحي لترافقك في جميع سكناتك وحركاتك.

ودارت الأيام... ومرّت السنوات... كبرت.
... التقيت به صدفة، فعبر حواجزي بإصراره، وأفهمني أنه الرجل الذي سيحول حياتي إلى سيمفونية رائعة من السعادة والفرح... فتزوجته.

بعد مضي حوالي خمسة وعشرون عاماً على زواجنا، اكتشفتُ حقيقة لم أكن أعرفها عن نفسي أبداً. اكتشفتُ أنني أعظم ممثلة عرفتها الحياة، ولم تشهدها المسارح. لقد مثلتُ دور الزوجة المحبة والمعطاءة والمتسامحة، رغم كل الأخطاء، طوال هذه السنوات.
فعندما اكتشفتُ انه لا يستطيع أن يجعلني أماً، بحثتُ عن الدور الذي يجب أن العبه في موقف كهذا، فكان القناعة والصمت وإخفاء الجراح. فأقنعت نفسي بالرضا عن أنوثتي المنقوصة وأمومتي المسلوبة، وتحولتُ إلى مجرد شكل خارجي جماله ينبع من مهارة من رسم خطوط ملامح وجهه،  وأهميته تنبع من كونه ما زال صالحاً للاستعمال.

بعد أن ذهب في رحلته الأبدية، سمحت لي وحدتي بنزع جميع الأقنعة، فوجدتُ أن الداخل لم يعد روح إنسان، بل إنه دمار شامل، كذاك الذي يلي غارة حربية، ووجدتُ أن الجمال حولته لعنة التمثيل إلى تشوه، وبصمات آلاف الحوادث.

اكتشفتُ أن الأحلام لم تتحقق كما توهمت، وأن الأمان الذي كنت أنشده لم يكن ممثلاً بهذا الشخص بالذات، بل لعله لم يكن ليوجد مع أي إنسان على وجه الأرض.

وسط هذا الكم الهائل من الزيف والتصنع، اكتشفتُ، في ومضة إحساس، انك أنتَ، يا وهم حياتي وانكسارها، كنتَ الخفقة الحقيقية الوحيدة التي لم تتحطم وتحترق بفعل التخريب الذي حصل في عمري.


 

Images rights are reserved to their owners