جوري- السفر عبر الزمن


الجزء الثالث


آدم
وجدتُني في مركبة فضائية، والطاقمُ مذعورٌ من وجودي!
فصرخَ بي أحدهم بالإنكليزية: "اللعنة... لكن من أنتَ؟"
كان في أحد أركان المركبة امرأةٌ تتألمُ من معدتها.
فقلتُ لأشتت انتباههم: أنا طبيبٌ.
صرخت المرأةُ المتألمة: لقد أرسله الله... كنتُ أعرف أن الله موجودٌ.
اقتربتُ منها وقمتُ بفحصها. يبدو أنها قد تناولت طعامًا فاسدًا، فأصيبت بالتسمم.
عندما تحسنت حالها، ضحكَ أحد الرواد وقال: والآن ماذا أيها الملاك؟ هل ستختفي؟
ضحكَ الجميع، فضحكتُ معهم وقلت: ما رأيكم أن نتعارفَ قبلاً؟
كنتُ في رحلةٍ فضائية عام 1963 مع أول رائدة فضاء وهي الروسية فالنتينا تريشكوفا.
أخبرتهم عن المستقبل، وعن وضع المرأة تحديدًا، أخبرتهم كيف تسببت بعض "النسويات" بترسيخ فكرة "تشيئ" المرأة بزعم تحريرها.
اشمأزّت فالنتينا وقالت: هل هذا ما تعلمنه منا؟ بئس الحرية!
ربّت أحد الرجال على كتفي وقال: كلامك منطقي رغم غرابته، أخبرنا أكثر عن سفرك هذا.

"لكن يا إلهي!... متى سأجد جوري؟"



جوري
أنا في القطب الجنوبي، في فبركة لصنع ألعاب سانتا.
كنتُ أتجوّل بين العمال مشدوهة، فلطالما كنتُ أعرف أن لا وجود لسانتا، وأن هذه الأسطورة مجرد حكاية يتسلى بها الأطفال زمن ميلاد السيد المسيح (عليه السلام).

وأنا ألف وأدور في المصنع مشدوهة، ناداني صوتٌ من ورائي: جوري...
التفتُ مذعورة فاصطدمتُ بسانتا.
ضحكتُ كطفلة مشاغبة، ونتفتُ شعرةً من شاربه وقلت: تنكّرٌ ممتاز يا سيدي.
ربّتْ على وجنتي وقال: يا بنتَ جوري، ألَم تعرفيني؟ أنا سانتا.
قهقهتُ بصخب وأجبت: طبعًا أنتَ سانتا وأنا الجنية الساحرة.
هزّني من كتفي وأجاب: جوري؟ استفيقي واستوعبي... أنا سانتا.
فصرخت: لكنك خيال... ولا وجود لك.
فأجاب بجديةٍ وحزم: بل أنا موجود... ألم تسمعي بروح الميلاد؟
فقلتُ بسرعة: طبعًا إنها روح القديس نيكولا الذي أحب الخير وأعمال الخير.
فأجاب سانتا وهو يفتح يديه ليؤكّد كلامي: أرأيتِ؟ إذاً أنا موجود.
فقلت ببلاهة: لم أفهم.
فأجاب وهو يجلسني إلى طاولةٍ عليها ما لذّ وطاب: إنّ كلَّ إنسانٍ وخاصة إذا كان طفلًا، يحمل روح الميلاد، ويعرفني. فأنا موجود في قلبه وخياله.
فكرتُ لبرهة وضغطتُ جبيني، وقلت: إذن أنت جادٌّ فيما تقول؟
أجاب بابتسامةٍ عريضة: كل الجدية.

وهكذا أمضيتُ مع سانتا في معمل الألعاب أجملَ الأوقات، وأنا أرتّب الهدايا وأتسامر مع أقزامه، وألاعب الأيائل.
فجأة قال: جوري؟ هل تركبين معي العربة الليلة لنوزع الهدايا؟
فقلت فرحة: وهل نحن في عيد الميلاد؟
هزّ برأسه علامة الإيجاب وقال: الليلة هي ليلة الميلاد في زمنك... سوف نمرّ لنترك هديةً لزوجك آدم.
تنهدتُ بحسرة وقلت والدموع في عيني: وأين هو آدم؟
فقال: حان موعدُ هديتك، سأقولها لك الآن.
فأجبت بدهشة: ستقولها؟
ابتسم وأجاب: نعم سأقولها... فهي هديةٌ شفهيّة.
فقلت بنفاذ صبر: وما هي؟
فأجاب بابتسامة ثقة: آدم يبحث عنك في الزمن... وقريبًا ستلتقيان.
صرخت: أحقًا؟
فأجاب وهو يجرّني إلى العربة: حقًا... والآن إلى العمل.

