حجر منزلي

زائرٌ غريبٌ حلَّ علينا. دون إذنٍ مسبقٍ أو مشورة. كوفيد التاسع عشر... أخطر وأثقل ضيفٍ حلَّ على شعوب الألفية الثالثة.
انتشر بسرعة البرق بين ظهراني حياتنا، أبعدنا عن الأحبة... عن العمل... عن الدراسة... عن كل تفاصيل الحياة التي كنا نعيشها.

... وهكذا اضطررنا للإنعزال في منازلنا، خاضعين طوعاً أو جبراً لما يُسمى... الحجر المنزلي.

أمضى يوسف أسبوعين في المنزل، مع أسرته التي اكتشف انه يجهل الكثير من التفاصيل عنها. اكتشف أولاده من جديد، وتعرَّف إلى طباعهم وشخصياتهم. جدد علاقته الحميمة بزوجته، شاركها تفاصيل كثيرة، تقرَّب منها وكأنه شابٌ يحوم حول فتاة!
وبعد أسبوعين من الحجر... تفاجأ انه بدأ يعشق هذه الصبية من جديد، لما تتمتع به من روح مرحة، طيبة، محبة، عطاء لا حدود، تفانٍ في العناية بالعائلة... وفي نهاية فترة الحجر... ابتسم في وجهها وقال "هل تتزوجينني!"... وضحكا معاً.

يقول المثل: كن خفيفاً أو خفف.
لكن السيد كوفيد التاسع عشر لم يكن ضيفاً خفيفاً، فزيارته طالت وطالت لتمضي الشهور وهو يستبد بالعباد، ويقلب حياتهم رأساً على عقب. والحجر المنزلي تكرر أكثر من مرة، وفي كل مرة كان يزداد الأمر قساوة. فالأولاد بسبب الملل أصبحوا أكثر تطلباً ومشاكسة. والأزواج بدؤا يتدخلون في شؤون المنزل والطبخ، ويمضون أوقاتهم بمناكفة الأولاد والزوجة. والزوجات مللن من بقاء الرجال في المنزل، فهم ينشرون الفوضى... يثيرون المشاكل بسبب ومن دون سبب، فقط لأنهم ملوا البقاء في المنزل.
و تمادى السيد كوفيد كثيراً، فلم يترك مجتمعاً يتنفس الصعداء في وجوده. مما اضطر الحكومة لاتخاذ قرار بإقفال البلد مجدداً مدة شهر!
نفخ يوسف صدره وقال: يا امرأة... حضري لي لائحة بما يلزم من أغراضٍ لفترة الإغلاق هذه.
فكتبت زوجته التالي "أريد الطلاق".
هذه المرة... لم يضحكا!




 Image rights are reserved to the owner


بعد الرحيل...


عزيزي آدم...
صاحب الطيف الأجمل...
الغائب/ الحاضر...
الذي هو في غيابه، أكثر حضوراً في روحي من الجميع.

على أنغام أغنية سيدة الطرب  و"فكروني"... أكتب لكَ رسالتي هذه.
كنت يافعة بالكاد بدأت أنوثتي تتفتح، سمعتُ إحداهنَّ تقول عني "أن (....) عندما تحب... ستسمع أغنية "سيرة الحب" لأم كلثوم". لكنني/لكننا... خيبنا سيرة الحب بفراقنا.
فأول ما سمعتُ من أغانٍ كانت فكروني... "فكروني ازاي... هو أنا نسيتك!"
لا لم أنسك... أبداً لم أنسك.
لعلكَ نمت أحياناً في أدراج الذاكرة، لكنني كنتُ سرعان ما أوقظكَ بقبلة على الجبين، فقد لأقول... اشتقتُ لك. كان ذلكَ بعد أن يئستُ من زيارة الشارع حيث تسكن، وقبل أن أعرف أن ما يصيبني من حين لآخر من حنين اسمه "اشتقتكَ"... لا اشتقتُ لك. اشتقتُ لكَ تقال لمن غاب هنيهاتٍ، لكنكَ الغائب/الحاضر الذي لا يفارقني أبداً.
الغائب/الحاضر الذي أبحث عنه، في كلِ رجلٍ يمرَّ من أمام حياتي.
فأينكَ يا آدم... تشققت شفاه زمني وهي تسألني... أينكَ!


عزيزي الغائب/الحاضر...
هذه آخر رسائلي إليك!
لا ليس قراراً بالتوقف عن الكتابة إليكَ، بل لأن كل همساتي القادمة ستكون... رسائلي إليكَ. فما قيل في رسائلي السابقة هو مجرد صورة أقدمها لكَ
لتعرف الأنثى التي اختفت منذ نيِّفٍ وثلاثينلكن قلبي العامر بالحنين، سيبقى على طول الزمن، يخبركَ أقاصيصه... ففي كل حنينٍ سأستحضر طيفكَ الأغلى، لأخبره ...وأخبره... وأخبره... إلى أن يمَّل الحنين وتنام عيونه الساهرة.
ولن أنام... لا لن أنام إلا وأنا على يقينٍ أنكَ تغفو في أحلامي... هناك حيث سأقبِّل جبين تعبكَ لأقول... اشتقتكَ.
... لن أتوقف عن انتظاركَ... وستبقى الوجوه بلا ملامح إلى أن يُشرق وجهكَ في عتم انتظاري.


