أرشيف صوَر


يضم منزلنا ذاكرة الوطن، ففيه أرشيف والدي -رحمه الله- المصور الصحفي الذي أفنى عمره في أروقة مهنة المتاعب.

في ذاكرة هذا الأرشيف كل أفراح الوطن وأتراحه. وجحافل شخوصه الممسكين بحبائل وجوده. سياسيين... زعماء... كتَّاب... فنانون... عظماء وصعاليك...

كنتُ أجمع ما لا لزوم له في أكياسٍ سوداء، وإذ بيٍد تمتد من غياهب العتمة وتمسك بيدي... وأدخلتني إلى عالم غريب!
متاهة تعرض جدرانها آلاف الصور الناطقة!… والكل يمد يده ليوقفني، بهدف أن أسمع ما يقول!

ها هو زعيم كبير يزعق ويقول: مكاني المتحف الوطني يا ابنة المصور، فلماذا تمزقين صوري؟!
ضحكتُ كثيرًا، انتزعته عن الحائط وقلت بينما كنتُ أدسّه في كيس النايلون: اعذرني أيها المجرم… فمكانك "مزبلة التاريخ".

علت همهمات مناصريه وأعدائه، بدأتُ بنزعهم واحدًا تلو الآخر وأنا أضحك وأقول: هيا… لقد مارستم طغيانكم وفسادكم معًا، ومعًا سوف تذهبون إلى تلك المزبلة.
رميتهم... فزلزلت "مزبلة التاريخ" تحت أقدامي... شتمتني وهي تتقيأ.

صرخ بي أحدهم: هييي أنتِ... هل تدرين من أنا؟
ضربتُ صلعته بمطرقة الذباب وأجبت: أنتَ مَن باع الوطن، من أجل الكرسي.
استنكر وقال ساخطاً: لكن أخصامي كان سيبيعونه على كل حال.
نزعته عن الحائط وأنا اشتمه وأشتم أخصامه وأقول: أنتَ وهم وجهان لعملة واحدة... وما أدراكَ أن مصيرهم لن يكون كمصيرك؟

جمعت كل صور الاجتياح الإسرائيلي، ففقأتُ عيون الجنود الصهاينة. كم فرح أولاد الحي ببقايا الصور، أخذوها إلى الحقل المجاور... أشعلوها، وأقامواحولها مباراة، مَن ينفث (ب....) أطول مسافة.

أما صور الحرب الأهلية، فأبت أن تحترق. كانت ألسنتها تعلو وتعلو وهي تزعق بوجهي: لن نختفي من الوجود، فنحنُ هناك في أعماقكم.
بكيتُ بدموعٍ موجعة، وقلبي يردد "صحيح... صحيح".
ثم أهديتها لجرذان الحقل، وليمة مسمومة.

معركة حامية الوطيس دارت بيني وبين أمراء الحروب في كل مكان، وكل منهم يشتم ويلعن بينما أنا أكمل عملي، وأدخلهم إلى أكياس القمامة.

فنانة متصابية استنكرت بأن صورها قبيحة وأبي مصور فاشل. نزعتها عن الحائط وقلت: أبي كان مصوراً لا رساماً.
لعنتني… فشددت شعرها.

إحداهنَّ كانت في حفل توقيع كتابها على ما يبدو، نزعتها عن الحائط، نهرتني وقالت: وليييي... كيف تجرئين على تمزيقي!؟ هل تعرفين عدد الجوائز التي نالتها رواياتي؟
ضحكتُ وأنا أنزع "باروكتها" عن رأسها وقلت: لم تكن الجوائز لكِ يا حيزبون، بل للكلمات البذيئة في رواياتك.
حاولت أن تنزع شعرها المستعار من يدي وهي تشتم وتلعن. خدشتني بأظافرها، فعضضتُ يدها.

أم كلثوم وبكامل بهائها، نظرتْ إليَّ بعينٍ دامعة. قبلتها وقلت: مكانكِ في قلوبنا يا ست. فنحن جيلٌ مثلك نذرف الدموع، على زمانٍ جميلٍ ولى. وعلى فنٍ استحدثوه هابطاً، باسم الحداثة و"الجمهور عايز كده".
جلستُ تحت صورتها، وبكينا معاً.

على جدارٍ ساطع الضوءِ، صور العظيمة فيروز، يصدح صوتها في مهرجانات بعلبك.
استمعتُ إليها مسحورة...
ثم قبلّتُ يديها ورأسها وقلت: ما زلتِ الجمال الوحيد في هذا الوطن.

رقصتُ مع الصبوحة على أنغام يا دلع يا دلع.
ضممتها إلى صدري، فضحكت وقالت: نصيحة يا بنت... عيشي حياتك وارقصي... يلعن أبو الزعل.

وما زالت الأفراح... والأتراح، في ذاكرة أرشيف كل مصوِر عامرة.



 

Images rights are reserved to their owners


جوري- السفر عبر الزمن


الجزء الخامس والأخير


آدم
حطَّ بي الرحالُ في مختبرِ ألفريد نوبل عام 1888، وكان يومها قد توصل إلى اكتشاف مادةٍ جديدةٍ أسماها الستت ballestite، وتتألف من مزيج هلامي القوام (gelatinized) من
النتروهلولوز بنسبة 40% مخفف بالأزوت، مع النيتروجليسرين بنسبة 60%، وقطعها شرائح. وقد ظلت هذه المادة تُستعمل بنجاح مدةً زادت على 75 عامًا، قبل أن يطور البريطانيون فيما بعد عددًا من المنتجات المماثلة لها تحت مسمّى الكوردايت. وفي عام 1909م توصلت الولايات المتحدة الأميركية إلى نوع من البارود يصلح للاستعمال في جميع أنواع المدافع، وكان المادة الدافعة الرئيسية المستخدمة في الحرب العالمية الأولى.

