وسائد... وأحلام


الحمد لله... انضممتُ إلى الفئة العاطلة عن الوظيفة، فبسبب غلاء المعيشة، أفلس دار النشر حيث كنتُ أعمل، فأصبحنا- زملائي وأنا- كوكبة جديدة من ضحايا الفساد المتغلغل في أركان الوطن.

كنتُ أعرف أنني أستحق ما حصل لي، فلطالما طلب مني إبراهيم ابن عمتي وحبيبي أن ألتحق به في بلاد الثلج، لنتزوج بعد أن استقرت أحواله المادية والاجتماعية هناك، لكنني كنتُ أؤجل الموضوع بسبب عملي.

طردتني المالكة من منزل والديَّ، بعد أن حكمت لها المحكمة بذلك! ولن أدخل في تفاصيل ذلك، فالقانون في بلدي في صف "من يدفع"... وفهمكم كفاية.

رفضتُ أن انتقل للعيش مع أيٍ من أخواتي المتزوجات، فكلٍ منهنَّ لديها ما يكفيها من مسؤوليات.
اقترح عليَّ شقيقي المتواجد في بلاد الثلج، أن أنتقل- مؤقتاً- إلى منزلنا القروي، إلى أن يقوم بالإجراءات اللازمة كي ألتحق به. فوافقتُ، واتفقنا أن يتم زواجنا إبراهيم وأنا هناك.

وصلتُ إلى منزل جدتي في القرية مساء.
"رحمك الله يا حنونة، لو ترين منزلك الدافئ كيف أصبح مهجوراً، بعد أن كبر الأطفال، وتشتتوا في أصقاع المعمورة".

ستي؟
ستي يا ستي
اشتقت لك يا ستي
علّي صوتك... صوتك بعيد
جايي من الكرم... جايي من التفاح
صوتك حامل شمس وفيي
لون التين والزيتون
ايــــــــــــــه
وريحة الطيون يا ستي


في أرجاء المنزل تضج ضحكاتنا، أولادٌ صغار لا نفهم، أو نتغابى عن كوننا في القرية لأن أبناء الوطن الواحد، يتقاتلون في المدينة، يتراشقون بالصواريخ، يدمرون الوطن، من أجل!... لم أستطع يوماً أن أفهم من أجل ماذا كانت هذه الحرب العبثية.

رأتني الضحكات فوجمت، بكت معي على طفولة ضائعة، وعلى أحلامٍ أهدرها- الناطقون باسم الوطن- بسيوف تترية، وتنصلوا من التهمة.

في الغرفة الخلفية الكبيرة، طالعتني "تشقيعة الفرش"* حيث كانت تهندسها جدتي كأمهر مهندسٍ يرسم خطوطه بال "ملم".
"في الصباح نرتب الأسِّرة، فتبقى الأحلام مبعثرة تحت الوسائد". هكذا كنتُ أقول لصديقاتي.

نزعتُ الغطاء عنها، وبعثرتُ الوسائد في الغرفة. طلعت منها الأحلام السجينة، تتراكض في الزوايا، كأطفالٍ يخرجون إلى الشمس بعد طول "سجنٍ" في غرف الفصول.
ضحكتُ جداً معهم، لعبنا... رقصنا... وغنينا أغنيات الطفولة.


كذبت!... لم أخبرهم عن الأطفال، وعن ما فعلته بهم الأيام.
فأختي التي كانت تحلم بأنها سندريلا، تحولت إلى "مكنسة" تركض طوال النهار في أرجاء المنزل، تنظف بقايا الأبناء والأحفاد.

أما ابنة عمي، التي كانت تدرس ليل نهارٍ كي تصبح طبيبة نفسية، فقد خذلها الوطن وقال عنها مجنونة كمرضاها، فتركت مرضاها يئنون تحت أنقاض الوطن، ورحلت مع جنونها لتعالج أمراض الغرباء.

أما ابن عمي، الحالم بالمجد، صاحب أجمل عينٍ ترى الجمال وترسمه، فقد ركب قطار البطالة، إلى أن طرده السائق على أرصفة باريس، وقال له "يا ابني... هنا مكانك".

أخي... الذي حلم بالفضاء، اضطرته الأيام أن يترك مركبته، ليركب طائرة الغربة.

أما أخي الصغير، المخرج السينمائي، كما كنا نسميه يومها، فقد تنازل عن السينما، وحمل كاميرا صغيرة، ولحق بمهنة المتاعب، في وطنٍ كل ما فيه... متاعب.

ابن عمتي حمل سياط الفساد أخاديد على ظهره، تجلبب باليأس، وركب قطار الغربة، حيث استبدل قلمه الحر... بملعقة! واحترف إطعام الجائعين في مطعم أسماه "فتولة وتبوش"**.
أراد أن يقول أن كل شيء في لبنان... "خلطبيتة!"

أما ابنة عمتي، هاوية التمثيل، كانت تعمل في التدريس... حاصرها الوطن هي وزوجها الممرض في زوايا الفاقة، إلى أن تركت طلابها، وهاجرت مع زوجها إلى حيث يستقر بهما المقام.


فرحت أحلامهم بالأكاذيب التي أخبرتهم، عن سعادة أطفال الحرب، وعن أحلامهم العظيمة التي نجحوا في تجسيدها كحياة ناجحة. حضنت بعضها بعضاً ونامت في أمان الوسائد.

نبتت من أنسجة وسادتي، أنثى بجناحين، نظرت إليَّ بتحدٍ وقالت: أين أجنحتك؟
فأجبتُ بغصة: قصوها...
لانت ملامح وجهها وسألت: مَن؟...
تسربت الدموع من قلبي وأنا أجيب: أمراء الحرب.
اقترب مني حلمٌ ما زال يزورني كثيراً رغم الكِبَر، وقال: هل تذكريني؟
ابتسمتُ بمرارة وأجبت: ما نسيتكَ أبداً...
نظر إليَّ ببراءة وقال: ما زلتُ أنتظركِ في العتمة، فمتى ستنقلينني إلى النور!
فأجبتُ بخذلان: شاب العمر وشبنا، ولم أجد فرصتي بعد.
تأبط ذراعي وقال: سنجدها معاً؟

سررت... وأصابتني الحيرة من الفكرة ونظرتُ إليه بتساؤل، فهز برأسه أن "نعم"، وقال: لا تستسلمي للصعوبات، فما دمتِ تريدينني كما أريدكِ، فلا بد أن نصل.

شغلت اللابتوب... فتحتُ صفحة بيضاء... وكتبتُ العنوان:
حربٌ... أحلامٌ ووسائد
بقلم: نايا السيد

نظرتُ إليه في الزاوية يبتسم بحب، وقال: وأخيراً سأخرج إلى النور... روايةً عن الحب والحرب.




1$= 100000 ليرة لبنانية

*تشقيعة: مصدرها شقع، وتعني باللهجة اللبنانية الدارجة: أن يضع الأشياء فوق بعضها.
الفرش: وهي الفراش والأغطية والوسائد.
** تبولة وفتوش. سلطات من المطبخ اللبناني.




Images rights
1- Draws-Micy M
2- Ali Miri
3- Lusia Duarte
4-Ali Miri
5- anonymous