جوري... لقد وصلتُ يا حبيبتي.
إنه زوجي آدم... صديق مراهقتي وشبابي وحبيب العمر كلِّه. هو طبيبٌ جراحٌ، يقضي معظم يومِه متنقِّلاً بين المستشفى والعيادة.
قليلاً ما نلتقي، بالمعنى الفعلي للكلمة، فهو نادرًا ما يُخصِّص لي وقتًا لنقضيه معًا، وأنا متجمِّلةٌ بالحبِّ صابرةٌ على غيابه الدائم، أُغرق نفسي بالأدب، أرسُم شخصياتٍ أعيش معها قصصَها. أقرأ لأدباء من جميع أقطار المعمورة، لعلِّي بين دفتي روايةٍ أجد إلهامي.
كان آدم مشرق الوجه، يحمل في يده مغلَّفًا.
قبَّلني وقال: كلَّ عامٍ وأنتِ حبيبتي... وتفضَّلي بقبول هديتي المتواضعة.
شكرته بامتنان، فقد كنتُ حقًّا قد نسيتُ أنَّه عيدُ مولدي.
فتحتُ المغلَّف لأجد تذكرتَيْ سفرٍ... دُهشتُ ونظرتُ إليه... ابتسم وقال:
سأحقِّق حُلْمَكِ... سنسافر إلى مصر.
عانقته بحرارة، وأنا أقول: شكرًا، شكرًا، شكرًا حبيبي.
كان آدم يعرف أنني أحلم بزيارة مصر الحبيبة، وتحديدًا منطقة سور الأزبكية وخان الخليلي.
✈✈✈✈✈✈✈✈✈
رحَّب بنا العمُّ صابر بلطفه وخفَّة دمه المصرية الأصيلة، صاحب أقدم مكتبة في سور الأزبكية.
أخبرته عن شغفي بالكتب وبالمكتبات، وأن عليه أن يعتاد وجودي عنده لساعاتٍ وساعاتٍ طوال زيارتي لمصر.
رحَّب بنا كثيرًا وقال: المكتبة لكِ يا ابنتي، وأنا سأشرب الشاي مع الدكتور.
أجاب آدم: آدم يا عم صابر... فقط آدم بلا دكتور.
أعدَّ العمُّ صابر الشاي، بينما كان آدم يختار بضعة كتب طبية علمية كما يهوى.
شربتُ الشاي معهما على عجلٍ، وتركتُهما في أحاديثهما الخاصة، وتوجَّهتُ إلى الداخل.
باختصار، كنتُ في الجنة...
بعد ساعاتٍ من البحث بين أقدم الكتب، أضاء عنوان كتابٍ فبهَر نظري، خلتُه يناديني، كان عنوانه "السفر عبر الزمن".
ما هذا؟! ومنذ متى بدأ حلم الإنسان بالسفر عبر الزمن؟!
بدأتُ بتفحُّص الكتاب، فوجدته مجرد طلاسم... أرقامٌ وحروفٌ متداخلةٌ.
إلى أن وصلتُ إلى صفحة عليها دوائر، وداخل الدوائر أرقامٌ وحروفٌ غريبة.
وأنا أركِّز بصري داخل إحدى الدوائر، سمعتُ العمَّ صابر يصرخ: لا... لا... أغلقي الكتاب! لكن زوبعةً هبَّت في وجهي، قبل أن أستوعب ما يحصل!
وجدتُني على الأرض، وحولي خزائن بطول الجدران وعرضها، فيها أوراق وكُتبٌ.
يا إلهي! أين أنا؟
وقفتُ لأستطلع المكان، كان للكتب شكلٌ ورائحةٌ غير مألوفة بالنسبة إليَّ.
الخزائن مقسمة إلى عناوين: فلسفة، مخطوطات... أين أنا يا إلهي؟
فجأة مرَّ أمامي جمعٌ من الرجال، يرتدون ملابس مضحكة، كتلْك التي يرتديها شخوص كتب التاريخ.
