أرشيف صوَر


ذاكرة الوطن هنا في منزلنا. في أرشيف والدي - رحمه الله- المصور الصحفي الذي أفنى عمره في أروقة مهنة المتاعب.
في ذاكرة هذا الأرشيف كل أفراح ا
لوطن وأتراحه. وجحافل شخوصه الممسكين بحبائل وجوده. سياسيين... زعماء... كتَّاب... فنانون... عظماء وصعاليك...

كنتُ أجمع ما لا لزوم له في أكياسٍ سوداء، وإذ بيدٍ تمتد من غياهب العتمة وتمسك بيدي... وأدخلتني إلى عالم غريب!
متاهةً تعرض جدرانها آلاف الصور الناطقة!… والكل يمد يده ليوقفني، بهدف أن أسمع ما يقول!
ها هو زعيم كبير يزعق ويقول: مكاني المتحف الوطني يا ابنة المصور، فلماذا تمزقين صوري؟!
ضحكتُ كثيراً، انتزعته عن الحائط وقلت بينما كنتُ أدسّه في كيس النايلون: اعذرني أيها المجرم… فمكانك "مزبلة التاريخ".
علت همهمات مناصريه وأعدائه، بدأتُ بنزعهم واحداً تلو الآخر وأنا أضحك وأقول: هيا… لقد مارستم طغيانكم وفسادكم معاً، ومعاً سوف تذهبون إلى تلك المزبلة.
رميتهم... فزلزلت "مزبلة التاريخ" تحت أقدامي... شتمتني وهي تتقيأ.

صرخ بي أحدهم: هييي أنتِ... هل تدرين من أنا؟
ضربتُ صلعته بمطرقة الذباب وأجبت: أنتَ مَن باع الوطن، من أجل الكرسي.
استنكر وقال ساخطاً: لكن أخصامي كانوا سيبيعونه على كل حال.
نزعته عن الحائط وأنا أشتمه وأشتم أخصامه وأقول: أنتَ وهم وجهان لعملة واحدة... وما أدراكَ أن مصيرهم لن يكون كمصيرك؟

جمعت كل صور الاجتياح الإسرائيلي، ففقأتُ عيون الجنود الصهاينة. كم فرح أولاد الحي ببقايا الصور، أخذوها إلى الحقل المجاور... أشعلوها، وأقاموا حولها مباراة... مَن ينفث (ب ...) أطول مسافة.

أما صور الحرب الأهلية، فأبت أن تحترق. كانت ألسنتها تعلو وتعلو وهي تزعق بوجهي: لن نختفي من الوجود، فنحنُ هناك في أعماقكم.
بكيتُ بدموعٍ موجعة، وقلبي يردد "صحيح... صحيح".
ثم أهديتها لجرذان الحقل، وليمة مسمومة.

معركة حامية الوطيس دارت بيني وبين أمراء الحروب في كل مكان، وكلٍ منهم يشتم ويلعن بينما أنا أكمل عملي، وأدخلهم إلى أكياس القمامة.

فنانة متصابية استنكرت بأن صورها قبيحة وأبي مصور فاشل. نزعتها عن الحائط وقلت: أبي كان مصوراً لا رساماً.
لعنتني… فشددت شعرها.

إحداهنَّ كانت في حفل توقيع كتابها على ما يبدو، نزعتها عن الحائط، نهرتني وقالت: وليييي... كيف تجرئين على تمزيقي!؟ هل تعرفين عدد الجوائز التي نالتها رواياتي؟
ضحكتُ وأنا أنزع "باروكتها" عن رأسها وقلت: لم تكن الجوائز لكِ يا حيزبون، بل للكلمات البذيئة في رواياتك.
حاولت أن تنزع شعرها المستعار من يدي وهي تشتم وتلعن. خدشتني بأظافرها، فعضضتُ يدها.


أم كلثوم وبكامل بهائها، نظرتْ إليَّ بعينٍ دامعة. قبلتها وقلت: مكانكِ في قلوبنا يا ست. فنحن جيلٌ مثلك نزرف الدموع، على زمانٍ جميلٍ ولى. وعلى فنٍ استحدثوه هابطاً، باسم الحداثة و"الجمهور عايز كده".
جلستُ تحت صورتها، وبكينا معاً.

على جدارٍ ساطع الضوءِ، صور العظيمة فيروز، يصدح صوتها في مهرجانات بعلبك.
استمعتُ إليها مسحورة...
ثم قبلّتُ يديها ورأسها وقلت: ما زلتِ الجمال الوحيد في هذا الوطن.

رقصتُ مع الصبوحة على أنغام يا دلع يا دلع.
ضممتها إلى صدري، فضحكت وقالت: نصيحة يا بنت... عيشي حياتك وارقصي... يلعن أبو الزعل.

وما زالت الأفراح... والأتراح، في ذاكرة أرشيف كل مصوِر عامرة.



 

Images rights are reserved to their owners


2 comments: