القسمُ الحزين


أقسمُ...
بلون القمح في عينيكَ
وقد أغلقت ستائرها عن شواردِ الحياة.


بشمس ابتسامتك
وقد غربت ذات فجرٍ معتم.


أقسمُ بماسِ حروفكَ
وقد صقلني قصيدة هوى وغوى.


أن لا رجل مثلكَ
بثقاب أنامله...
أشعل الإغواء في نيراني
علمني الرقص فوق لهب القصائد.


أيها الراحل عن عمري... وجعاً.
سلام عليكَ يومَ ولدتَ...
ويومَ متَّ...
ويوم تُبعث حياً.








Image rights
DHAVAL ARTIST









نايـــــــــــــا


كنتُ أقرأ مشدوهة فاغرة الفم كالبلهاء، يا إلهي... بماذا كنتُ أفكر وأنا أكتب هذا الكلام!
هذه الترهات لا تمت إلى الأدب بصلة، أسلوبٌ مراهِقٌ ساذج. وكأن الذي كتبه يعيش في متاهة من السخافات، وقد أضاع باب الخروج.
لكن!... لا عجب إنني كتبتُ هذا الكلام، فقد كنتُ يومها ساذجة، وبريئة كطفلةٍ لم ترى بعد الوجه الآخر للحياة.
لحظاتٌ مرت وأنا مشدوهة، ووجدتني أكبس زر "إلغاء" قبل أن أترك فرصة ليدي كي تستشير عقلي، إن كان موافقاً على هذا الإلغاء.


يوم تبَّول الدولار على عملتنا الوطنية، وأورث التجار جشع "تاجر البندقية"*، تحولنا إلى شعبٍ منهك/مستنزف إلا مِن ومضة نورٍ، ما زلنا نصدق إنها تلوح في الأفق، متناسين أننا في وطن، أطفأ زعماءه كل الأنوار في الأنفاق، وأبقوا القطار مضاءة أنواره، استعداداً ليدهسنا جميعاً.

بعد نيفٍ وأسبوع من إهمالي اللابتوب وكل ما له صلة بالكتابة والأدب، قررتُ أن أفتحه، بهدف أن أرى آخر إبداعات الشبكة العنكبوتية.
شغَّلته وأنا أراقب وميض الشاشة وهي تشتغل... وما كادت!
قفزت من الشاشة، حسناءٌ غاب جمالها تحت غبار التعب، على محياها كل أحزان العالم.
صرختُ...
جلستْ على الأرض وهي تلهث وتقول: أخيراً فتحتِ الشاشة، كدتُ أيأس من حضورك.
استجمعتُ ما بي من بقايا وعي وقلت: مَن أنتِ؟
تناولت بسكوته كانت على الطاولة بجانبي، ورشفت رشفة من فنجان قهوتي.
فقلتُ ساخرة: تفضلي... البيت بيتك.
ابتسمت بخجل وقالت: عذراً... لكنني حقاً جائعة، هلا أحضرتِ لنفسك فنجاناً آخر.
كررتُ بإصرار: مَن أنتِ؟
أخذت بسكوته ثانية وقالت: سأخبركِ... سأخبرك، لكن هاتي لكِ فنجاناً آخر لنشرب القهوة معاً.

لفتني جوعها، فأحضرتُ لها صحناً من الشطائر، وحضرتُ المزيد من القهوة.
تناولت طعامها بنهم، ثم استوت لتشرب قهوتها وعلى وجهها ابتسامة خجل.
فقلت: حسناً... هلا أخبرتني مَن تكونين؟
أجابت: ألم تعرفيني؟... أنا نايا السيد.
أجبت بسرعة: ومَن نايا السيد؟... لا أعرف أحداً بهذا الاسم.
فأجابت: بلى تعرفين... شغلي ذاكرتك.
نظرتُ إليها ملياً، حسناء أربعينية، جمالها ملائكي، وشعرها غجري أسود طويل.
ثم!... مهلاً!؟... لا يمكن ذلك!
رأت نظراتي المتسائلة، فهزت برأسها إيجاباً وقالت: بلى... هذه أنا.
فقلتُ بسخرية: هل تمازحينني يا امرأة!؟
احتدت لهجتها قليلاً وهي تقول: كما كنتِ تمازحينني عندما تركتني تائهة في الشبكة العنكبوتية.
قلتُ رافضة الفكرة: لا... لا... أنتِ لا بد مجنونة، لا يمكن أن تكوني هي، فنايا السيد لم تكن إلا شخصية خيالية في واحدة من قصصي.
أجابت: قصتك التي أرسلتها إلى ال "ريسايكل بين" مزبلة الإنترنت.
نظرتُ إليها برجاء وقلت: أرجوكِ... أرجوكِ... توقفي عن قول الترهات واخبريني من أنت؟
رفعت يدها وقالت: أقسم بالله العظيم أنا نايا السيد.