هل أخبركم سرًا؟ سوَّلت لي نفسي أن أقتله، فلولا اختراعه الشيطاني لما عرفنا شيطانًا اسمه صناعة الأسلحة.
يبدو أنّه رآني، فقد راعه مظهري وقال بفزع: "ن أنت؟ وكيف دخلتَ إلى هنا؟
أمسكتُ عصًا كانت على الأرض وقلت: هل تعرف نتيجة اختراعك الشيطاني هذا؟
مدَّ يديه الإثنتين وقال: مهلاً... مهلاً... على رِسلك، لماذا أنت غاضب؟
صرختُ: اختراعك للديناميت أوصلنا إلى أسلحة فتاكة تقتل المئات في دقيقة واحدة وتبيدهم كالحشرات!
حاول أن يهدئ من روعي وقال: أرجوك اهدأ وتعال لنتكلّم بهدوء.

أمضيتُ ساعاتٍ أشرح له نتيجة اختراعه، وكيف استخدمته الدول من بعده! بكى... والله بكى وقال: ما أردتُ هذا... ما أردتُ هذا...
ثم مسح دموعه وقال: ماذا عن الجائزة؟ ألم تخبرني أن مؤسستي الخاصة سترعى جائزة نوبل طوال العمر؟
فقلتُ هازئًا: وهل تعتقد أن ذلك سيمنع الحروب؟ إنها مجرد محاولة بلهاء منك لإراحة ضميرك!

تركته يشهق بالبكاء... وقبل أن أغادره، سمعته يقول: أرجوك أخبرني ماذا أفعل؟ كيف أحصل على عفو الرب؟

"استمحيكَ عذرًا ألفريد... فالتاريخ لن يتغير مهما حاولنا!... كما أخبرني نوستراداموس."



جوري
أين أنا؟...
وجدتني في مكانٍ غريب، لا أدري كم ساعةٍ سرت، لكنني كنتُ منهكةً جدًّا.
تمددتُ على الأرض وأنا ألعن الزمن وآلة الزمن.
"آدم حبيبي... أين أنت؟"
انتبهتُ من غفوتي، ويدٌ تحمل رأسي وأخرى تضع ماءً على شفتي. قلتُ همسًا: "آدم... حبيبي هل أتيت؟"
سمعت صوتًا نسائيًّا يقول: هل تعرفكَ هذه المرأة؟
انتبهتُ من غفوتي ثانيةً، لأجد وجهين مضيئين كالقمر، لشخصين يجلسان بقربي، وأنا ممدةٌ على الأرض وعلى جسدي العاري قماش أبيض.
حاولتُ أن أجلس فلم أستطع، فقلت: أين أنا؟
أجابت المرأة الجميلة: أنتِ معنا هنا، لا تخافي.
فقلتُ جاهدةً: من أنتما؟
ابتسمت المرأة والرجل وقالت هي: نحن آدم وحواء... فمن أنتِ أيتها الزائرة التي لم يخبرنا الله عنها؟
ضحكتُ من أعماق قلبي وشعرتُ بشيء من النشاط وقلت: حلوة منك يا بنت... رغم شظف العيش من حولك، إلا أنك صاحبة نكتة.
ضحكت بدورها وقالت: أقسم بالله أنني جادة... هيا، أخبريني من أنتِ؟ وماذا تفعلين هنا؟
قلتُ مسلية نفسي بالموقف: أنا أبحث عن آدم زوجي.
صعقت المرأة، أو حواء، وقالت: زوجك؟... يا امرأة، لا زوجة لآدم إلا أنا... حواء.

هل تعرف ما معنى أن تتجادل امرأتان من أجل رجل؟... بالتأكيد تعرف، لذا لا داعي للتفاصيل.
لكن المهم أن المعركة انتهت بعد ساعات حين استوعبنا جميعًا حقيقة الوضعِ الذي وُجدنا فيه.
مضى زمنُ محطُّ رحالي بينهما، وأنا أحاول أن أقنعهما بأن يفترقا، وقد شرحتُ لهما الكوارث التي ستحصل بسبب تكاثرهما.
قالت حواء: إنه قدرٌ مكتوب... الله أرسلنا لهذه المهمة.
فقلتُ باستياء: لكنّكما ستنجبان ذريةً ستقتل بعضها بعضًا إلى نهاية الزمان!
فأجاب آدم حاسمًا الموضوع: كل ذلك مكتوبٌ في لوحٍ محفوظ. لا رادّ لإرادة الله.


آدم
لا أعرف تاريخ اليوم، وكل ما أعرفه أنّني في مدينة بعلبك، في القلعة الأثرية، والحدث؟... سهرةٌ موسيقيةٌ لسفيرتنا إلى النجوم، فيروز.

بعد منتصف الليل بدقائق، والموسيقى في أجمل تجلياتها، رأيتها تجلس في ركنٍ بعيدٍ!!!!
جووووووووري...
صرختُ وركضتُ ناحيتها... ارتمت على صدري وهي تشهق بالبكاء.




جوري
صفق العم صابر بيديه وقال: "أخيرًا نجحت."
فعلاً نجح... فها نحن أخيرًا في زمننا.
بعد السلام والكلام والشكر والترحيب.
سأله آدم: عم صابر، كم مضى علينا في سفرنا هذا؟
أجاب: أسبوعان.
تبادلنا النظرات آدم وأنا بذهول، وقلنا معًا: الفندق؟
ابتسم العم صابر وقال: لا تخافا... لقد سمحت لنفسي بأن أمددَ أقامتكما هناك.
قبَّله آدم ليعبِّر له عن امتناننا.
فقال: هيا... اذهبا وشاهدا مصر التي لم تريا منها شيئًا بعد... سوف أطلب لكما تاكسي.

ونحن نخرج من مكتبة العم صابر لنركب التاكسي، شاهدتُ على أحد الأرفف رواية "شيفرة دافنشي" سبق أن قرأتها إلكترونيًّا، لكنّ راق لي أن يكون لديَّ منها نسخة ورقية.
لكن آدم حملني إلى سيارة الأجرة وهو يقول: لا... لقد اكتفيتُ من الشيفرات والطلاسم.
لوّح لنا العم صابر مودعًا وهو يقهقه.


