ذكريات الحرب


أقف أمام المرآة، تنظر إليَّ بتحدٍ. أهرب منها إلى سيارتي، أجدها تجلس على المقعد إلى جانبي وتحاول أن تأخذ مني القيادة.

أفتح باب السيارة وأرمي بها خارجاً، تقف أمامي وتلوح بيدها... اقترب... اقترب... بسرعة... بسرعة أكبر... أدهسها!
أنظر في المرآة وأنا أهرب من جثتها، أراها تمد لسانها لي.










Image rights are reserved to the owner

بعد الأوان



تجلَّلهم الشيخوخة بوقارها، يتعممون بالصمت، وإن نطقوا قالوا الحِكم.
رأيتها على كرسي متحرك، تتأمل البحر. فهالتني هيبتها، منديلها الأبيض عكس هالة من نور الشمس الغاربة حول وجهها الوردي فازدادت جمالًا وفتنة. هي المرأة السبعينية التي تحمل تجاعيدها ألف حكاية وحكاية، ولعلها الآن ترويها للبحر.
كنتُ يومها أمشي وحيدة والدموع مرافقي، لقد تشاجرتُ مع زوجي بسبب سوء أخلاقه وشكه الدائم بي.
جلستُ على المقعد المقابل لها لألتقط أنفاسي، ولأمسح الدموع التي أغشت بصري.
اقتربت مني بكرسيها المدولب وقالت "أتَبكين يا فاتنة؟"
فأجبتُ "اسمي ندى، لا فاتنة."
ضحكت العجوز وقالت "حسنًا، بما أنكِ تملكين حس الفكاهة فهذا يعني أن حالتكِ ليست ميئوسًا منها."
فقلت "وما أدراكِ يا أمي بحالتي؟"
ابتسمت مجددًا وقالت "لستُ أمك... فلو كنتُها لما تركتكِ تصلين إلى هذه الحال."
مدت لي يدها مصافحة وقالت "هل تقبلين التحدث إلى عجوزٍ مثلي؟"
صافحتها وأنا أقول "شرف لي يا أمي."
عدلت جلستها وأحكمت الشال حول كتفيها، وصرفت خادمتها وقالت "حسنًا، هاتِ ما عندك؟ ما الذي يبكي هاتين العينين الجميلتين؟"

وجدتني أحدثها وكأنها فعلاً أمي، أخبرتها عن كآبتي، عن وحدتي، وعن الأسى في عمري.
عن زوجي النرجسي الشكاك، الذي يرفض أن يسمح لي بإنجاب طفل، لأنه لا يحتمل ضجيج الأطفال في المنزل!.
انتهيتُ من قصتي فابتسمت وقالت "لن أعطيكِ المواعظ، بل سأخبركِ بقصتي وأنتِ حللي الموقف وأفهميه كيفما شئتِ."
فأجبت "تفضلي."

قالت "ذات يومٍ وقبل أن أبلغ الخامسة عشر من عمري، استفقتُ ويدٌ تلمس يدي، فتحتُ عيني فإذا بجارتنا تمسك بإصبعي وتلبسني خاتمًا. قيل لي يومها إنها تأخذ مقاس 'محبسٍ' سيوضع في يدي."
أخذتني غيبوبة الولدنة وسذاجة طفلة لم تكن تدري أن خاتم الزواج هو فعلاً 'محبس'.

استفقتُ بعد أربعين عامًا لأجدني أماً لأبناءٍ ولدوا أمواتًا أو ماتوا وهم رضّع، والعجائز يقلنَّ لي "أنتِ تقتلين أبنائكِ بالحزن الذي تعيشينه."
ولكن الفرح كان ترفًا محرّمًا على عمري، فلم يبقَ لي من الأبناء سوى شابة قبل أن تبلغ الثلاثين اقترنت بالموت، وتركت لي نيران انتحارها لتحرقني بسعيرٍ يزداد مع الأيام اشتعالًا.
لماذا كل ذلك؟ لأنهم أفهموني أن طاعة الزوج واجبة، وأن صوت المرأة يجب ألا يعلو على صوت زوجها، فهو الآمر الناهي، وهي عليها فقط السمع والطاعة. زوج متسلط بلا ضمير وبلا أخلاق، همجي حقير لا يشبهه أي كائن على وجه الأرض.
بالغباء قادنا، وبالظلم حكمنا، وبعنجهيته الفارغة تسلط على حياتنا. ذقتُ في كنفه الأمرين، ورأيتُ ابنتي تنطفئ أمامي كشمعة في مهب الريح.

