لولو والأجنحة


لم يتجاوز نجاحي في الامتحانات الرسمية المتوسطة... 
المعدل العام. أو كما قالت أمي ساخطةً "نجحت على الحافة". فلطالما كنتُ مراهقةً غير متوافقة مع محيطي، مما جعلني ساخطة على الدراسة والمدرسة، لأن قوانين الدراسة والتزاماتها كانت تخنق فيَّ روح الانطلاق والحرية، وتمنحني دائماً إحساس عصفورٍ سجنوه قصراً في قفصٍ صدئ.
أعرف أن تقريع أمي لي، نابعٌ من حبها ومن إصرارها وعزمها على أن تجعل مني  إنسانة ناضجة وواعية، لكنني بسذاجة المراهقين وقتها كنتُ أعتبر تقريعها لي هو تدخلٌ سافرٌ بخصوصياتي وخنقٌ ظالمٌ لإرادتي.
دخلتُ غرفتي ساخطة على الدنيا بأسرها، كم أتمنى لو أنني حمامة أو فراشة تطير في الفضاء متنقلة من شجرة إلى شجرة ومن زهرة إلى أخرى...
نمتُ ليلتها وأنا أحلم بالتحليق.

... استفقتُ فجراً على نغمات ناي خفيفة، فتحتُ عينيَّ فرأيتُ امرأة لها جناحين تعزف أمام سريري.
ابتسمتُ وقلت: هل أنتِ ملاكٌ أم جنية؟
أوقفت العزف وقالت باسمة: أنا جنية الحرية.
فوجِئتُ بنغمة صوتها الموسيقية وبوقع كلماتها في أذنيّ...
فقلت: ما معنى ذلك؟
أجابت وهي تمسك بيدي داعية إياي للنهوض من السرير: سوف أمنحكِ الجناحين اللذين تمنيتهما!
أوقفتني أمام المرآة، فوجدتني وقد أصبح لي جناحان كعصفورة. ذهلت وأخرستني المفاجأة. 
ابتسمتْ بحنان أمومي وقالت: سيكون الجناحان لكِ طوال النهار... رافقي العصافير وستعرفين منها سرّ التحليق.
فتحتْ النافذة وغابت بين السحاب!
رفرفتُ بجناحيّ وحلقتُ في الفضاء. اقترب مني عصفور ساحر الألوان، وقال مغرداً: مرحباً أيتها الإنسية... لا بأس بأجنحتكْ فأنتِ تجيدين الطيران.
ذهلتُ من كلامه وقلت بذعر: هل أنتَ ساحر؟
غرَّد بمرح وأجاب: لا... أنا عصفور... وأنتِ فهمتِ لغتي لأنكِ عصفورة مثلي الآن.
فقلتُ له: والله ما زلتُ غير مصدقة لكل ما يجري... لا بد أنني نائمة وأحلم.
غرَّد بمرح أكبر وقال: صدقي يا صديقتي الإنسية... يبدو أنكِ فتاةٌ طيبة القلب لذا أرسلتكِ جنية الحرية إلينا لتتعلمي منا سرَّ التحليق.
جاريتهُ في اللعبة وقلت: وهل ستعلمني أنت؟
فقال وهي يشير لي بجناحه: اتبعيني وسوف ترين بنفسك.

كانت محطتنا الأولى عشاً كبيراً بعض الشيء، فيه عصافير شديدة الصغر ولا ريش لها، تقف أمامهم عصفورة تبدو وكأنها تلقنهم درساً ما.
جلسنا أنا وصديقي العصفور على حافة العش نراقب العصافير، فوجدتُ العصفورة تلقن الصغار تغريدات جديدة، كل تغريدة منها تحمل معلومة تفيد الصغير في تحليقه وتواصله مع بقية الطيور والبشر. سألتُ صديقي العصفور: ماذا تفعل هذه العصفورة؟
أجاب وهو يشدّني بعيداً عن العش: هي تلقنهم دروساً لينبت ريشهم فيستطيعوا التحليق.
عجبتُ من كلامه وقلت: وهل التعليم هو مَن يمنح الريش لأجنحة الطيور؟
أجاب بثقة: طبعاً... فوحده التعليم يمنحنا الأجنحة والخبرة تمنحنا التحليق.
فأجبتُ باستياء: ولماذا لا تنبتُ لنا أجنحة نحن البشر مثلكم؟
فأجاب: ومن قال أن لا أجنحة لكم؟
أجبتُ بامتعاض: أنا الآن استثناء، لقد منحتني ربة الحرية أجنحة... لكن هل رأيتَ يوماً إنساناً له أجنحة؟
أجاب بثقة: أجل رأيتُ أجنحة الإنسان وكثيراً.
ضحكتُ وقلت: لم أكن أعرف أن العصافير تكذب.
ضحك وأجاب: لا أنا لا أكذب... لكن قبل أن أشرح لكِ حقيقة القصة تعالي معي لأريكِ روعة أن تملكي أجنحة تحملكِ أنَّى شئتِ.

