هوى رجل...وهوا امرأة


"منذ اللحظة التي تلاقت فيها أعينهما أدركتُ أن الحيوان القابع فيهما سأل "أأستطيع؟ فأجاب الآخر "نعم بكل تأكيد". 
جملةٌ قالها بطل ليو تولستوي في قصته الشهيرة "سوناته لكروتزر". لخص فيها وجهة نظره في الزواج، وفي حيوانية الحب الذي نتوهمه كبيراً وعظيماً طالما أننا لم نلمس الحبيبة بعد.
فكرة اقتحمتْ ذاكرتي، وأنا ألامس أناملها الحريرية وأغوص في الضوء الذي انبثق 
من ابتسامتها المشعة.

فجر اليوم أنهيت ديواني الجديد "قبلةً لطيفها"... فقررتُ أن أضع حداً لعزلتي.
توجهتُ بداية الغروب إلى شارع الحمراء وتحديداً إلى زاويتي المعتادة، حيث أحتسي قهوتي مختبئاً خلف دخان سجائري.
وإذ بعلياء (وهو اسم مستعار) تقتحم وحدتي بكثير من الصخب. وعلياء هي كاتبةٌ من زمن الفشل، لم أكن أستسيغ حديثها، ولم يكن لي طاقةٌ للصبر على قراءة حتى صفحة واحدة مما تكتبه تحت  مسمى الأدب. لكنها اقتحمت وحدتي وتعلقت برقبتي كعادتها في القاء التحية، وتلفتتْ حولها قبل أن تجلس، وكأنها تريد التأكد من أن الجميع قد رآها تجلس معي... بكل تواضع أقول هذا.
ولحسن حظي لم يطل بنا المقام حتى حضر صديقي اللدود المفضل الشاعر نبيل الزين، ولأنه يعرف "مودتي!" لعلياء فقد دعاني لمرافقته لحضور معرض رسم لفنانة مبتدئة سوف أدعوها ريم.
وريم هي التي أثارت في ذاكرتي جملة تولستوي وأنا أصافح أناملها الحريرية وأغوص في لؤلؤ ابتسامتها.
دعوني أولاً أبشركم أن علياء رفضت مرافقتنا الى المعرض، لعدم حبها لرسامي هذه الأيام، فأين هم من "الموناليزا"! هكذا قالت هي فأجبت بلؤم "تقصدين أين هم من دافنشي فهو الرسام لا الموناليزا".
فقالت بلامبالاة
what ever-

دامت غيبوبة ذهولي أمام إبداعها، ساعتين كاملتين. وكان صديقي نبيل قد غادر بعد ساعة لارتباطه بموعد سابق، وبقيتُ وحدي أجول في المكان، ولا أنزع عينيّ عن اللوحات إلا لأختلس النظر الى المبدعة التي لا تقل روعة عن لوحاتها، فهي بحدِّ ذاتها لوحة شِعرية خطتها يد مبدعٍ وشمها بكل آيات جماله.
خرجتُ من صالة العرض وأنا مفعمٌ بالشِعر، وقلبي يتراقص طرباً على وقع وعدٍ انتزعته منها بقبول دعوتي الى جلسة فن وأدب في مقهى من مقاهي المثقفين في شارع الحمراء، الذي رأيته بعد خروجي من دائرة شعاعها بحلةٍ جديدة، لقد غسل مطر الربيع  الأرصفة صعوداً الى القمر، الذي شع نوره وكأنه أصبح مضاعفاً خمسة أقمار.
...ولفتُّ نظر المارة وأنا أدندن أغنية "أغداً القاك".
وبذلك كنتُ لمن عرف هويتي صورةً حية عن جنون الشعراء.

وجدتها... ملهمتي... التي أبحث عنها منذ أكثر من أربعين 

عاماً. الأنثى التي ستزرع عمري وروداً وموسيقى وعشقاً... 

انها حبيبتي... معبودتي. 