دخلتُ إلى ركني الأثير حيث أكتب قصصي على اللابتوب، لأجد آدم غارقًا في الضحك.
حين رآني وقف وقال: فهمتُ الرسالة؟
فأجبتُ بمراوغة: أي رسالة؟
قال وهو يشير إلى اللابتوب: ما أردتِ قوله من خلال القصة... حين نلتقي لقاءً خاصًّا يتحقّق زمننا الحقيقي، لنعيش فعليًّا كشريكي حياة. أليس هذا ما أردتِ قوله في هذه القصة؟
أجبتُ بابتسامة حب: هو كذلك فعلاً.
قال آدم وهو يطوق خصري: إذن... سيكون لنا كل أسبوع يومٌ خاصٌّ بنا نقضيه معًا، بعيدًا عن مرضاي وكتبك.

عانقته وطال العناق.

في زاوية الغرفة لمحت ملاكًا صغيرًا يحمل قيثارة ويعزف لحنًا سحريًّا.
دهشت!... فابتسم وغمز لي بعينه.




Images rights are reserved to their owners


جوري- السفر عبر الزمن


الجزء الرابع


آدم
كنتُ أقفُ مذهولًا وقد وجدتُ نفسي في مكانٍ يبدو لي أنه في دولةٍ أجنبية، لعلها فرنسا.
فالناسُ القلائلُ الذين صادفتهم كانوا يتحدثون الفرنسية، وكي أتخلَّصَ من نظرات العابرين، دخلتُ شارعًا ضيّقًا، فوجدتُ ملابسَ معلَّقةً على حبال الغسيل.
آسف... لكنني اضطررتُ لسرقتها كي أتماهى مع أناس ذلكَ العصر.
وأنا أتجوّل مسحورًا ومذهولًا... وصلتُ إلى بناءٍ يبدو أنه مدرسةٌ أو ما شابه.
شاهدتُ شابين يخرجان مسرعين، أحدهما قال للثاني: أسرع... يجب أن يحضر الطبيبُ حالاً.
وجدتها فرصتي: اقتربتُ منهما وقلتُ بفرنسيةٍ متقنة: أنا طبيبٌ، هل أساعدكما بشيء؟
فصرخ أحدهما بحماس: رائع... تعالَ معي... إن صديقي لويس يحتضر.

فهمتُ أنني في غرفةِ لويس برايل، وأنه يُحتضر.
وأنا أعالجه، أخذني عطرُ المكان... يا إلهي!... إنه عطرُ زوجتي جوري.
ولم أستطع كبحَ جماح نفسي، فقلت: هذا العطر...
ابتسم لويسُ وقال بشقِّ النفس: لقد زارتني منذ بضعة سنواتٍ شابةٌ كانت تريد أن تتعلم أبجديتي... أدهشتني رائحتها... لقد كانت طيبةً جدًّا... فقالت إنه عطرها الخاص. أهدتني الزجاجة... وأنا أرشُّ منها كلما أردتُ تجديدَ رائحةِ غرفتي.
فهتفتُ... وهتف قلبي: هل أستطيع أن أرى هذه الزجاجة؟
قال برايل لصديقه: أحضرها من الخزانةِ لو سمحت.
"يا ربَّ الأكوان!... هذا عطرُ جوري زوجتي! إذن فقد مرّت من هنا!... يا إلهي متى ألتقيها؟"


جوري
كانت النساءُ حولي زرافاتٍ زرافات، منهنَّ العاملات ومنهنَّ ملقيات الأوامر، منهنَّ في غرفهنَّ ومنهنَّ متنقّلاتٍ في الأروقة.
أين أنا؟
يبدو أنني في حرملكِ سلطانٍ ما، فلباس النساء تمامًا كما تصورهنَّ المسلسلات التاريخية.
لكن أين؟ لا أدري. لم أستطع أن أعرف في قصر أيِّ سلطانٍ أنا، وفي أي عصرٍ أنا، إلى أن ناظرتني إحداهنَّ من بعيد، يبدو أنها المسؤولة.
دارت حولي مذهولة، فملابسي غريبةٌ ومظهري كله غريبٌ عجيبٌ بالنسبة لها.
تجمّعت حولنا الكثيرات من الجواري أو لعلهنَّ أميراتٌ لا أعرف. نطقت إحداهنَّ بلغةٍ غريبةٍ تخالطها لكنةٌ أجنبية.
فزعتُ، وانتابني الرعب منهنَّ... يا إلهي هل يمكن أن يهدينني هذه الليلة للسلطان؟
وضعتُ يديَّ على بطني وكأنَّ أحشائي تتقطع، وبدأتُ بالبكاء والنحيب.
حملتني النساءُ إلى جناحٍ تشغلهُ عشرات النساء. واستدعينَ امرأةً اعتقدها "حكيمة"... بدأت بفحصي، ورأيتُ على وجهها علامات الدهشة!
قضيتُ الليل وأنا أدَّعي المرض وأتألم، والنساءُ من حولي حائرات.
كنتُ أضحك في سري "سأبقى على هذه الحال إلى أن تنقضي هذه الرحلة... لن أدع سلطانكنَّ يمسني."



آدم
في ساحةٍ ما كان حشدٌ من الناس متجمهرًا، يتخاطبون بصخبٍ وحماس.
فهمتُ أنني في عام ٨٦٧ وأنَّ عباس بن فرناس سيقومُ حالاً بتجربة الطيران.

الحمد لله، كنتُ غير مرئي، فالرجال يتجاوزونني كما لو كنتُ مجرد ضوء!
ها هو عباس بن فرناس يقفُ في الأعالي، والناس فجأةٍ نزل عليهم صمتُ الحملان.

طرااااااااااااااخ...
أجل، لقد وقع المسكين، وتحطمت عظامه.
رافقتُ الأطباء خلال علاجه، أحزنَتني بدائيةُ المواد الطبية وأسلوبُ العلاج.
لكن!... كان ذلك أفضل طب في ذلك الزمن.
جلستُ وراء رأسه وأخذتُ أمسح العرقَ عن جبينه.
بعد منتصف الليل بقليل، وقد غادر الجميعُ غرفةَ عباس ابن فرناس، سمعته يئنُّ من الوجع، اقتربتُ منه وقلتُ: اصبرْ يا أخي، ستتحسنُ بإذن الله.
فقال بصوتٍ يتألم: ليتني لم أفعل ما فعلتُ، فالأجنحة لا تنبتُ إلا للطيور.
جلستُ على الأرض تحت رأسه، وأمسكتُ يده، وبدأتُ أخبره عن حلمه هذا، إلى أين أوصلنا!
أخبرته عن الطائراتِ الحربية التي تقصف الآمنين من الأطفال في فلسطين ولبنان واليمن... فصرخَ صرخةً مدوية!
وتمدد جسده وارتخى... وقبل أن أكتشف إن كانت غيبوبةً أم وفاةً... حملتني عاصفةٌ هوجاء.


