وداعٌ افتراضي


مازنُ طفلٌ ذو وزنٍ زائدٍ (سمين)... هكذا قرر طبيبُ الأطفالِ، وبدأت معاناةُ الطفلِ مع البرامجِ الغذائيةِ لإنقاصِ وزنهِ الزائدِ.
أمرٌ أغضبهُ، وأغضبَ جدتهُ أيضًا، فكانت تكيل اللعناتِ على ابنها وكنتها لأنهما يحرمان الولدَ من الطعامِ. وكان منزلها هو منزلُ الأحلامِ بالنسبة لمازن، فهناكَ يأكلُ ما لذَّ وطابَ دونَ حسيبٍ أو رقيبٍ. ووالدتهُ تكادُ تجنُّ من هذا الوضعِ.

كبرَ مازنُ... وأصبح رجلاً وسيماً ممشوقَ القَوامِ. وقد تحوّل موضوعُ سمنتِهِ وطفولتِهِ المتمركزةُ حول الأنظمةِ الغذائيةِ محورَ نكاتهِ وضحكاتِهِ مع جدتهِ الحبيبةِ، التي ما زالت تصرُّ على حشوهِ بما لذَّ وطابَ من مأكولاتٍ وحلوياتٍ.
حبٌّ من نوعٍ آخرَ ربط بينه وبين جدته، كان مختلفًا عن حبِّ الجدةِ لأيٍّ من أحفادِها الكُثُرِ الآخرين.

عامُ (2020-2021) بالنسبة للعالمِ أجمعَ، هو عامُ الوباء، كوفيد-19... أو ما أُطلق عليه تسميةُ "كورونا".
وقتها، كان مازنُ قد أصبح رجلاً متزوجًا ولديه أطفالٌ، يعمل كممرضٍ مختصٍّ بغُرفِ العنايةِ الفائقةِ.
بطبيعةِ الحالِ، كان حالُهُ كحالِ جميعِ الطاقمِ الطبيِّ، مجنَّدًا كلَّ طاقاتِهِ لخدمةِ الناسِ وعلاجِهم من هذا الوباءِ القاتلِ. يُوزّع العنايةَ على المرضى بلهفةِ ابنٍ يعالجُ والديهِ أو أخٍ يساعدُ أخاه. يغيبُ كثيرًا، ويتواصل مع أهلهِ وأولادهِ وزوجتهِ عبر الهاتفِ فقط، خوفًا عليهم من العدوى.

لكن!... العدوى كانت تنتقل أحيانًا إلى الكثيرين، رغمَ الوقايةِ والحجرِ المنزليِّ.
وهذا ما جرى مع جدةِ مازن، العجوزِ الحبيبةِ، التي كانت تُرسل إليه ما لذَّ وطابَ إلى المستشفى، وتطلبُ منه أن يتغذى هو ورفاقُه جيدًا من أجلِ أن يحاربوا هذا الوباء وينتصروا عليه.

بكى بكاءً مُرًّا عندما علم أن جدتَه قد نُقلت إلى إحدى مستشفياتِ المحافظةِ القريبةِ من القريةِ، وأنه هو بالذاتِ لن يستطيع أن يكون معها.

استدعاه زميله ذاتَ ليلةٍ على عجلٍ، وقال إنهم أدخلوا عجوزًا مصابةً بالكورونا وحالتها حرجةٌ جدًّا، والطبيبُ يريده أن يشرف عليها.
كانت العجوزُ، كجدته، وجهُها طافحٌ بالمحبّةِ والطيبةِ، رغم جهازِ التنفّسِ الموضوعِ على وجهِها.

خلال اليومِ الأول، كانت ما تزال في وعيها، حدَّثته قليلًا وابتسمت في وجهه.
لكن الوباءَ اللعينَ سرعان ما تسلّل إلى رئتيها، تدهورت حالتها الصحية بسرعةٍ كبيرةٍ، ودخلت في غيبوبةٍ!
كانت تنادي على "يوسف"، ابنها الوحيد، الذي نقل معيشَتَه إلى سيارتِه المركونةِ بجانب المستشفى، كي يبقى على تماسٍ مع الجهازِ الطبيِّ، لكن لم يُسمح له أبدًا بالدخول لرؤية والدته.
بكى مازنُ أسفًا عليها وعلى جدته، فلعلَّ هذه الأخيرة الآن تصارع الموتَ كهذه العجوز، ولا يستطيع أيٌّ من أبنائِها أن يدخل ليراها.
أمسك بيدها، وهمس في أذنها... "أنا هنا يا أمي".

ليالٍ ثلاثٌ مضت، وهو يصارعُ معها مرضَها، كانت حالتها تتدهور بسرعةٍ.
طلب منه الطبيب مرارًا أن يخرج من غرفتها ليَرتاح، لكنه رفض وأصرَّ أن يكون معها في أيامها الأخيرة، لعلَّ أحدًا يُحسنُ إلى جدته في صراعِها مع الوباء في ذاك المشفى.
تمنى لو أنّه فقط يستطيع أن ينزعَ قفازَيْه ليُلمسها، لو يستطيع أن ينزع قناعَه وكمامتَه ليقبّلَ جبينها. ولكن!...


فجرَ اليومِ الرابعِ توفيت!
بكى بحرقةِ طفلٍ فقد والدتَه، وأمام عينيه ارتسمت صورةُ جدتهِ مسجاةً إلى جانبِ هذه العجوز، وهو بينهما يبكي قهرَه وحرقَتَه، على جدةٍ لم يودّعها، وعلى أمٍّ ينتظرها ابنُها في السيارة.




Images rights are reserved to their owners

 

No comments:

Post a Comment