جوري- السفر عبر الزمن

 
الجزء الثاني


آدم
ها قد علمتم أن زوجتي جوري قد سافرت عبر الزمن، وعلمتم أنه لا بد أن نلتقي لتنفك طلاسم الآلة.
بعد عدة محاولاتٍ وصلتُ إلى الدائرة التي دخلتها زوجتي، وكان آخر ما سمعته من العم صابر "بالتوفيق يا بني... يا رب تعتر بمراتك قُرَيّب"

وجدتني في ساحة متسعة، أجسادٌ ملقاة على الأرض كالموتى، يئنون ويتألمون. والبكاء من حولي. لم أعرف ما الذي يجري. أمسكتُ بأول شخصٍ وسألته: ما الذي يجري هنا؟
نظر إلى ملابسي وضحك وقال: يبدو انكَ مجنون وتائه.
أمسكته من تلابيبه وقلت: أخبرني ماذا يجري؟... وأين أنا؟... وفي أي عامٍ نحنُ؟
فأجاب وهو يحاول التملص مني: انك في جنوب فرنسا والناس مصابة بالطاعون... وأنا نوسترداموس الطبيب... ونحن في عام 1526.
فقلتُ باستياء: كل هذا سببه عدم الاهتمام بالنظافة العامة والخاصة، لو كنتم شعوب نظيفة لما أصابكم هذا الوباء.
أمسك بي من قميصي ووضع وجهه في وجهي وقال: عليكَ اللعنة، هل ستمارس عليَّ جنونك الآن، وتخبرني الترهات.
أبعدتُ يده عني وقلت: معك حق ليس الوقت مناسباً للتنظير... حسناً أنا طبيب أتيتُ من بعيد لأساعدك.
فقال وهو يبتعد عني: إذن ابدأ العمل بصمت.

عملنا بجهد، لكنني كنتُ أعرف أن ذلك الوباء قد قضى على آلاف الأرواح.
كنتُ أمعن النظر في وجوه كل النساء، فقد خفتُ أن تحط الرحال بزوجتي جوري في ذلك الزمن.
لكن... ولله الحمد، لم أجدها بينهم أبداً.

بعد أن قضينا ساعاتٍ طويلة أو لعلها دهور، ونحن نحاول إسعاف المرضى، أمسكني نوستراداموس من كتفي، وهو يقول: حسناً نحن نعمل منذ دهر، تعال معي لنأخذ قسطاً من الراحة.

عندما أخبرته أنني قادم من المستقبل، ضحك وأجاب: رغم دقة نبوءاتي إلا أنني لم أرَ أي صورة مستقبلية تشير إلى قدوم شخصٍ من هناك... أخبرني الحقيقة... مَن أنت؟
شربتُ رشفة من شراب أعشابٍ طعمه لذيذ، وقلت: أقسم لكَ أنني صادق في كل كلمة قلتها.
أمضينا ساعة ونحن نتباحث بموضوع سفري عبر الزمن.
ثم أخبرته عن أهمية النظافة العامة، التي توصل إليها الإنسان بعد صراعات مريرة مع الأوبئة. وأخبرته بإمكانية منع موت عائلته، لو سمع نصائحي الطبية.
دمعت عيناه وقال: منذ أن تنبأتُ بموت عائلتي وأنا في كابوس، لكنني أعرف أن القدر لا يمكن إيقافه، وما هو مكتوب في التاريخ، لن نستطيع تغييره مهما حاولنا.
أطرقتُ رأسي وقلت باستسلام: أهذا ما تعتقده؟
أجاب: هذا ما علمني إياه سير الأحداث التاريخية.
ابتسم وهو يشاهد خيبة أملي وقال: حسناً... أيها القادم من المستقبل، أخبرني كم نبوءة من نبوءاتي تحققت؟
وقبل أن أجيب: وجدتني مدداً تحت الشمس في صحراء... أكاد أموت عطشاً!
حبيبتي جوري أين أنت؟


جوري
وجدتني في قاعة فخيمة، وسط أناسٍ في قمة الأناقة والتألق. سرعان ما عرفتُ أينَ أنا. سينما قصر النيل، في 7 نيسان/أبريل 1966 والحدث أغنية جديدة من أغاني الست.
الله... الله... أين أنتَ يا آدم يا حبيبي، فلطالما كنتَ تحب أن تسمع الست بعد كل عملية تستنزف أعصابك.
بحثتُ عنه في جميع الوجوه... لكن؟... لا وجه كان يحمل ملامحه. انزويتُ في كرسي في آخر صف، كي لا يلاحظ أحد شكلي الغريب عن ذاك الزمن. فما هي إلا هنيهات حتى بدأت الموسيقى... الله... الله... وألف ألف الله. الأطلال للشاعر إبراهيم ناجي.
انتهت السهرة، وخرج الناس ثملين بأنغام الست.
وأنا... لم أعرف أين أذهب، فاختبأت إلى أن انتهت أعمال التنظيف، وأطفِئت الأنوار. جلستُ في العتمة على أحد المقاعد بنية النوم، وفي رأسي حكاية عشق إبراهيم ناجي ورائعته الأطلال. 
وفي حكاية هذه القصيدة، وهي أن إبراهيم ناجي كتب هذه القصيدة في حب صباه عندما فارقه. فقد غادر ناجي لدراسة الطب، وعندما عاد عرف أن حبيبته قد تزوجت.
ذات ليلة وبعد منتصف الليل سمع طرقاً شديداً على باب منزله، كان في الباب رجلٌ أربعيني يستنجد به ليعين زوجته في ولادتها. 
كانت الولادة متعسرة، وحالة المرأة خطرة جداً. حاول أن ينقذها بشتى الطرق. عندما لاحظ أن أنفاس المرأة بدأت تضعف، مما سبب لها غياباً عن الوعي، طلب أن يكشفوا وجهها لتستطيع أن تتنفس. وكانت الصدمة حين رأى أن الوالدة لم تكن إلا حُب عمره التي لم ينساها يوماً. أجهش بالبكاء وهو يجري العملية، وسط ذهول المتواجدين.
رجع لمنزله قبل مطلع الفجر، بعد أن أنقذها هي ومولودها.
وكتب الأطلال.
وبكيتُ بحرقة وأنا أذكر المقطع الأخير:
يا حبيبي كل شيءٍ بقضاء
ما بأيدينا خلقنا تعساء
ربما تجمعنا أقدارنا
ذات يوم بعد ما عز اللقاء
فإذا أنكر خل خله
وتلاقينا لقاء الغرباء
ومضى كل إلى غايته
لا تقل شئنا فإن الحظَّ شاء.

"آدم حبيبي... متى اللقاء!؟"

صباحاً وجدتني في منزل! بعد جولة في الأنحاء عرفتُ انه منزل الشاعر الكبير، إبراهيم ناجي.
وقف أمامي مشدوهاً وهو يقول: من أنتِ؟... وكيف دخلتِ منزلي؟
فقلت وأنا أبتسم لأخفف من توتره: دكتور إبراهيم ناجي... أنا عاشقة جئتكَ من زمنٍ لم يعد إنسانه يعرف العشق. جئتكَ من زمنٍ أصبح يعتبر "الست" وأغانيها من الزمن الفائت.




Images rights are reserved to their owners


No comments:

Post a Comment