جوري
ها أنا مجددًا في فرنسا... والحدث كما اكتشفتُ، هو نقلُ جثمانِ "لويس برايل" من قريته كوب فراي قرب باريس إلى مقبرة العظماء في احتفالٍ تأبينيٍّ مهيب.
ولأنني، ولله الحمد، كنتُ هذه المرة غير مرئية، فقد رافقتُ الجثمان طوال رحلته إلى مثواه الأخير. وداعًا لويس برايل.
هذه المرة أخبرته - كما لم أجرؤ حين رأيته سابقًا - أنه بذل عمره القصير ليمكن المكفوفين من القراءة والكتابة، لكنَّ مبصري زمن العولمة قطعوا علاقتهم بالكتاب والقراءة.
ارقد بسلام يا صديقي.







Images rights are reserved to their owners


جوري- السفر عبر الزمن


الجزء الثالث


آدم
وجدتُني في مركبة فضائية، والطاقمُ مذعورٌ من وجودي!
فصرخَ بي أحدهم بالإنكليزية: "اللعنة... لكن من أنتَ؟"
كان في أحد أركان المركبة امرأةٌ تتألمُ من معدتها.
فقلتُ لأشتت انتباههم: أنا طبيبٌ.
صرخت المرأةُ المتألمة: لقد أرسله الله... كنتُ أعرف أن الله موجودٌ.
اقتربتُ منها وقمتُ بفحصها. يبدو أنها قد تناولت طعامًا فاسدًا، فأصيبت بالتسمم.
عندما تحسنت حالها، ضحكَ أحد الرواد وقال: والآن ماذا أيها الملاك؟ هل ستختفي؟
ضحكَ الجميع، فضحكتُ معهم وقلت: ما رأيكم أن نتعارفَ قبلاً؟
كنتُ في رحلةٍ فضائية عام 1963 مع أول رائدة فضاء وهي الروسية فالنتينا تريشكوفا.
أخبرتهم عن المستقبل، وعن وضع المرأة تحديدًا، أخبرتهم كيف تسببت بعض "النسويات" بترسيخ فكرة "تشيئ" المرأة بزعم تحريرها.
اشمأزّت فالنتينا وقالت: هل هذا ما تعلمنه منا؟ بئس الحرية!
ربّت أحد الرجال على كتفي وقال: كلامك منطقي رغم غرابته، أخبرنا أكثر عن سفرك هذا.

"لكن يا إلهي!... متى سأجد جوري؟"



جوري
أنا في القطب الجنوبي، في فبركة لصنع ألعاب سانتا.
كنتُ أتجوّل بين العمال مشدوهة، فلطالما كنتُ أعرف أن لا وجود لسانتا، وأن هذه الأسطورة مجرد حكاية يتسلى بها الأطفال زمن ميلاد السيد المسيح (عليه السلام).

وأنا ألف وأدور في المصنع مشدوهة، ناداني صوتٌ من ورائي: جوري...
التفتُ مذعورة فاصطدمتُ بسانتا.
ضحكتُ كطفلة مشاغبة، ونتفتُ شعرةً من شاربه وقلت: تنكّرٌ ممتاز يا سيدي.
ربّتْ على وجنتي وقال: يا بنتَ جوري، ألَم تعرفيني؟ أنا سانتا.
قهقهتُ بصخب وأجبت: طبعًا أنتَ سانتا وأنا الجنية الساحرة.
هزّني من كتفي وأجاب: جوري؟ استفيقي واستوعبي... أنا سانتا.
فصرخت: لكنك خيال... ولا وجود لك.
فأجاب بجديةٍ وحزم: بل أنا موجود... ألم تسمعي بروح الميلاد؟
فقلتُ بسرعة: طبعًا إنها روح القديس نيكولا الذي أحب الخير وأعمال الخير.
فأجاب سانتا وهو يفتح يديه ليؤكّد كلامي: أرأيتِ؟ إذاً أنا موجود.
فقلت ببلاهة: لم أفهم.
فأجاب وهو يجلسني إلى طاولةٍ عليها ما لذّ وطاب: إنّ كلَّ إنسانٍ وخاصة إذا كان طفلًا، يحمل روح الميلاد، ويعرفني. فأنا موجود في قلبه وخياله.
فكرتُ لبرهة وضغطتُ جبيني، وقلت: إذن أنت جادٌّ فيما تقول؟
أجاب بابتسامةٍ عريضة: كل الجدية.

وهكذا أمضيتُ مع سانتا في معمل الألعاب أجملَ الأوقات، وأنا أرتّب الهدايا وأتسامر مع أقزامه، وألاعب الأيائل.
فجأة قال: جوري؟ هل تركبين معي العربة الليلة لنوزع الهدايا؟
فقلت فرحة: وهل نحن في عيد الميلاد؟
هزّ برأسه علامة الإيجاب وقال: الليلة هي ليلة الميلاد في زمنك... سوف نمرّ لنترك هديةً لزوجك آدم.
تنهدتُ بحسرة وقلت والدموع في عيني: وأين هو آدم؟
فقال: حان موعدُ هديتك، سأقولها لك الآن.
فأجبت بدهشة: ستقولها؟
ابتسم وأجاب: نعم سأقولها... فهي هديةٌ شفهيّة.
فقلت بنفاذ صبر: وما هي؟
فأجاب بابتسامة ثقة: آدم يبحث عنك في الزمن... وقريبًا ستلتقيان.
صرخت: أحقًا؟
فأجاب وهو يجرّني إلى العربة: حقًا... والآن إلى العمل.