 وأنا أحدثها عن الشِعر الذي رأيته في لوحاتها، اقتحم علينا  مجلسنا شاب يقدح الشرر في عينيه. أراد من ريم أن ترافقه بهدوء، لكنها  تحولتْ الى لبوة شرسة وطردته بعد أن أسمعته كلاماً قاسياً، كان  من القساوة بحيث أنني شعرتُ مثله بالجرح والمهانة، وللحظات أحسستُ بالشفقة عليه وهو يغادرنا مطأطىء الرأس كسيراً كقائدٍ فقد كل جنوده وأسلحته بضربةٍ واحدةٍ في بداية الحرب.
بلمح البصر استعادتْ وجهها الملائكي، وأخبرتني قصتها معه... هو صديقها المقرَّب الذي تمرد على أعراف الصداقة واعتقدَ أنه بماله يستطيع اقتناؤها وإضافتها الى سرب حريمه!... أخبرتني كيف إنها حاولت اقناعه برفق ولين، بأن يرتدَّ عن الإساءة إلى صداقتهما، لكنه اضطرها مؤخراً لاستخدام العنف معه.  
توَّجها قلبي آلهة عشقه وهواه. لكنها كانت تمعن في صداقتي التي تضعها دائماً حاجزاً في وجهي. فآثرُ الصمت وكبح جماح عواطفي وبوحي. خوفاً من أن أخسر صداقتها. 
 ذات يومٍ عاصفٍ ماطر من أيام منتصف الشتاء، وجدتها 
 تقف ببابي،  مبللة بدموعها... 
راقبتها وهي ترشف المشروب الساخن الذي حضّرته لها بعد أن  بدَّلتْ ملابسها المبللة ببجامتي الوحيدة النظيفة.
 متمنعة عن الاعتراف بما يوضح لي حالتها الراهنة التي لم يسبق لي أن رأيتها عليها. 
هممتُ بتأنيبها على ما بدأ يظهر لي من مزاجيتها... لكن!... وجدتها تدخلني في دائرة النار، وبدأتْ تمارس عليّّ لعبة اغواءٍ لا قدرة لي على مقاومتها!... يا الهي... أخيراً معبودتي بين يديّ وترتدي منامتي.
أعرف أنها مزاجية ومستهترة ومتفلتة من أي قيود ومجنونة  أيضاً، لكنها حبيبتي، ولا يمكن أن أستغل ضعفها.
وهمستْ بين قبلتين "أنت تحبني... أنا أعرف ذلك"... أمام همستها المباركة هذه لم أستطع الصمود، ونسيتُ كل الكون...

تأملتها وهي تنام بجانبي كطفلٍ بريءٍ لم يعِ وجوده بعد، واقتنعتُ بعد ما حصل، انها لن تفارقني أبداً... وهكذا بدأتُ أضع الخطط لزواجنا وأنا مفعمٌ بالسكينةِ والعشق.
استيقظتْ من نومها ببطء... وبعد أن استعادتْ زمام أمرها، أنبتني لأنني استغليتُ ضعفها!... يا الهي... حسبتها تمارس عليَّ جنونها المعتاد، 
وإنها سرعان ما ستضحك بعد أن تتأكد من هلعي وذهولي.

لكن...! وبعد ثلاثة أيامٍ من المفاوضات والشرح والتأكيد على مشاعري رفضتْ الارتباط بي!. 
وهي تشرح أسبابها الواهية اللامنطقية، اقتحم جلستنا شاب طويل، على وجهه سيماء التوحش والصرامة. ودون أن ينبث بكلمة أمسكها من يدها وجرَّها بهدوء، فرافقته دون أن تلتفت ناحيتي!.

بعد مرور أسبوعين على اختفائها الغامض وذهولي، قرأتُ في الصحف خبراً مفاده أنها تزوجت من ابن عمها رجل الأعمال، ذاك الذي أخذها من أمامي في المقهى... وغامت عينايَّ فكدتُّ أختنق بلوعتي. 
حملتني قدماي الى ملهى ليلي، على أمل أن يعالج المشروب  جراح روحي.
 هناك صادفتُ صديقها، القائد المهزوم، الذي كثيراً ما صادفناه خلال تسكعنا هنا وهناك، والذي كان دائماً يبتسم بوجهي باستهزاء كلما تقابلت أعيننا. 
 جلجلت ضحكته عندما لمحني وصاح: أتيت يا مغفل...أهلاً بك... 
وهز الرجل الجالس بجانبه وقال له: أنظر هذا هو المغفل رقم اثنين الذي صدقها... 
عبّ كأسه بجرعة واحدة وقال: هل أخبرتكَ يا صديق عن غرامها المستعرّ بابن عمها رجل الأعمال الذي حاولتْ أن تنساه معي ومعك؟... والآن تزوجها بعد أن رجاه والدها... 
عبَّ كأساً أخرى وتابع: لا أحد يعرف كيف يكبح جماح جنونها سواه... هل فهمتَ أخيراً يا مغفل؟ 
قال جملته الأخيرة وهو يعطيني كأساً بيدي... في هذه الأثناء، انطلق من المسجل صوت معين شريف:
أصعب كلمة بفكر فيها
هي الكلمة اللي قلتيها
كيف قدرتي ما تخبّيها
 بعيونك الحلوين
كيف قدرتي تقسي عليّ
وتقوليلي ما عاد فيي
آخر كلمة بقلك هيي
 شو بيشبهك تشرين
وحين صاح:غدااااااااااار... غدااااااااار...
شو بيشبهك إنتي...ع غفلي بيشتي
كان شريك الخذلان يضحك... وجاره يغني مع المطرب.
أما أنا فركعتُ على ركبتيّ، وأنا ألعن الشيطان الذي تقمص وجهها الملائكي. 

                                                                                         

Images rights are reserved to their owners