أردتُ أن أكلِّمهم لكنهم تجاوزوني وكأنني غير مرئية.
بدأتُ بالصراخ: آدم... آدم... أين أنت يا آدم!
لكن لا جواب... وصوتي يردِّده الصدى، والعجيب أن لا أحدَ سمعني من الموجودين!
فجأة ظهر أمامي شيخٌ، ملابسُه تمامًا كأيِّ عالِم أو فيلسوف خرج من كتاب قديم.
وقف أمامي وقال: اهدئي ولا تصرخي... لن يسمعكِ أحد.
كنتُ أرتجف رعبًا، لكنني شعرتُ بالراحة؛ لأنني أخيرًا وجدتُ إنسانًا أكلِّمه، حتى لو كان شكله غريبًا.
ازدرَدتُ ريقي وقلت: أرجوك، أرجوك ارأف بحالي وأخبرني أين أنا؟!
قال بهدوءٍ ورويَّة: لا تخافي واهدئي... جوري.
تعجبتُ من كونه يعرف اسمي، فقلتُ باستهجان: كيف عرفتَ اسمي؟
ابتسم وغمَز لي بعينه وقال: ألَم تكوني تعبثين بالتاريخ؟ ها قد وصلتِ! وأنا سأكون مرشدكِ، أخبروني فجئتُ لملاقاتكِ.
استجمعتُ شجاعتي وقلت: هلا أخبرتني، أرجوك، ماذا يجري؟ وأين أنا؟ وأين زوجي آدمُ والعمُّ صابر... و...
أشار لي بيده كي أتوقفَ وقال: على رِسلكِ يا بُنيَّتي... أصمتي قليلًا لأُخبرَكِ كلَّ شيء.
ثم قال: تفضَّلي معي.
دخلنا إلى غرفةٍ باردةٍ، فيها كتبٌ ومخطوطات، وأوانٍ زجاجية، وآلاف الأشياء.
أشار إلى كُرسيٍّ وقال: تفضَّلي اجلسي.
قدَّم لي شرابًا ساخنًا وقال: إنها خلطة أعشابٍ ستشعرين معها بالتحسن.
جلس وراء مكتبه، أو سمِّها طاولته.
نظرتُ إليه، وألفُ سؤالٍ يدور في خلَدي، لكنني لم أَجرؤ على النطق.
ابتسم الرجل الغريب وقال: دعيني أولًا أقدِّم نفسي، أنا أبقراطُ.
ابتسمتُ وغمزتُ بعيني وقلت: أحسنتَ يا شيخ... اختيارٌ موفق، فأنت حقًّا تشبهه، حسب ما نرى رسومه في كُتب التاريخ.
اتخذتْ هيئته ملامحَ جادة وأجاب: لا يا جوري... لستُ أتشبَّه به، أنا فعلا أبقراطُ أبو الطبِّ.
بدأتُ أضحك، حتى أسكتتني هيئته الصارمةُ.
فقلتُ بانكسار: لعلني أحلم... أنا أحلم، أليس كذلك؟
أجاب بجدِّية: لا، أنتِ لا تحلمين... بل أنتِ مسافرةٌ عبر الزمن، وقد حطَّ الرِّحال بكِ هنا... مرحبًا بكِ في مكتبة الإسكندرية!
لم أستوعب، فقلتُ: أجل، أنا في مصر، أنا مع زوجي في مكتبة العمِّ صابر.
فأجاب بإشارةٍ من يده: اهدئي... واستوعبي ما أقول: ألم تكوني في مكتبة العمِّ صابر تتصفحينَ كتابًا عن "السفر عبر الزمن"؟
فقلتُ: أجل، هذا آخرُ ما أذكره.
فأجاب: لقد أدخَلتكِ طلاسمُ الكتاب إلى آلة السفر، وها أنتِ مسافرةٌ عبر الزمن.