راقت لي الملابس التي منحتني إياها مسز سانتا.
ولم أخبره كيف دمّرت الحرب براءة الأطفال، وأنه لم يعد لروح الميلاد من وجود.
ربّت سانتا على كتفي وقال: أعرف بما تفكرين... فحتى الأطفال لم يعودوا يصدقون وجودي، لكنني أصرّ على زيارتهم على أمل أن يحافظوا على روح الميلاد، وعلى إيمانهم بالسيد المسيح.
فقلتُ بحسرة: السيد المسيح؟
فقال: أجل... السيد المسيح، فأنا لست سوى بشارة مولده، والأطفال لا بدّ يومًا أن يفهموا ذلك، ويومها ستكون روح الميلاد قد تحققت.


آدم
يبدو أنني في مختبرٍ كبير. هنا مئات الأشخاص يتحرّكون بصمت وهم يرتدون الأبيض. وإن تكلموا، فيتكلمون بالإنكليزية.
الحمد لله أنني هنا كنتُ غير مرئي، لأنهم لو رأوني على حالتي البائسة، لاستدعوا الشرطة حتمًا.
وصلتُ إلى ما يشبه الطاولة الرخاميّة، كانت محتشدة بقوارير زجاجية صغيرة، فيها سوائل ملونة. وكان يشغلها شخصان.
كانا طبيبان يجريان اختبارات من أجل اكتشاف أنجع علاجٍ للسرطان.
أردتُ أن أصرخ لأخبرهم أن لا دواء حتى مجيئي عام 2021 قد نفع، وأن السرطان ما زال يأخذ آلاف المرضى.
تكلمتُ... وتكلمت... لكن لا جدوى! لم يسمعني أحد.
بدأتُ أسلي نفسي بقراءة اكتشافاتهم، وأنا أعيد وأكرر "ليت أني أعرف الدواء الشافي لأضعَه بين أيديكم".


جوري
فجأة وجدتُني في غرفةٍ باردةٍ بائسةٍ في مكانٍ ما. حاولت أن أجد شيئًا يخبرني عن الزمن وعن المكان الذي وصلتُ إليه، لكنني لم أجد سوى أوراقٍ مثقوبةٍ وإبرٍ و... مهلاً!... إبرٌ ومثاقبٌ وأوراقٌ مثقوبة؟ هل يعقل أنني عند...
لويس برايل؟

دخل رجلٌ كفيفٌ إلى الغرفة، وأخذ يتشمّم الهواء وهو يدور ثم وصل إليّ في الزاوية وقال: هل يوجد أحد هنا؟
الحمد لله أنه كفيفٌ ولا يراني. تنحنحتُ وقلتُ بصوتٍ حاولتُ أن أجعله متوازنًا وواثقًا: السيد لويس برايل؟
فأجاب فورًا: نعم أنا هو... من حضرتك؟
فأجبتُ وقد أتتني فكرة مفاجأة: لقد أردتُ أن أنتظرك في غرفتك، لأنني مصممةٌ على مقابلتك.
ابتسم بوداعة وقال: بماذا أفيدك؟
وجدتُ على الطاولة ورقةً عليها تاريخ عام 1829م فعرفت أنَّه في هذه الفترة يطوّر طريقةً للكتابة بالمثقاب، فقلت: أنا من المهتمين بأسلوبك في الكتابة للمكفوفين، وجئتُ كي أتعلمها منك.
فأجاب: هل أنتِ كفيفة؟
فقلت: لا لستُ أنا، بل... يا إلهي! من سأقول؟ فقلت على عجل: إنها شقيقتي وهي تحب القراءة وكتابة القصص جدًا.
فقال: مرحبًا بك.

عندما انتهينا، صفق بيديه وقال: أحسنتِ يا عزيزتي، كم أنتِ سريعة!
لم أجرؤ أن أخبره عن نفسي، وعن أنني أعرف مسبقًا طريقته في القراءة والكتابة.
جلسنا بعدها نتحدث في شؤون العلم والثقافة، طبعًا تفاديتُ ذكر أي معلومة لم تحدث في زمنه.
كم وددتُ لو أخبره عن وضع القراءة في أوطاننا العربية، 
فبعد أن أفنى حياته لإيجاد لغة خاصة بالمكفوفين، ها هم المبصرون يقطعون أي صلة لهم بالكتاب!
عزيزي لويس، لو رأيتَ كيف تُستغل اليوم اللوحات المضيئة!








Images rights are reserved to their owners


جوري- السفر عبر الزمن


الجزء الثاني


آدم
ها قد علمتم أن زوجتي جوري قد سافرتْ عبرَ الزمن، وعلمتم أنه لا بدَّ أن نلتقيَ لتنفكَّ طلاسمُ الآلةِ.
بعدَ عدّةِ محاولاتٍ، وصلتُ إلى الدائرةِ التي دخلتْها زوجتي، وكان آخرُ ما سمعته من العمِّ صابر: "بالتوفيقِ يا بني... يا رب تِعتر بمراتِك قُرَيِّب."

وجدتُني في ساحةٍ متَّسعةٍ؛ أجسادٌ ملقاةٌ على الأرضِ كالموتى، يئنّون ويتألمون، والبكاءُ من حولي.
لم أعرِف ما الذي يجري. أمسكتُ بأولِ شخصٍ وسألتُه: ما الذي يجري هنا؟
نظر إلى ملابسي وضحك وقال: يبدو أنَّك مجنونٌ وتائهٌ.
أمسكتُه من تلابيبه وقلتُ: أخبرني ماذا يجري؟... وأين أنا؟... وفي أيِّ عامٍ نحن؟
فأجاب وهو يحاول التملُّص مني: أنتَ في جنوبِ فرنسا، والناس مصابةٌ بالطاعون... وأنا نوستراداموس الطبيب... ونحن في عام ١٥٢٦م.
فقلتُ باستياءٍ: كلُّ هذا سببه عدم الاهتمامِ بالنظافةِ العامةِ والخاصةِ، لو كنتم شعوبًا نظيفةً، لما أصابكم هذا الوباءُ.
أمسكَ بي من قميصي ووضع وجهه في وجهي وقال: عليكَ اللعنة، هل ستُمارسُ عليَّ جنونكَ الآن وتُخبرني الترهاتِ؟
أبعدتُ يدَه عنّي وقلتُ: معكَ حقٌّ، ليس الوقتُ مناسبًا للتنظير... حسنًا، أنا طبيبٌ أتيتُ من بعيدٍ لأساعدَكَ.
فقال وهو يبتعد عنّي: إذنِ ابدأِ العملَ بصمتٍ.