كنتُ كلما أحاول أن أطلب الطلاق، أجد عائلتي أول من يقف بوجهي.
إلى أن أصيب يومًا بجلطة دماغية دمرت قوته، وخلفته تحت رحمتي وعطفي. لكنني ما أشفقتُ عليه. كان يشتمنا، ابنتي وأنا، ليل نهار، ويكفر بالله لأنه فعل به ما فعل، وتركنا نحن "العاهرتين - كما كان يصفنا - بكامل قوانا."


طلبت الطلاق، لكن المجتمع بأسره حاربني، وقالوا عني ناكرة الجميل، أخذته لحماً وأريد أن أرميه عظماً.

انتحرت ابنتي هربًا من ظلمه بعد أن أصيبت بمرض نفسي قالوا لي يومها إنه اكتئاب حاد. لكن ألسنة الناس لم ترحمها وترحمني، بل أشفقوا عليه، فقالوا إنها انتحرت بعد أن سلمت شرفها لمن لم يصنها.

صدقتني عائلتي بعد فوات الأوان، بعد أن ماتت ابنتي واشتعل قلبي بنار فراقها، لكنهم ما وافقوا على طلب الطلاق، بحجة أن "الضرب بالميت حرام"، وهو قد أصبح ما أصبح عليه، فلم يعد الأوان مناسبًا للانفصال بعد أن بلغنا هو وأنا من الكبر عتياً.
خدمته... كنتُ ممرضته إلى أن أصابتني جميع أمراض الشيخوخة وخلفتني كما ترين، على كرسي نقال.
مات بعد صراعٍ مع المرض، ليلتها رأيتُ ابنتي في الحلم لأول مرة منذ أن توفيت، كانت تبتسم وتقول لي "مبارك عليكِ حريتك."

وها أنا الآن حرة، من دون ابنتي، ومقعدة أعيش عالة على إخوتي، وفي قلبي تتراكم صخور الندم على طلاقٍ لم أجرؤ على السعي له.
أمسكت بيدي وقالت "الأفضل دائمًا أن نندم على شيء فعلناه، لا على ما لم نفعل... هل فهمتِ ما أعني؟"
ابتسمتُ من خلال دموعي وقلت "فهمت."
قبلتها على وجنتيها، أعطتني ورقة عليها عنوانها ورقم هاتفها وقالت "إن احتجتني يومًا ستجدينني هنا، إلا إن كان الموت أسرع منكِ."



 


Images rights are reserved to their owners





































       


ذاكرتي



تشبه ذاكرتي علبة مجوهرات... 

وكما يمكن أن تفعل وصيفة غبية، وضع فيها الزمن أحجار

 عثراتي! 









 Image rights are reserved to the owner

منى


كنتَ كاذبًا في صدقك، وفي كذبك كنتَ بارعًا مبدعًا.
يوم دخلتُ إلى استديو التصوير الخاص بك لأحصل على صورٍ شخصية لي بـ"اللوك الجديد"، صعقتني الطيبة في وجهك. أيها المصور البارع، كم كنتُ مأخوذةً بكلامك المعسول وكيف يزرع البسمة على وجه من يقف خلف عدسات كاميراتك.
بلحظاتٍ فهمتَ معاناتي، قلتَ "الحزن في أعماق عينيكِ له حكاية. "
فأخبرتكَ أنني مطعونة من أبٍ يمارس الكذب عليَّ. بدايةً أخبرني أنه يحب أمي، وكنتُ أعرف أنه قتلها بأنانيته! ثم أخبرني أنه لن يتخلى عني، لكنه تزوج وأتى بخالة إلى المنزل تنغص عليَّ عيشي. قال إنه سيعتني بي، لكنه رماني في مصحة للأمراض النفسية!
حاول المستحيل لأجل أن أوقع له على وكالة تمنحه حق التصرف في إرثي من والدتي، الشيء الوحيد الذي بقي لي منها، بعد أن أخفت زوجته الجديدة معالم والدتي وآثارها من المنزل، فمزقت صور أمي ولم تترك لي صورة واحدة لها.
تعاطفتَ معي... والدموع كادت أن تنفر من عينيكَ وقتها... فعشقتك!
كنت صورة مختلفة عن أبي، أنتَ تماثله في العمر، لكنك كنت صادقًا وشفافًا وأكثر حنانًا وحبًا منه.

