تشتت


حاولت أن تفتح عينيها المتقرحتين من البكاء، كانت رؤيتها لعقارب الساعة ضبابية، بالكاد استوعبت أن عقارب الساعة تشير إلى السادسة.
مدت يدها لتلمس مازن زوجها... مكانه فارغ!
حاولت أن تعتدل من تمددها، فتذكرت لياليها الأخيرة التي قضتها باكية من شدة القلق، ومازن لا يعيرها انتباهاً. وكأنها وسادة بلا روح ممدة إلى جانبه. كم مرة حاولت أن تخبره خلال الأسبوع الفائت! ربما ألف مرة أو مليون!... لكنه وكعادته مشتت الانتباه، غارق في أجهزته الذكية.
فبين طنين رسالة واردة على الايميل وبين طنين رسالة أخرى، يتصفح مدونته المهتمة بالبورصة العالمية! هذه ضريبة الزواج من موظف بنك، كل اهتمامه منصبٌ على البورصة وأسعار العملات.
كم مليون مرة تكرر هذا المشهد خلال الأسبوع الفائت. تحاول أن تكلمه فتقاطعها رسالة واتساب مستعجلة تأخذ كل انتباهه، يحاول أن يعتذر منها فتخرج من فمه همهمة مبهمة.

لكن اليوم... يومٌ استثنائي. يوم صعب وقاسي، نبضات قلبها أشبه بقرع طبول الحرب. والنمل جحافل خوف تسري في شرايينها.عليه أن يسمعها... يجب أن يسمعها قبل فوات الأوان. لن تسامحه إذا لم يعرها كل انتباهه اليوم.
هي تعذره دائماً... منذ بداية زواجهما وهي تعذره، وتأخذ بنصيحة والدتها بأن تكون زوجة حكيمة تستوعب مشاغل ومسؤوليات زوجها الشاب الذي يعارك من أجل بناء مستقبل أفضل له ولعائلته.

أخذت حماماً سريعاً لتنعش دماغها، ولتخفي احمرار عينيها. لم تجد داعياً لتبحث عنه في أرجاء المنزل، فهو بالتأكيد في مكتبه بين أجهزته الذكية وكومبيوتراته المتصلة بالشبكة على مدار الأيام.
وقفت في باب مكتبه تتأمله، لم ينتبه لوجودها، تنحنحت وقالت: صباح الخير حبيبي.
نظر إليها بفكر شارد وكأنه يحاول تذكر ملامحها... ثم غمغم: صباح ال....
رن هاتفه النقال!
انتظرت نهاية مكالمته.
دخل إلى غرفة النوم... ثم خرج بسرعة، وفوجئت به وقد ارتدى ملابس الخروج.
استغلت فرصة انتباهه لوجودها وقالت: مازن... لدي ما أخبرك به.
طن وارد الرسائل على الايميل... أسرع بالدخول إلى مكتبه.
دخلت وراءه وقالت: أرجوك مازن يجب أن تسمعني.
كان يضع اللابتوب في حقيبته... فقال بعجلة: سامحيني حبيبتي... يجب أن أخرج حالاً... فلدينا اجتماع عاجل في البنك.
قبّل رأسها وقال: أعدك أن نتحدث في المساء.


طوال فترة المساء كان مازن كعادته مشتت الانتباه، يحاول أن ينجز عدة مهماتٍ الكترونية معاً. وكلما حاولت هي أن تكلمه شده أمر ما على حاسوبه.
تجاوزت الساعة العاشرة ليلاً، فوقفت في باب مكتبه وصاحت به: مازن... يجب أن نتكلم...
كان يجري محادثة ما مع عميل في البنك. حاول أن يعتذر منها لانشغاله.
فصاحت به: أنا مصابة بسرطان الثدي...
عم السكوت في أرجاء المنزل، وكأن الحرب فجأة انتهت!
دخلت إلى غرفتها، وتركته في مكتبه مذهولاً فاقد النطق.
دخل إلى الغرفة فوجدها ممددة على السرير تبكي بحرقة. حضنها بقوة وهو يبكي ويقول: سامحيني... أرجوكِ سامحيني...
كانت تنشج كطفلة فقدت أمها... ودموعه شلال ندم.

 



Images rights are reserved to their owners


كعب عالي


نغم... مقطوعة موسيقية تمطر شِعراً... تمطر عطراً... تمطر أنوثة. رقيقة كأوراق الوردة، قدٌّ مياس وخصرٌ له طراوة الزنبق.
كرنفال صباحي يمر في الحي، سحابة عطر تنشر عبيرها وهي تخطر بالكعب العالي، وعلى شفتيها ابتسامة ودٍ توزعه على الجيران والمارة.
مشهد يومي اعتاده سكان الشارع، كما اعتاد عدد من شباب الحي أن يدافعوا عن نغم عندما يتعرض لها "أزعر"... كان ينال نصيبه من الضرب والركل، لأنه تعرض لأرقَّ بنتٍ في الحي.


ماهر... شابٌ رياضي، تخرج منذ نيفٍ وشهر من كلية الشرطة، وتسلم عمله في النيابة العامة كمحقق.
كان يقود سيارته بحماسٍ وهو يتوجه لاستلام عمله.
على ناصية شارع الوحدة كانت نغم تنتظر سيارة أجرة تقلها إلى الجامعة، وإذ بدراجة عليها شابين تقترب منها. حاول شابٌ منهما أن ينشل حقيبتها، فما كان منها إلا أن تمسكت بالحقيبة وشدتها بقوة فوقع الشاب على الأرض بينما فرَّ السائق. بسرعة البرق جلس شابٌ على الأرض وأمسك بيدي السارق، بينما نغم تضع قدمها بالكعب العالي على وجهه... كان يصرخ والمارة يضحكون شماتة به، وقد شدهم المشهد جداً.


لاحظ ماهر أن مجموعة من الناس متجمهرة، وسمع أحدهم يقول "اتصلوا بالدرك". نزل من سيارته واقترب من التجمع، كان الشاب يزعق قاصداً نغم بكلامه: يخرب بيتك... فكرتك مرا طلعتي رجال...
داست بكعبها العالي بشدة أكثر على وجهه وهي تقول: أنتَ فعلاً تحتاج "لمرا" كي تربيك أيها المعتوه.


انفض الجمع بعد أن حضر رجال الدرك وأخذوا الشاب معهم. أرادوا أن تذهب نغم معهم كي تدلي بشهادتها، فتقدم ماهر وأظهر بطاقته وقال: سوف أكون مرافق الآنسة كي لا تخاف.
فتح لها باب السيارة بينما كانت تتصل بوالدها، وعرف أن أول قضاياه ستكون... جمع معلوماتٍ عن هذه ال... "نغم".



Images rights are reserved to their owners