عملنا بجهدٍ، لكنني كنتُ أعلمُ أن ذلك الوباءَ قد قضى على آلافِ الأرواحِ.
كنتُ أمعنُ النظرَ في وجوهِ النساء جميعًا، فقد خِفْتُ أن تحطَّ الرِّحالُ بزوجتي جوري في ذلك الزمنِ.
ولكن... ولله الحمدِ، لم أجِدْها بينهم أبدًا.

بعدَ أن قضينا ساعاتٍ طويلةٍ، أو لعلها دهورٌ، ونحن نحاول إسعافَ المرضى، أمسكني نوستراداموس من كتفي وهو يقول: حسنًا، نحن نعملُ منذ دهرٍ، تعالْ معي لنأخذَ قسطًا من الراحةِ.
عندما أخبرتُه أنني قادمٌ من المستقبلِ، ضحك وأجاب: رغمَ دقّةِ نبوءاتي إلّا أنني لم أرَ أيَّ صورةٍ مستقبليةٍ تشير إلى قدومِ شخصٍ من هناك... أخبرني الحقيقةَ... مَن أنت؟
شربتُ رشفةً من شرابِ أعشابٍ طعمه لذيذٌ، وقلتُ: أقسمُ لكَ أنني صادقٌ في كلِّ كلمةٍ قلتُها.
أمضينا ساعةً ونحن نتباحث في موضوع سفري عبرَ الزمنِ.
ثم أخبرتُه عن أهميةِ النظافةِ العامةِ، التي توصّل إليها الإنسانُ بعد صراعاتٍ مريرةٍ مع الأوبئةِ، وأخبرته بإمكانية منعِ موتِ عائلته، لو سمعَ نصائحي الطبيةَ.
دَمَعَتْ عيناه وقال: منذ أن تنبأتُ بموتِ عائلتي وأنا في كابوسٍ، لكنني أعرف أن القدرَ لا يمكن إيقافه، وما هو مكتوبٌ في التاريخِ لن نستطيع تغييره مهما حاولنا.
أطرقتُ رأسي وقلتُ باستسلامٍ: أهذا ما تعتقده؟
أجاب: هذا ما علّمني إياه سيرُ الأحداثِ التاريخيةِ.
ابتسم وهو يشاهدُ خيبةَ أملي وقال: حسنًا... أيّها القادمُ من المستقبلِ، أخبرني كم نبوءةً من نبوءاتي تحققتْ؟
وقبلَ أن أُجيب؛ وجدتُني مددًا تحت الشمسِ في صحراء... أكاد أموت عطشًا!
حبيبتي جوري، أين أنتِ؟


جوري
وجدتُني في قاعةٍ فخيمةٍ، وسط أناسٍ في قمّةِ الأناقةِ والتألّقِ.
سرعانَ ما عرفتُ أين أنا؛ سينما قصر النيل في السابع من نيسان / أبريل ١٩٦٦، والحدثُ أغنيةٌ جديدةٌ من أغاني السِّتِّ.
الله... الله... أين أنتَ يا آدم يا حبيبي، فلطالما كنتَ تحبُّ أن تسمعَ السِّتَّ بعد كلِّ عمليةٍ تستنزفُ أعصابك.

بحثتُ عنه في جميعِ الوجوه... لكن؟ لا وجهَ كان يحملُ ملامحه.
انزويتُ في كرسيٍّ في آخرِ صفٍّ كي لا يلاحظَ أحدٌ شكلي الغريبَ عن ذاك الزمنِ.
فما هي إلا هُنيهاتٌ حتى بدأتِ الموسيقى... الله... الله... وألفُ ألفِ الله!
الأطلالُ للشاعر إبراهيم ناجي.

انتهتِ السهرةُ، وخرج الناسُ ثملين بأنغامِ السِّتِّ.
وأنا... لمْ أعرِفْ أين أذهبُ، فاختبأتُ حتى انتهتْ أعمالُ التنظيفِ وأُطفِئتِ الأنوارُ.
جلستُ في العتمةِ على أحدِ المقاعدِ بنيّةِ النومِ، وفي رأسي حكايةُ عشقٍ: إبراهيم ناجي ورائعته "الأطلال".
وفي حكايةِ هذه القصيدةِ أنَّ إبراهيم ناجي كتبها في حبِّ صباهُ عندما فارقه. فقد غادر ناجي لدراسةِ الطبِّ، وعندما عاد علم أن حبيبته قد تزوجتْ.
ذات ليلةٍ وبعد منتصف الليل، سمعَ طرْقًا شديدًا على بابِ منزله، وكان في البابِ رجلٌ أربعينيٌّ يستنجدُ به ليُعينَ زوجته في ولادتها. كانت الولادةُ متعسرةً، وحالةُ المرأةِ خطرةٌ جدًا.
حاول أن يُنقذها بشتى الطرق، وعندما لاحظ أن أنفاسَ المرأةِ بدأت تضعف، مما سبّب لها غيابًا عن الوعيِ، طلبَ أن يكشفوا وجهَها لتستطيع أن تتنفسَ.
وكانت الصدمةُ أن الوالدةَ لم تكن إلا حُبَّ عمره الذي لم ينْسَهُ يومًا.
أجهش بالبكاءِ وهو يجري العمليةَ، وسطَ ذهولِ الحاضرين.
رجعَ إلى منزلِه قبل مطلعِ الفجر بعد أن أنقذها هي ومولودها، وكتب "الأطلال".
وبكيتُ بحرقةٍ وأنا أذكر المقطعَ الأخير:
يا حَبيبي كلُّ شيءٍ بقضاء
ما بأيدينا خلقنا تَعَساء
ربما تجمعنا أقدارُنا
ذاتَ يومٍ بعدَ ما عزَّ اللقاء
فإذا أنكرَ خِلٌّ خِلَّهُ
وتلاقَينا لقاءَ الغرباءِ
ومضى كلٌّ إلى غايتِه
لا تقلْ شئنا فإنَّ الحظَّ شاء
"آدم حبيبي... متى اللقاء؟!"