لطمتُ على وجهي وقلت: هذا يعني أنني جُننت.
قامت من مكانها ومسدت شعري وقالت: لا أنتِ مجنونة ولا أنا، كل الموضوع إنني شخصية ورقية جاءت لترى الكاتبة التي خلقتها.
راقت لي اللعبة، فأنا لا أخلو من "الخَوَت" كما نقول نحن في لبنان.
طلبتُ منها الجلوس، صببتُ مزيداً من القهوة في فنجانها وفنجاني، وقلت: حسناً نايا السيد أخبريني لما أتيتِ لتريني؟
رشفت قهوتها بتمهلٍ واستمتاع وأجابت: لأسألك لماذا تركتني وحدي في أروقة الإنترنت؟
أجبت: لم تعجبني القصة حين قرأتها بعد عدة سنواتٍ من كتابتها.
- هي فعلاً كانت مريعة، لكن... هل خطر لكِ انكِ تركتني أعاني وحيدة؟
- لم تكوني وحدك، كنتم عدة أشخاص.
- لكنكِ رسمتني امرأة فاضلة... فكنتُ كما أردتني، لذا عندما رميتنا في نفايات الإنترنت، لم أستطع العيش.
أصبتُ بالخرس، هل يعقل ذلك؟ هل تعاني الشخصيات الخيالية عندما نرميها في المهملات؟
فاجأتني بسؤالها: لماذا زوجتني إلى ذاك الفنان؟
قلتُ بتلقائية: لستُ أنا من زوجك، بل هي والدته... حماتك.
أجابت: هي زوجتني إياه بعد أن قتلتِ زوجي... ابنها الآخر.
قلتُ مدافعة عن نفسي: أنا لم أقتله... هو حمى شقيقه من رصاصات ذاك "الفنان المطبِّع".
شتمت وأجابت: وهل تعرفين ماذا فعل هذا الفنان الذي قُتل شقيقه بسبب موقفه الرافض للتطبيع؟
أذهلتني المفاجأة، فهل أكملت الشخصيات حياتها من دوني؟
أمام صمتي وذهولي أجابت: استقر به المقام في إحدى الدول المطبِّعة! يُطبل ويزمر معها لما يسمونه "الانفتاح على الآخر".
وضعت يدي على فمي وقلت: ماذا تقولين؟... ووالدته كيف سمحت بذلك؟
فتحت يديها وقالت: رحمها الله لقد توفيت قبل أن ترى هذه النكبة.
فسألتها بعجل: وأنتِ تركته قبلها أليس كذلك؟
أجابت: لقد هربتُ منه، كان يريدني أن أشاركه في التطبيل لمشروع "التطبيع".
أجبت بسرعة: وأين اختبأتِ منه؟
تمددت على السرير وهي تعتذر على وقاحتها، ثم تابعت: لقد اختبأتُ منه عند ابنة عمتي آيات هل تذكرينها؟
أجبت وقد عادت لي تفاصيل تلك القصة المريعة: أجل أذكرها، كانت إعلامية مبتدئة، ومغرمة بمديرها في التلفزيون كان اسمه جهاد.
نظرت إليَّ بتحدٍ وقالت: وهل تعلمين ما كان مصير هذا الثنائي؟
حركتُ رأسي بأن لا... فقالت: لقد حصل جهاد على تمويل من "...." وأسس محطته الخاصة... وبكل وقاحة يدّعي أن ذلك حرية تعبير وانفتاح على الجميع.
أما آيات ابنة عمتي فقد تحولت إلى "بوق إعلامي"... في هذه المحطة، وفهمك كفاية.
ضربتُ على رأسي، وقلتُ: يا إلهي... ألم يبقَ أحد في هذه القصة كما أردته أن يكون؟
أجابت بحزن: بلى... بقي... إبراهيم شقيق آيات، هل تذكرينه؟
أجبت بوجل مما ستقول: ابن عمتك الذي أغرم بكِ وأراد الزواج منك.
فسارعت بالقول: لكنكِ وضعتِ زوجي المرحوم أمامي وجعلتني أغرم به وأرفض إبراهيم.
فسألتها: وماذا حصل لإبراهيم؟
فأجابت ممتعضة: هاجر... لم يترك له الفساد حل آخر. هاجر بعد أن قضى في السجن سنة كاملة، والتهمة؟... كتب مقالاً عن فساد المصارف والطبقة الحاكمة.
ضربتُ على وجهي، وتسارعت نبضات قلبي، تعرَّقت يداي وتسربت قشعريرة إلى جميع أنحاء جسدي.
وقلت: بالله عليكِ نايا... لماذا أتيتِ؟... لماذا تخبرينني كل ذلك؟
فأجابت وهي تعتدل في جلستها: كي أفهمك أن شخصياتكِ الخيالية هي أيضاً بشر، تتبدل أحوالها وتتغير، فبالله عليكِ كفي عن رسم الأشخاص المثاليين في قصصك.
حركتُ رأسي رافضة وأجبت: لا... لا... لن أفقد ثقتي بالإنسان.
أجابت بسرعة: ولا أنا سأفقد ثقتي بالإنسان، لكن... لقد علمتني دهاليز الشبكة العنكبوتية، أن الإنسان الحق نادر الوجود، وأن زمننا هذا هو زمن العار يا صديقتي... كل شيء فيه مباح، حتى الكرامات... والشرف.

صعقتني الحقيقة التي كنتُ أحاول أن لا أجاهر بها أمام نفسي وقلت:
أين ستذهبين الآن نايا؟
أجابت: لا أدري...
فقلت بصدق: هل تبقين معي؟... رجاءً.
فقالت بخجل: حسناً سأبقى، بشرط... جدي لي قصة أخرى أعيش فيها هانئة... وبكرامتي.
صافحتها وقلت: اتفقنا.




*إشارة إلى مسرحية شكسبير "تاجر البندقية".



 
Images rights
1- Sarenur Türk Koçak- sayu.go 2- Jurassic Park
3- Adam Almahjoub