جوري- السفر عبر الزمن


الجزء الرابع


آدم
كنتُ أقفُ مذهولًا وقد وجدتُ نفسي في مكانٍ يبدو لي أنه في دولةٍ أجنبية، لعلها فرنسا.
فالناسُ القلائلُ الذين صادفتهم كانوا يتحدثون الفرنسية، وكي أتخلَّصَ من نظرات العابرين، دخلتُ شارعًا ضيّقًا، فوجدتُ ملابسَ معلَّقةً على حبال الغسيل.
آسف... لكنني اضطررتُ لسرقتها كي أتماهى مع أناس ذلكَ العصر.
وأنا أتجوّل مسحورًا ومذهولًا... وصلتُ إلى بناءٍ يبدو أنه مدرسةٌ أو ما شابه.
شاهدتُ شابين يخرجان مسرعين، أحدهما قال للثاني: أسرع... يجب أن يحضر الطبيبُ حالاً.
وجدتها فرصتي: اقتربتُ منهما وقلتُ بفرنسيةٍ متقنة: أنا طبيبٌ، هل أساعدكما بشيء؟
فصرخ أحدهما بحماس: رائع... تعالَ معي... إن صديقي لويس يحتضر.

فهمتُ أنني في غرفةِ لويس برايل، وأنه يُحتضر.
وأنا أعالجه، أخذني عطرُ المكان... يا إلهي!... إنه عطرُ زوجتي جوري.
ولم أستطع كبحَ جماح نفسي، فقلت: هذا العطر...
ابتسم لويسُ وقال بشقِّ النفس: لقد زارتني منذ بضعة سنواتٍ شابةٌ كانت تريد أن تتعلم أبجديتي... أدهشتني رائحتها... لقد كانت طيبةً جدًّا... فقالت إنه عطرها الخاص. أهدتني الزجاجة... وأنا أرشُّ منها كلما أردتُ تجديدَ رائحةِ غرفتي.
فهتفتُ... وهتف قلبي: هل أستطيع أن أرى هذه الزجاجة؟
قال برايل لصديقه: أحضرها من الخزانةِ لو سمحت.
"يا ربَّ الأكوان!... هذا عطرُ جوري زوجتي! إذن فقد مرّت من هنا!... يا إلهي متى ألتقيها؟"


جوري
كانت النساءُ حولي زرافاتٍ زرافات، منهنَّ العاملات ومنهنَّ ملقيات الأوامر، منهنَّ في غرفهنَّ ومنهنَّ متنقّلاتٍ في الأروقة.
أين أنا؟
يبدو أنني في حرملكِ سلطانٍ ما، فلباس النساء تمامًا كما تصورهنَّ المسلسلات التاريخية.
لكن أين؟ لا أدري. لم أستطع أن أعرف في قصر أيِّ سلطانٍ أنا، وفي أي عصرٍ أنا، إلى أن ناظرتني إحداهنَّ من بعيد، يبدو أنها المسؤولة.
دارت حولي مذهولة، فملابسي غريبةٌ ومظهري كله غريبٌ عجيبٌ بالنسبة لها.
تجمّعت حولنا الكثيرات من الجواري أو لعلهنَّ أميراتٌ لا أعرف. نطقت إحداهنَّ بلغةٍ غريبةٍ تخالطها لكنةٌ أجنبية.
فزعتُ، وانتابني الرعب منهنَّ... يا إلهي هل يمكن أن يهدينني هذه الليلة للسلطان؟
وضعتُ يديَّ على بطني وكأنَّ أحشائي تتقطع، وبدأتُ بالبكاء والنحيب.
حملتني النساءُ إلى جناحٍ تشغلهُ عشرات النساء. واستدعينَ امرأةً اعتقدها "حكيمة"... بدأت بفحصي، ورأيتُ على وجهها علامات الدهشة!
قضيتُ الليل وأنا أدَّعي المرض وأتألم، والنساءُ من حولي حائرات.
كنتُ أضحك في سري "سأبقى على هذه الحال إلى أن تنقضي هذه الرحلة... لن أدع سلطانكنَّ يمسني."



آدم
في ساحةٍ ما كان حشدٌ من الناس متجمهرًا، يتخاطبون بصخبٍ وحماس.
فهمتُ أنني في عام ٨٦٧ وأنَّ عباس بن فرناس سيقومُ حالاً بتجربة الطيران.

الحمد لله، كنتُ غير مرئي، فالرجال يتجاوزونني كما لو كنتُ مجرد ضوء!
ها هو عباس بن فرناس يقفُ في الأعالي، والناس فجأةٍ نزل عليهم صمتُ الحملان.

طرااااااااااااااخ...
أجل، لقد وقع المسكين، وتحطمت عظامه.
رافقتُ الأطباء خلال علاجه، أحزنَتني بدائيةُ المواد الطبية وأسلوبُ العلاج.
لكن!... كان ذلك أفضل طب في ذلك الزمن.
جلستُ وراء رأسه وأخذتُ أمسح العرقَ عن جبينه.
بعد منتصف الليل بقليل، وقد غادر الجميعُ غرفةَ عباس ابن فرناس، سمعته يئنُّ من الوجع، اقتربتُ منه وقلتُ: اصبرْ يا أخي، ستتحسنُ بإذن الله.
فقال بصوتٍ يتألم: ليتني لم أفعل ما فعلتُ، فالأجنحة لا تنبتُ إلا للطيور.
جلستُ على الأرض تحت رأسه، وأمسكتُ يده، وبدأتُ أخبره عن حلمه هذا، إلى أين أوصلنا!
أخبرته عن الطائراتِ الحربية التي تقصف الآمنين من الأطفال في فلسطين ولبنان واليمن... فصرخَ صرخةً مدوية!
وتمدد جسده وارتخى... وقبل أن أكتشف إن كانت غيبوبةً أم وفاةً... حملتني عاصفةٌ هوجاء.


جوري
ها أنا مجددًا في فرنسا... والحدث كما اكتشفتُ، هو نقلُ جثمانِ "لويس برايل" من قريته كوب فراي قرب باريس إلى مقبرة العظماء في احتفالٍ تأبينيٍّ مهيب.
ولأنني، ولله الحمد، كنتُ هذه المرة غير مرئية، فقد رافقتُ الجثمان طوال رحلته إلى مثواه الأخير. وداعًا لويس برايل.
هذه المرة أخبرته - كما لم أجرؤ حين رأيته سابقًا - أنه بذل عمره القصير ليمكن المكفوفين من القراءة والكتابة، لكنَّ مبصري زمن العولمة قطعوا علاقتهم بالكتاب والقراءة.
ارقد بسلام يا صديقي.







Images rights are reserved to their owners


No comments:

Post a Comment