صباحًا، وجدتُني في منزلٍ!
بعد جولةٍ في الأنحاءِ عرفتُ أنّه منزلُ الشاعرِ الكبيرِ إبراهيم ناجي.
وقف أمامي مشدوهًا وهو يقول: من أنتِ؟ وكيف دخلتِ منزلي؟
فقلتُ وأنا أبتسمُ لأخففَ من توترهِ: دكتور إبراهيم ناجي... أنا عاشقةٌ جئتُكَ من زمنٍ لم يعد إنسانُهُ يعرفُ العشقَ. جئتُكَ من زمنٍ أصبحَ يعتبرُ "السِّتَّ" وأغانيها من الزمنِ الفائتِ.


Images rights are reserved to their owners


جوري- السفر عبر الزمن

الجزء الأول


جوري... لقد وصلتُ يا حبيبتي.
إنه زوجي آدم... صديق مراهقتي وشبابي وحبيب العمر كلِّه.
هو طبيبٌ جراحٌ، يقضي معظم يومِه متنقِّلاً بين المستشفى والعيادة.
قليلاً ما نلتقي، بالمعنى الفعلي للكلمة، فهو نادرًا ما يُخصِّص لي وقتًا لنقضيه معًا، وأنا متجمِّلةٌ بالحبِّ صابرةٌ على غيابه الدائم، أُغرق نفسي بالأدب، أرسُم شخصياتٍ أعيش معها قصصَها. أقرأ لأدباء من جميع أقطار المعمورة، لعلِّي بين دفتي روايةٍ أجد إلهامي.

كان آدم مشرق الوجه، يحمل في يده مغلَّفًا.
قبَّلني وقال: كلَّ عامٍ وأنتِ حبيبتي... وتفضَّلي بقبول هديتي المتواضعة.
شكرته بامتنان، فقد كنتُ حقًّا قد نسيتُ أنَّه عيدُ مولدي.
فتحتُ المغلَّف لأجد تذكرتَيْ سفرٍ... دُهشتُ ونظرتُ إليه... ابتسم وقال:
سأحقِّق حُلْمَكِ... سنسافر إلى مصر.
عانقته بحرارة، وأنا أقول: شكرًا، شكرًا، شكرًا حبيبي.
كان آدم يعرف أنني أحلم بزيارة مصر الحبيبة، وتحديدًا منطقة سور الأزبكية وخان الخليلي.

✈✈✈✈✈✈✈✈✈

رحَّب بنا العمُّ صابر بلطفه وخفَّة دمه المصرية الأصيلة، صاحب أقدم مكتبة في سور الأزبكية.
أخبرته عن شغفي بالكتب وبالمكتبات، وأن عليه أن يعتاد وجودي عنده لساعاتٍ وساعاتٍ طوال زيارتي لمصر.
رحَّب بنا كثيرًا وقال: المكتبة لكِ يا ابنتي، وأنا سأشرب الشاي مع الدكتور.
أجاب آدم: آدم يا عم صابر... فقط آدم بلا دكتور.

أعدَّ العمُّ صابر الشاي، بينما كان آدم يختار بضعة كتب طبية علمية كما يهوى.
شربتُ الشاي معهما على عجلٍ، وتركتُهما في أحاديثهما الخاصة، وتوجَّهتُ إلى الداخل.
باختصار، كنتُ في الجنة...

بعد ساعاتٍ من البحث بين أقدم الكتب، أضاء عنوان كتابٍ فبهَر نظري، خلتُه يناديني، كان عنوانه "السفر عبر الزمن".
ما هذا؟! ومنذ متى بدأ حلم الإنسان بالسفر عبر الزمن؟!
بدأتُ بتفحُّص الكتاب، فوجدته مجرد طلاسم... أرقامٌ وحروفٌ متداخلةٌ.
إلى أن وصلتُ إلى صفحة عليها دوائر، وداخل الدوائر أرقامٌ وحروفٌ غريبة.
وأنا أركِّز بصري داخل إحدى الدوائر، سمعتُ العمَّ صابر يصرخ: لا... لا... أغلقي الكتاب!
لكن زوبعةً هبَّت في وجهي، قبل أن أستوعب ما يحصل!

وجدتُني على الأرض، وحولي خزائن بطول الجدران وعرضها، فيها أوراق وكُتبٌ.
يا إلهي! أين أنا؟
وقفتُ لأستطلع المكان، كان للكتب شكلٌ ورائحةٌ غير مألوفة بالنسبة إليَّ.
الخزائن مقسمة إلى عناوين: فلسفة، مخطوطات... أين أنا يا إلهي؟
فجأة مرَّ أمامي جمعٌ من الرجال، يرتدون ملابس مضحكة، كتلْك التي يرتديها شخوص كتب التاريخ.
أردتُ أن أكلِّمهم لكنهم تجاوزوني وكأنني غير مرئية.
بدأتُ بالصراخ: آدم... آدم... أين أنت يا آدم!
لكن لا جواب... وصوتي يردِّده الصدى، والعجيب أن لا أحدَ سمعني من الموجودين!