ساعاتٍ مضت... استوعبتُ بعدها أنني فعلاً عابرةٌ للزمن، وأنني في مكتبة الإسكندرية، عام ٤٨ ق.م!!! قلتُ مستسلمةً دامعةَ العينين: ومتى سأعودُ إلى زمني وحياتي وزوجي؟
قال: عندما تلتقيان أنتِ وزوجكِ.
قلتُ بحيرةٍ: لم أفهم.
فتابع أبقراط: ستبقين على سفرٍ إلى أن تلتقي بزوجك، عندها وعندها فقط سيكون بإمكانِ العمِّ صابر فَكُّ شِفْرة الطلاسم، لتستطيعا العودةَ معًا إلى زمنكما.
فصرختُ: وكيف سيحصل ذلك؟ وكيف يمكن أن نلتقي...
تابعتُ باكيةً: أرجوك أخبرني ما أستطيع فهمه.
أعطاني منديلاً وقال: امسحي دموعكِ واهدئي.
تنفَّسَ بعمقٍ وتابع: سوف يلحق بكِ زوجُكِ، لا تخافي. وفي زمنٍ ما تلتقيان، وعندها سينجحُ العمُّ صابر في فَكِّ الطلاسم.
فسألته خائفةً: وإلى أن يحصل ذلك؟
فأجاب: إلى أن يحصل ذلك، ستبقين مسافرةً عبر الزمن وستنتقلين من عصرٍ إلى عصر، حتى تحط الرحالُ بكِ في زمنٍ سافر إليه زوجكِ.
انتحبتُ واختنق صوتي، فقال أبقراط: جوري... أنتِ مثقفةٌ وتعرفين أهمية نشر العلم والثقافة؛ لمَ لا تضعين في بالك أنكِ مُرسلةٌ من أجل مهمةٍ مقدسةٍ إلى أن تعودي إلى زمنكِ، وسيكون ذلك قريبًا بإذن الله.
فقلتُ بغيظٍ: وماذا سأنفع الأزمنةَ بثقافتي وعِلمي؟
أجاب: فكري... ألَم تتمني يومًا أن يعود بكَ الزمنُ لتغيِّري أمرًا ما؟
راقت لي الفكرة، توقفتُ عن البكاء، ومسحتُ دموعي وقلت: حصل كثيرًا... فمثلاً، لطالما تمنيتُ أن أعيش زمن الفلاسفة، أن أدرس في معاهدهم... كما أتمنى أن ألتقي بابن سينا أول طبيب نفسي.
نظرتُ إليه بخجلٍ وتابعت: كم تمنيتُ أن ألتقيك لأخبرك ماذا فعل أطباؤُنا بقدسية رسالتك. زوجي آدم طبيبٌ وهو مستاءٌ جدًا من الوضع.
شبك يديه وقال: حسنًا... ها قد التقينا... فأخبريني.
أخبرته عن وضع القطاع الصحي المزري في لبنان، وعن هجرة الأطباء بسبب انهيار البلد.
دهش واستغرب الأمر، ثم استشاط غضبًا وكال الشتائم لهكذا حكومات.
ضحكتُ من أعماق قلبي، وأنا أرى أبقراط العالم الجليل الوقور يستشيط غضبًا ويشتم.
أخبرته... وأخبرته... وكم أخبرته عن مآسينا في زمن العولمة، وعن شرور الفساد وطمع الإنسان و...
فجأة سمعنا صوت طقطقة... وكأنه صوت نيران تندلع.
خرجنا مسرعين من المكتب لنستطلع الأمر.
يا لهول ما رأينا!!! كانت مكتبة الإسكندرية مشتعلةً عن آخرها.
انتحبتُ مجددًا وقلتُ لأبقراط: هل سنموت معًا في هذا الحريق؟
فأجاب وهو يدفعني أمامه: لا... فأنا ميتٌ منذ زمنٍ طويل، وأنتِ -حسب معلوماتي- ستعودين إلى زمنِكِ.