عزيزي آدم...
صاحب الطيف الأجمل... انتظرك...
وإلى أن نلتقي...
أطلق سراح طيفك، لعلي ألقاه على قارعة صدفةٍ، هيأت لنا منذ الأزل متكأينِ من ورد... وقهوة لقاءٍ تنتظر مراهِقين بلغا خمسينهما، وما انطفأت نار الشباب في قلبيهما الأخضرين.



Images rights are reserved to their owners


ماذا لو؟...


عزيزي آدم...
صاحب الطيف الأجمل...
الغائب/ الحاضر... الذي هو في غيابه، أكثر حضوراً في روحي من الجميع.

تقول فيروز في أغنيتها من كلمات وألحان الأخوين رحباني:
سوا ربينا سوا مشينا
سوا قضينا ليالينا
معقول الفراق يمحي اسامينا
ونحنا سوا سوا ربينا

ماذا لو أننا "سوا ربينا"؟...
ماذا لو أن قدرنا جمعنا طفلين على طاولة واحدة، في تلك المدرسة العتيقة، التي قضيتُ فيها سنيَّ طفولتي؟... ماذا لو انكَ- يا رفيق الروح- كنتَ زميل مقعدٍ في جامعةٍ بنيتُ فيها أحلامي؟
أنا- ولعلكَ لن تعلم- لم أتزوج أبداً. فالرجال الذين عبروا من أمام حياتي، لم يكونوا بحجم الوطن الذي أبحث عنه. أجل يا عزيزي آدم... فالرجل/الحبيب بالنسبة لي هو وطن يجب أن يسكنني قبل أن أسكنه.
أما العشاق الذينَ التقيتهم، فقد كانوا مجرد هواة "جمع النساء"، غرامهم ملغوم بالكذب، ودروبهم كدروب أرياف العالم الثالث، دائماً تقودكَ إلى الهاوية.
منذ أن نقرتَ ذاكرتي، وأنا أسأل نفسي، هل أنتَ متزوج؟... هل أنتَ أب؟... كم عدد النساء اللواتي عبرنَّ في حياتك؟... هل تركت إحداهنَّ أثراً ما في روحك؟... هل تزوجتَ عن حب؟... أم...؟
هل تذكرني من حينٍ إلى آخر كما أذكرك؟ ويبقى السؤال الأكبر والأكثر وجعاً... هل الِّح على ذاكرتكَ الآن- بعد أن بلغنا خمسيننا- كما تلِّح أنتَ على ذاكرتي؟... فهل هي إشارة من القدر؟... أم هي مجرد دعابة سمجة من الزمن؟
ماذا لو أن الحرب المجنونة لم تفرقنا؟... ماذا لو أنها لم تشتعل!؟... لو أنها لم تشتعل!؟... هل كنا لنلتقي!؟
أجل كنا لنلتقي... ولكن بشكلٍ أكثر حضارةٍ مِن الوحشية التي مارسها عليَّ التهجير، حين أوجدني- طرفة عين من الزمن- في جواركَ ثم رمى بي إلى البعيد!... بعيد عنك وعن احتمال قصة حبٍ لم تكتمل فصولها. لأقضي العمر رهينة للانتظار... انتظار رجلٍ بحجم وطن. قد يكون أنتَ... أو قد تكون أنت أيضاً مجرد وهمٍ آخر، انتظره دون جدوى!.
لو أننا لم نفترق...
أخالنا قد أصبحنا حبيبين في أروقة الوطن، نناضل معاً من أجل رفع ركام العمرِ الذي دمرته مدافعهم، حيث اغتالوا طفولتنا وتركونا على قارعة القدر الأحمق نصارع كي نستمر على قيد الحياة!
لو أننا لم نفترق... أخالنا الآن- والكهولة باكراً طوقت شبابنا- يداً بيد نكافح الأحزان معاً... تسندني في أحزاني... وأساندكَ في جهادكَ الأكبر، وأنتَ تثبت لكل "ميليشياوي" انك أحق بالحياة في هذا الوطن منه، هو الذي باعه للشيطان مقابل منصبٍ لزعيمه!
لو أننا لم نفترق!...
الغصة في قلبي... والحنين يكفكف دموعه على قارعة الفراق.
فلو أننا لم نفترق لكنتَ الآن معي... نستقبل المساء معاً على شرفة لقاءاتنا، تؤنبني لأنني قد أسرفتُ في شرب القهوة، وأضربكَ على يدكَ كلما حاولت أن تشعل سيجارة... ونضحك ملىء الحنين ونحن نروي حكايات الزمن الجميل.


عزيزي آدم...
صاحب الطيف الأجمل...
آدم (ي)... انتظرك...
وإلى أن نلتقي...
أطلق سراح طيفك، لعلي ألقاه على قارعة صدفة، فأخبره سرَّ الوصول إليَّ.



Image rights are reserved to the owner