فجأة ظهر أمامي شيخٌ، ملابسُه تمامًا كأيِّ عالِم أو فيلسوف خرج من كتاب قديم.
وقف أمامي وقال: اهدئي ولا تصرخي... لن يسمعكِ أحد.
كنتُ أرتجف رعبًا، لكنني شعرتُ بالراحة؛ لأنني أخيرًا وجدتُ إنسانًا أكلِّمه، حتى لو كان شكله غريبًا.
ازدرَدتُ ريقي وقلت: أرجوك، أرجوك ارأف بحالي وأخبرني أين أنا؟!
قال بهدوءٍ ورويَّة: لا تخافي واهدئي... جوري.
تعجبتُ من كونه يعرف اسمي، فقلتُ باستهجان: كيف عرفتَ اسمي؟
ابتسم وغمَز لي بعينه وقال: ألَم تكوني تعبثين بالتاريخ؟ ها قد وصلتِ! وأنا سأكون مرشدكِ، أخبروني فجئتُ لملاقاتكِ.
استجمعتُ شجاعتي وقلت: هلا أخبرتني، أرجوك، ماذا يجري؟ وأين أنا؟ وأين زوجي آدمُ والعمُّ صابر... و...
أشار لي بيده كي أتوقفَ وقال: على رِسلكِ يا بُنيَّتي... أصمتي قليلًا لأُخبرَكِ كلَّ شيء.
ثم قال: تفضَّلي معي.
دخلنا إلى غرفةٍ باردةٍ، فيها كتبٌ ومخطوطات، وأوانٍ زجاجية، وآلاف الأشياء.
أشار إلى كُرسيٍّ وقال: تفضَّلي اجلسي.
قدَّم لي شرابًا ساخنًا وقال: إنها خلطة أعشابٍ ستشعرين معها بالتحسن.
جلس وراء مكتبه، أو سمِّها طاولته.
نظرتُ إليه، وألفُ سؤالٍ يدور في خلَدي، لكنني لم أَجرؤ على النطق.
ابتسم الرجل الغريب وقال: دعيني أولًا أقدِّم نفسي، أنا أبقراطُ.
ابتسمتُ وغمزتُ بعيني وقلت: أحسنتَ يا شيخ... اختيارٌ موفق، فأنت حقًّا تشبهه، حسب ما نرى رسومه في كُتب التاريخ.
اتخذتْ هيئته ملامحَ جادة وأجاب: لا يا جوري... لستُ أتشبَّه به، أنا فعلا أبقراطُ أبو الطبِّ.
بدأتُ أضحك، حتى أسكتتني هيئته الصارمةُ.
فقلتُ بانكسار: لعلني أحلم... أنا أحلم، أليس كذلك؟
أجاب بجدِّية: لا، أنتِ لا تحلمين... بل أنتِ مسافرةٌ عبر الزمن، وقد حطَّ الرِّحال بكِ هنا... مرحبًا بكِ في مكتبة الإسكندرية!
لم أستوعب، فقلتُ: أجل، أنا في مصر، أنا مع زوجي في مكتبة العمِّ صابر.
فأجاب بإشارةٍ من يده: اهدئي... واستوعبي ما أقول: ألم تكوني في مكتبة العمِّ صابر تتصفحينَ كتابًا عن "السفر عبر الزمن"؟
فقلتُ: أجل، هذا آخرُ ما أذكره.
فأجاب: لقد أدخَلتكِ طلاسمُ الكتاب إلى آلة السفر، وها أنتِ مسافرةٌ عبر الزمن.

ساعاتٍ مضت... استوعبتُ بعدها أنني فعلاً عابرةٌ للزمن، وأنني في مكتبة الإسكندرية، عام ٤٨ ق.م!!!
قلتُ مستسلمةً دامعةَ العينين: ومتى سأعودُ إلى زمني وحياتي وزوجي؟
قال: عندما تلتقيان أنتِ وزوجكِ.
قلتُ بحيرةٍ: لم أفهم.
فتابع أبقراط: ستبقين على سفرٍ إلى أن تلتقي بزوجك، عندها وعندها فقط سيكون بإمكانِ العمِّ صابر فَكُّ شِفْرة الطلاسم، لتستطيعا العودةَ معًا إلى زمنكما.
فصرختُ: وكيف سيحصل ذلك؟ وكيف يمكن أن نلتقي...
تابعتُ باكيةً: أرجوك أخبرني ما أستطيع فهمه.
أعطاني منديلاً وقال: امسحي دموعكِ واهدئي.
تنفَّسَ بعمقٍ وتابع: سوف يلحق بكِ زوجُكِ، لا تخافي. وفي زمنٍ ما تلتقيان، وعندها سينجحُ العمُّ صابر في فَكِّ الطلاسم.
فسألته خائفةً: وإلى أن يحصل ذلك؟
فأجاب: إلى أن يحصل ذلك، ستبقين مسافرةً عبر الزمن وستنتقلين من عصرٍ إلى عصر، حتى تحط الرحالُ بكِ في زمنٍ سافر إليه زوجكِ.

انتحبتُ واختنق صوتي، فقال أبقراط: جوري... أنتِ مثقفةٌ وتعرفين أهمية نشر العلم والثقافة؛ لمَ لا تضعين في بالك أنكِ مُرسلةٌ من أجل مهمةٍ مقدسةٍ إلى أن تعودي إلى زمنكِ، وسيكون ذلك قريبًا بإذن الله.
فقلتُ بغيظٍ: وماذا سأنفع الأزمنةَ بثقافتي وعِلمي؟
أجاب: فكري... ألَم تتمني يومًا أن يعود بكَ الزمنُ لتغيِّري أمرًا ما؟
راقت لي الفكرة، توقفتُ عن البكاء، ومسحتُ دموعي وقلت: حصل كثيرًا... فمثلاً، لطالما تمنيتُ أن أعيش زمن الفلاسفة، أن أدرس في معاهدهم... كما أتمنى أن ألتقي بابن سينا أول طبيب نفسي.
نظرتُ إليه بخجلٍ وتابعت: كم تمنيتُ أن ألتقيك لأخبرك ماذا فعل أطباؤُنا بقدسية رسالتك. زوجي آدم طبيبٌ وهو مستاءٌ جدًا من الوضع.
شبك يديه وقال: حسنًا... ها قد التقينا... فأخبريني.
أخبرته عن وضع القطاع الصحي المزري في لبنان، وعن هجرة الأطباء بسبب انهيار البلد.
دهش واستغرب الأمر، ثم استشاط غضبًا وكال الشتائم لهكذا حكومات.
ضحكتُ من أعماق قلبي، وأنا أرى أبقراط العالم الجليل الوقور يستشيط غضبًا ويشتم.
أخبرته... وأخبرته... وكم أخبرته عن مآسينا في زمن العولمة، وعن شرور الفساد وطمع الإنسان و...

فجأة سمعنا صوت طقطقة... وكأنه صوت نيران تندلع.
خرجنا مسرعين من المكتب لنستطلع الأمر.
يا لهول ما رأينا!!! كانت مكتبة الإسكندرية مشتعلةً عن آخرها.
فتذكرتُ حريق المكتبة...
انتحبتُ مجددًا وقلتُ لأبقراط: هل سنموت معًا في هذا الحريق؟
فأجاب وهو يدفعني أمامه: لا... فأنا ميتٌ منذ زمنٍ طويل، وأنتِ -حسب معلوماتي- ستعودين إلى زمنِكِ.



Images rights are reserved to their owners