أصبحت تدعوني للخروج معك، كنا نتناول الغداء في مكان والعشاء في آخر، فتعلقتُ بك.
شهورٌ مرت على علاقتنا، وتعلقي بك يشتد يومًا بعد يوم، إلى أن شاركتَ أبي بمؤامرته الدنيئة!... فهل تذكرها؟
وهل تذكر خدعتك الكبيرة؟ قلتُ لكَ "أريد أن أستأذن زوجتك كي أتزوج بك، فأنا لهذه الدرجة صادقة مع نفسي."
فأخذتني إلى منزلكَ... التقيتُ بزوجتكَ، كانت غاية في اللطف معي! فقررتُ أن أكون صديقتها لا ضرتها.

حاول والدي، وللمرة الألف، أن يجعلني أوقع له على أوراق إرثي من والدتي، بعد أن أقنع جميع أفراد عائلتي بأنني مريضة نفسياً وأحتاج لعلاج طويل في المصحة.
رفضت، قاومت، زعقت وكسرت كل ما وصلت إليه يداي يومها. حاول أبي وأفراد عائلتي المجتمعون عندنا أن يجعلوني أهدأ... فدخلتُ غرفتي ثائرة ورفضت فتح الباب لأحدٍ سواك. أجل، طلبت من أبي أن يحضرك.

أتيت بعد إلحاح من عائلتي، أخذتني معك، جبنا شوارع بيروت بالسيارة ونحن نتحدث، أخبرتكَ أنني لا أريد أن أعود إلى المنزل، طلبتُ منك أن تتزوجني فورًا!...
أحسستُ بخدرٍ في رأسي و....!
وفجأة وجدتُ نفسي في مصحة الأمراض النفسية، أعارك رجالاً يريدون تقييدي.
أنتَ تخليت عني بعد أن ساعدت والدي بمؤامرته وأوصلتماني إلى المصحة!
ضربتُ جهاز التمريض كله، خدشت أيديهم ووجوههم فسالت منها الدماء، وهربت.
لكنهم أعادوني عنوةً ومقيدةً إلى المصحة.

كنتُ مريضة نفسيًا... صحيح. حقيقة لن أنكرها بعد الآن. فكلنا معرضون للمرض، وأول خطوة نحو العلاج هي الاعتراف بالمرض، وهذا ما ساعدني على فهمه طبيبي الخاص.
اختفيتما أنتَ وأبي تمامًا وأنا في المصحة، لم أرَ أيًا منكما يزورني أو يتكرم عليَّ بمكالمة هاتفية.

خرجتُ من المصحة، وعدتُ إلى منزل والدي الكاذب، فوجدتك قد سكنتَ منزلاً في المبنى المقابل لمنزلي تمامًا، وزوجتكَ هي غير تلك الزوجة التي سبق أن عرفتني بها!
إذن كذبت عليَّ! لم تعرفني إلى زوجتك! والله وحده يعلم من كانت تلك المرأة التي عرفتني إليها.

أثناء علاجي فهمتُ أشياء كثيرة، وأمورًا كانت غائبة عن ذهني المريض تمامًا. لعلك أشفقتَ عليَّ بعد أن علمتَ أنني مريضة، لكنك لم تحبني. صدقًا، لم تحبني كأنثى، بل أشفقتَ على صباي المتهالك تحت عجلة المرض النفسي. أما أنا فلعلني أحببتكَ حقًا، لكنك كنتَ بالنسبة لي تعويضًا صادقًا عن أبي، وكنتَ كاذبًا تمامًا كأبي!
وهكذا تكون قد اختصرت عمر الحب... بطعنتين... وشوكة في حلق الغياب.







Images rights are reserved to their owners







































ثقب في الذاكرة


 حلَّ المساء، لكنها لم تستطع أن تتذكر... شيء ما يثقل صدرها، أمرٌ مهم عن الليلة، لكنه يهرب من ذهنها كظل يختفي في الظلام. تتسارع الأفكار في رأسها، تساؤلات لا تنتهي: ماذا كان ذلك الأمر؟ هل هو بسيط أم مصيري؟ لماذا يرفض عقلها أن يفتح له الباب؟
شعرت بأن قلبها ينبض بقوة، كأنه يحاول الهروب من صدرها، ويداها ترتجفان رغم محاولتها السيطرة على نفسها. نظرت إلى هاتفها للمرة الخامسة، بحثًا عن رسالة أو تذكير، لكن الشاشة صامتة، لا شيء ينقذها من دوامة الحيرة.