أمضيتُ مع العصافير يوماً أكثر من رائع، حلقتُ معهم في الفضاء الشاسع، وصلنا إلى أروع الغابات العذراء في أفريقيا... حلقنا فوق رؤوس الناس في شوارع البندقية المائية، وهم يجوبون في الجندول يعزفون الموسيقى. ورقصتُ مع الحمام في روما... تناولتُ الطعام مع يمامات تركيا... آآآآآآآآآآآه ما أروعه من نهار ذاكَ الذي أمضيته مع العصافير.
لكن للأسف... فحسبَ ما قالت لي ربة الحرية أنني سأنام اليوم مع العصافير لأصحو صباح غدٍ في سريري لأعود كما كنتُ إنسانة من دون أجنحة.
قال العصفور وهو يربت بجناحه على رأسي: ما الذي أهمَّكِ الآن وقد أمضينا يوماً رائعاً؟
قلتُ بحزن والغصة في حلقي: سأعود غداً إلى سجن الأرض... وأنا أعشق الفضاء... أعشق الحرية... وأمقتُ جداً مراقبة والديّ لي وتدخلهما الدائم في شؤوني... إضافة لسجني في مدرسة لا أطيق المكوث فيها.
أجاب بحنان: هل أعطيكِ الآن سرّ التحليق؟... سراً سيجعلكِ تنالين حريتكِ وتحلقين في الدنيا من دون جناحين.
أجبت بلهفة: وهل أستطيع فعلاً أن أطير... أرجوكَ أخبرني أنكَ لا تمزح؟
ابتسم وقال: لا لستُ أمزح... كي تملكي جناحين يمنحانكِ حرية التحليق، فعليكِ أن تنالي شهادة جامعية.
أجبتُ بامتعاض وتأفف: دراسة من جديد؟... قلتُ لكَ أمقت المدارس والدراسة.
فأجاب بثقة: لكن لا شيء غيرها سيمنحكِ جناحي الحرية... إذا رفضتِ الآن إكمال دراستك سوف تبقين مسجونة في المنزل. أما لو تحملتِ بضعة سنوات لتنالي شهادتك... فسوف يكون القرار لكِ وحدكِ لتعيشي حياتكِ على هواكِ.
صمتُ ذهولاً مما قاله، لقد كان محقاً... فكل النساء اللواتي أحبهنَّ متعلمات وخريجات جامعة، مثل منى ابنة عمي... ومثل مس سماح معلمة اللغة الإنكليزية... ومثل ماما... ومثل عمتي ابتسام...
بدأت الشمس تنحدر إلى خدرها في المقلب الآخر للدنيا... وحان موعد النوم. ضمني صديقي العصفور إلى صدره وقال بحنان: أتمنى لكِ حياتاً سعيدة أيتها الإنسية... فكري بكلماتي وبروعة الحرية التي عرفتِها اليوم معنا عن قرب... واتبعي قلبكِ وحَدْسكِ وستجدين طريق سعادتك... تصبحين على حرية.


استفقتُ صباحاً مع تغريد العصافير. فتحتُ نافذتي وأرسلتُ لهم قبلاتي الحارة... وصرختُ من النافذة "أحبكم جميعاً".
دخلتُ والدتي إلى غرفتي، وابتسامة رقيقة على وجهها وقالت: أتكلمين العصافير يا عصفورة.
قبلتها بحرارة وأجبت: ماما أحبكِ جداً... وأعدكِ أن أدرس باجتهاد وأن أكون من الأوائل.
قبلتني بحنانٍ وقالت: ما كل هذا الحماس.
نظرتُ إلى السماء وأجبتُ بابتسامة كبيرة: سأدرس كي أحصل على أجنحة مثل العصافير.

 

 









Images rights are reserved to their owners











    
 






No comments:

Post a Comment