راقت لي الملابس التي منحتني إياها مسز سانتا.
ولم أخبره كيف دمّرت الحرب براءة الأطفال، وأنه لم يعد لروح الميلاد من وجود.
ربّت سانتا على كتفي وقال: أعرف بما تفكرين... فحتى الأطفال لم يعودوا يصدقون وجودي، لكنني أصرّ على زيارتهم على أمل أن يحافظوا على روح الميلاد، وعلى إيمانهم بالسيد المسيح.
فقلتُ بحسرة: السيد المسيح؟
فقال: أجل... السيد المسيح، فأنا لست سوى بشارة مولده، والأطفال لا بدّ يومًا أن يفهموا ذلك، ويومها ستكون روح الميلاد قد تحققت.


آدم
يبدو أنني في مختبرٍ كبير. هنا مئات الأشخاص يتحرّكون بصمت وهم يرتدون الأبيض. وإن تكلموا، فيتكلمون بالإنكليزية.
الحمد لله أنني هنا كنتُ غير مرئي، لأنهم لو رأوني على حالتي البائسة، لاستدعوا الشرطة حتمًا.
وصلتُ إلى ما يشبه الطاولة الرخاميّة، كانت محتشدة بقوارير زجاجية صغيرة، فيها سوائل ملونة. وكان يشغلها شخصان.
كانا طبيبان يجريان اختبارات من أجل اكتشاف أنجع علاجٍ للسرطان.
أردتُ أن أصرخ لأخبرهم أن لا دواء حتى مجيئي عام 2021 قد نفع، وأن السرطان ما زال يأخذ آلاف المرضى.
تكلمتُ... وتكلمت... لكن لا جدوى! لم يسمعني أحد.
بدأتُ أسلي نفسي بقراءة اكتشافاتهم، وأنا أعيد وأكرر "ليت أني أعرف الدواء الشافي لأضعَه بين أيديكم".


جوري
فجأة وجدتُني في غرفةٍ باردةٍ بائسةٍ في مكانٍ ما. حاولت أن أجد شيئًا يخبرني عن الزمن وعن المكان الذي وصلتُ إليه، لكنني لم أجد سوى أوراقٍ مثقوبةٍ وإبرٍ و... مهلاً!... إبرٌ ومثاقبٌ وأوراقٌ مثقوبة؟ هل يعقل أنني عند...
لويس برايل؟

دخل رجلٌ كفيفٌ إلى الغرفة، وأخذ يتشمّم الهواء وهو يدور ثم وصل إليّ في الزاوية وقال: هل يوجد أحد هنا؟
الحمد لله أنه كفيفٌ ولا يراني. تنحنحتُ وقلتُ بصوتٍ حاولتُ أن أجعله متوازنًا وواثقًا: السيد لويس برايل؟
فأجاب فورًا: نعم أنا هو... من حضرتك؟
فأجبتُ وقد أتتني فكرة مفاجأة: لقد أردتُ أن أنتظرك في غرفتك، لأنني مصممةٌ على مقابلتك.
ابتسم بوداعة وقال: بماذا أفيدك؟
وجدتُ على الطاولة ورقةً عليها تاريخ عام 1829م فعرفت أنَّه في هذه الفترة يطوّر طريقةً للكتابة بالمثقاب، فقلت: أنا من المهتمين بأسلوبك في الكتابة للمكفوفين، وجئتُ كي أتعلمها منك.
فأجاب: هل أنتِ كفيفة؟
فقلت: لا لستُ أنا، بل... يا إلهي! من سأقول؟ فقلت على عجل: إنها شقيقتي وهي تحب القراءة وكتابة القصص جدًا.
فقال: مرحبًا بك.

عندما انتهينا، صفق بيديه وقال: أحسنتِ يا عزيزتي، كم أنتِ سريعة!
لم أجرؤ أن أخبره عن نفسي، وعن أنني أعرف مسبقًا طريقته في القراءة والكتابة.
جلسنا بعدها نتحدث في شؤون العلم والثقافة، طبعًا تفاديتُ ذكر أي معلومة لم تحدث في زمنه.
كم وددتُ لو أخبره عن وضع القراءة في أوطاننا العربية، 
فبعد أن أفنى حياته لإيجاد لغة خاصة بالمكفوفين، ها هم المبصرون يقطعون أي صلة لهم بالكتاب!
عزيزي لويس، لو رأيتَ كيف تُستغل اليوم اللوحات المضيئة!








Images rights are reserved to their owners


No comments:

Post a Comment