ارتدت ملابسها بسرعة، كأنها تهرب من نفسها، وتعطرت، لكن رائحة العطر لم تخفف من ثقل القلق الذي يلتف حول صدرها. تزينت بالإكسسوارات، لكنها لم تشعر بجمالها، بل بثقل الذكرى التي لا تستطيع استدعاءها.
حملت هاتفها ومفاتيحها، كل حركة صغيرة تشعر بها كأنها تفقد السيطرة، كأنها تتلمس طريقها في عتمة كثيفة لا تعرف نهايتها. توصيات والدتها بالعودة باكرًا تتردد في أذنيها كصدى بعيد، ودعاؤها بأن يحفظها الله من كل سوء يختلط بالخوف الذي يعتصر قلبها.

وصلت إلى مدخل الفندق، مشوشة التفكير، كأن عقلها محاصر بين جدران من الضباب. اليوم زفاف صديقتها منى، لكنها لا تستطيع تذكر ما أخبرتها به منى عن الليلة، كأن كلمة معلقة في الهواء بلا جذور.
دخلت البهو، والأنظار تلاحقها، لكنها لم تشعر بها. اقترب شاب من الاستقبال، وعرض خدماته، فسألته عن الزفاف. تعجب وقال: لقد أُلغي الزفاف، ألم يخبرك أحد؟
اتصلت بمنى، وصوتها يرتجف من الدهشة، فتعجبت الأخيرة! فقد سبق وأخبرتها أن زفافها قد ألغي بسبب وفاة عم العريس فجأة.


عادت إلى المنزل مذهولة، والدموع تملأ عينيها، سألتها أمها بقلق ولهفة: ماذا حدث يا حبيبتي؟
أجابت بغصة: الأمر الذي لم أذكره... هو أن زفاف منى قد أُلغي!
دخلت غرفتها شاردة، ودموع والدتها تنهمر بحرقة "يا إلهي، ما حذرنا منه الطبيب صار حقيقة مريرة!"
ابنتها الحبيبة سمر، مصابة بنوع نادر من الأمراض، سببه حادث سير أثر في دماغها، ضربة عنيفة أدخلتها في غيبوبة طويلة. الطبيب أخبرهم أن علاجها النفسي يجب أن يكون دائمًا، فهي معرضة لفقدان الذاكرة، وحيرتها هذه الليلة كانت بداية لتلك الحقيقة المؤلمة.





 Image rights are reserved to the owner











رسالة إلى نادل المقهى


سيدي النادل
سيأتي بعدي رجلٌ
فاخرُ الحزنِ
أنيقُ الغموضِ
على شفتيه ابتسامةُ
أملٍ... سرعان ما ستخيبُ
بلقاءٍ مثمرٍ مع نَمِرَةٍ
هي أنا!!!

سيجلس هنا مكاني
أمام النافذة
ويطلق خياله مع طيور السُمانِ
ويصلي صلاةَ الغائبِ
لعلّي أحضرُ على صهوةِ غيمةٍ
تمطر عليه عشقًا وعطرًا.

سيدي النادل
عندما ترى صوابه
وقد طار مع دخان سيجارته
التي لا يجيد حملَها
عندما يطلب منك فنجانَ قهوةٍ عاشرًا
عندما ينظر في مرآةِ القدرِ
يطلب نبوءَةَ الغيبِ
اقترب منه بتمهُّلِ قطٍّ متأهّبٍ
وقل له
رحلتْ... مع غيمةِ عطركَ
هي امرأةٌ عاشقةٌ حتى النخاعِ يا سيدي
لكنها يمامةٌ طليقةٌ
ترفض أن تدخل قفصَ أصابعكَ
أنثى شرسةُ اللهفةِ هي
لكنها لا تؤمن إلا بالغيابِ
ففي الغيابِ ستعشقكَ أكثر
في الغيابِ ستكتبكَ قصائدَ عشقٍ
وترويك لبناتِ أفكارها
أقاصيصَ هوًى جامحٍ
ما عرفتَ له مثيلاً
أقاصيصَ شهرزادَ
ولا رأت له شبيهًا
قصائدَ المجنونِ.







 Image rights are reserved to the owner


بعد وفاتي


أيام ثلاث مضت على وفاتي.
وجد زوجي ألف طريقةٍ للعزاء.
أخفى الغبار آثار أقدامي عن طرقات مدينتي. وترحّم عليَّ بائع الخضار لأنه فقد إحدى أهم زبائنه. أما خادمتي فسرقت ملابسي.
وحدها مكتبتي حفظت ذكراي واحتفظت ببصماتي على رفوفها.





  Image rights are reserved to the owner

لولو والأجنحة


لم يتجاوز نجاحي في الامتحانات الرسمية المتوسطة المعدل العام، أو كما قالت أمي ساخطةً "نجحتِ على الحافة".
فلطالما كنتُ مراهقةً غير متوافقة مع محيطي، مما جعلني ساخطةً على الدراسة والمدرسة، لأن قوانين الدراسة والتزاماتها كانت تخنق فيَّ روح الانطلاق والحرية، وتمنحني دائمًا إحساسَ عصفورٍ سُجن في قفصٍ صدئ.

أعلم أن تقريع أمي لي نابعٌ من حبها وإصرارها وعزمها على أن تجعل مني إنسانة مكتملة النضج والفهم والوعي، لكنني بسذاجة المراهقين وقتها كنتُ أعتبر تقريعها لي تدخلاً سافرًا في خصوصياتي وخنقًا ظالمًا لإرادتي.

دخلتُ غرفتي ساخطةً على الدنيا بأسرها، كم أتمنى لو أنني حمامة أو فراشة تطير في الفضاء متنقلةً من شجرة إلى شجرة ومن زهرة إلى أخرى... نمتُ ليلتها وأنا أحلم بالتحليق.

استفقتُ فجراً على نغمات ناي خفيفة، فتحتُ عينيَّ فرأيتُ امرأةً لها جناحان تعزف أمام سريري. ابتسمتُ وقلت: هل أنتِ ملاكٌ أم جنية؟
أوقفت العزف وقالت باسمةً: أنا جنية الحرية.
فوجئتُ بنغمة صوتها الموسيقية ووقع كلماتها في أذنيّ، فقلت: ما معنى ذلك؟
أجابت وهي تمسك بيدي داعيةً إياي للنهوض من السرير: سوف أمنحكِ الجناحين اللذين تمنيتهما!

أوقفتني أمام المرآة، فوجدتني قد أصبح لي جناحان كعصفورة. ذهلت وأخرستني المفاجأة.
ابتسمتْ بحنان أمومي وقالت: سيكون الجناحان لكِ طوال النهار... رافقي العصافير وستعرفين منها سرَّ التحليق.
فتحت النافذة وغابت بين السحاب!
رفرفتُ بجناحيّ وحلقتُ في الفضاء. اقترب مني عصفور ساحر الألوان، وقال مغردًا: مرحبًا أيتها الإنسية... لا بأس بأجنحتكِ، فأنتِ تجيدين الطيران.
ذهلتُ من كلامه وقلت بذعر: هل أنتَ ساحر؟ غرَّد بمرح وأجاب: لا... أنا عصفور... وأنتِ فهمتِ لغتي لأنكِ عصفورة مثلي الآن.
فقلتُ له: والله ما زلتُ غير مصدقة لكل ما يجري... لا بد أنني نائمة وأحلم. غرَّد بمرح أكبر وقال: صدقي يا صديقتي الإنسية... يبدو أنكِ فتاة طيبة القلب، لذا أرسلتكِ جنية الحرية إلينا لتتعلمي منا سرَّ التحليق.
جاريته في اللعبة وقلت: وهل ستعلمني أنت؟
فقال وهو يشير لي بجناحه: اتبعيني وسوف ترين بنفسك.

كانت محطتنا الأولى عشًا كبيرًا بعض الشيء، فيه عصافير شديدة الصغر لا ريش لها، وتقف أمامهم عصفورة تبدو وكأنها تلقنهم درسًا ما.
جلسنا أنا وصديقي العصفور على حافة العش نراقب العصافير، فوجدتُ العصفورة تلقن الصغار تغريدات جديدة، كل تغريدة منها تحمل معلومة تفيد الصغير في تحليقه وتواصله مع بقية الطيور والبشر.
سألتُ صديقي العصفور: ماذا تفعل هذه العصفورة؟
أجاب وهو يشدني بعيدًا عن العش: هي تلقنهم دروسًا لينبت ريشهم ويحترفوا التحليق.
عجبتُ من كلامه وقلت: وهل التعليم هو من يمنح الريش لأجنحة الطيور؟
أجاب بثقة: طبعًا... فوحده التعليم يمنحنا الأجنحة والخبرة تمنحنا التحليق.
فأجبتُ باستياء: ولماذا لا تنبت لنا أجنحة نحن البشر مثلكم؟ فأجاب: ومن قال إن لا أجنحة لكم؟
أجبت بامتعاض: أنا الآن استثناء، لقد منحتني جنية الحرية أجنحة... لكن هل رأيتَ يومًا إنسانًا له أجنحة؟
أجاب بثقة: أجل، رأيت أجنحة الإنسان كثيرًا.
ضحكتُ وقلت: لم أكن أعرف أن العصافير تكذب.
ضحك وأجاب: لا، أنا لا أكذب... لكن قبل أن أشرح لكِ حقيقة القصة، تعالي معي لأريكِ روعة أن تملكي أجنحة تحملكِ أنى شاء لكِ الهوى.

أمضيتُ مع العصافير يومًا أكثر من رائع، حلقتُ معهم في الفضاء الشاسع، وصلنا إلى أروع الغابات العذراء في أفريقيا... حلقنا فوق رؤوس الناس في شوارع البندقية المائية، وهم يجوبون في الجندول يعزفون الموسيقى. ورقصتُ مع الحمام في روما... تناولتُ الطعام مع يمامات تركيا... آه ما أروعه من نهار ذاك الذي أمضيته مع العصافير.

لكن للأسف، فحسب ما قالت لي جنية الحرية، سأنام اليوم مع العصافير لأصحو صباح غدٍ في سريري لأعود كما كنتُ إنسانة من دون أجنحة.
قال العصفور وهو يربت بجناحه على رأسي: ما الذي يهمكِ الآن وقد أمضينا يومًا رائعًا؟
قلتُ بحزن والغصة في حلقي: سأعود غدًا إلى سجن الأرض... وأنا أعشق الفضاء... أعشق الحرية... وأمقت جدًا مراقبة والديّ لي وتدخلهما الدائم في شؤوني... إضافة إلى سجني في مدرسة لا أطيق المكوث فيها.
أجاب بحنان: هل أعطيكِ الآن سرَّ التحليق؟ سرًّا سيجعلكِ تنالين حريتكِ وتحلقين في الدنيا من دون جناحين.
أجبت بلهفة: وهل أستطيع فعلاً أن أطير... أرجوكَ أخبرني أنك لا تمزح؟
ابتسم وقال: لا، لست أمزح... كي تملكي جناحين يمنحانكِ حرية التحليق، فعليكِ أن تنالي شهادة جامعية.
أجبت بامتعاض وتأفف: دراسة من جديد؟ قلت لكَ إنني أمقت المدارس والدراسة.
فأجاب بثقة: لكن لا شيء غيرها سيمنحكِ جناحي الحرية... إذا رفضتِ الآن إكمال دراستكِ، سوف تبقين مسجونة في المنزل. أما لو تحملتِ بضعة سنوات لتنالي شهادتكِ، فسوف يكون القرار لكِ وحدكِ لتعيشي حياتكِ على هواكِ.
صمتُّ ذهولًا مما قاله، لقد كان محقًا... فكل النساء اللواتي أحببتهنَّ متعلمات وخريجات جامعة، مثل منى ابنة عمي... ومثل مس سماح معلمة اللغة الإنجليزية... ومثل ماما...

بدأت الشمس تنحدر إلى خدرها في المقلب الآخر للدنيا... وحان موعد النوم.
ضمني صديقي العصفور إلى صدره وقال بحنان: أتمنى لكِ حياةً سعيدةً أيتها الإنسية... فكري بكلماتي وبروعة الحرية التي عرفتِها اليوم معنا عن قرب... واتبعي قلبكِ وحدسكِ وستجدين طريق سعادتكِ... تصبحين على حرية.

استفقتُ صباحًا مع تغريد العصافير. فتحتُ نافذتي وأرسلتُ لهم قبلاتي الحارة... وصرخت من النافذة: أحبكم جميعًا.
دخلت والدتي إلى غرفتي، وابتسامة رقيقة على وجهها وقالت: أتكلّمين العصافير يا عصفورة؟
قبلتها بحرارة وأجبت: ماما، أحبكِ جدًا... وأعدكِ أن أدرس باجتهاد وأن أكون من الأوائل.
قبلتني بحنان وقالت: ما كل هذا الحماس؟
نظرت إلى السماء وأجبت بابتسامة كبيرة: سأدرس كي أحصل على أجنحة مثل العصافير.







Images rights are reserved to their owners