بعد الأوان



تجلَّلهم الشيخوخة بوقارها، يتعممون بالصمت، وإن نطقوا قالوا الحِكم.
رأيتها على كرسي متحرك، تتأمل البحر. فهالتني هيبتها، منديلها الأبيض عكس هالة من نور الشمس الغاربة حول وجهها الوردي فازدادت جمالًا وفتنة. هي المرأة السبعينية التي تحمل تجاعيدها ألف حكاية وحكاية، ولعلها الآن ترويها للبحر.
كنتُ يومها أمشي وحيدة والدموع مرافقي، لقد تشاجرتُ مع زوجي بسبب سوء أخلاقه وشكه الدائم بي.
جلستُ على المقعد المقابل لها لألتقط أنفاسي، ولأمسح الدموع التي أغشت بصري.
اقتربت مني بكرسيها المدولب وقالت "أتَبكين يا فاتنة؟"
فأجبتُ "اسمي ندى، لا فاتنة."
ضحكت العجوز وقالت "حسنًا، بما أنكِ تملكين حس الفكاهة فهذا يعني أن حالتكِ ليست ميئوسًا منها."
فقلت "وما أدراكِ يا أمي بحالتي؟"
ابتسمت مجددًا وقالت "لستُ أمك... فلو كنتُها لما تركتكِ تصلين إلى هذه الحال."
مدت لي يدها مصافحة وقالت "هل تقبلين التحدث إلى عجوزٍ مثلي؟"
صافحتها وأنا أقول "شرف لي يا أمي."
عدلت جلستها وأحكمت الشال حول كتفيها، وصرفت خادمتها وقالت "حسنًا، هاتِ ما عندك؟ ما الذي يبكي هاتين العينين الجميلتين؟"

وجدتني أحدثها وكأنها فعلاً أمي، أخبرتها عن كآبتي، عن وحدتي، وعن الأسى في عمري.
عن زوجي النرجسي الشكاك، الذي يرفض أن يسمح لي بإنجاب طفل، لأنه لا يحتمل ضجيج الأطفال في المنزل!.
انتهيتُ من قصتي فابتسمت وقالت "لن أعطيكِ المواعظ، بل سأخبركِ بقصتي وأنتِ حللي الموقف وأفهميه كيفما شئتِ."
فأجبت "تفضلي."

قالت "ذات يومٍ وقبل أن أبلغ الخامسة عشر من عمري، استفقتُ ويدٌ تلمس يدي، فتحتُ عيني فإذا بجارتنا تمسك بإصبعي وتلبسني خاتمًا. قيل لي يومها إنها تأخذ مقاس 'محبسٍ' سيوضع في يدي."
أخذتني غيبوبة الولدنة وسذاجة طفلة لم تكن تدري أن خاتم الزواج هو فعلاً 'محبس'.

استفقتُ بعد أربعين عامًا لأجدني أماً لأبناءٍ ولدوا أمواتًا أو ماتوا وهم رضّع، والعجائز يقلنَّ لي "أنتِ تقتلين أبنائكِ بالحزن الذي تعيشينه."
ولكن الفرح كان ترفًا محرّمًا على عمري، فلم يبقَ لي من الأبناء سوى شابة قبل أن تبلغ الثلاثين اقترنت بالموت، وتركت لي نيران انتحارها لتحرقني بسعيرٍ يزداد مع الأيام اشتعالًا.
لماذا كل ذلك؟ لأنهم أفهموني أن طاعة الزوج واجبة، وأن صوت المرأة يجب ألا يعلو على صوت زوجها، فهو الآمر الناهي، وهي عليها فقط السمع والطاعة. زوج متسلط بلا ضمير وبلا أخلاق، همجي حقير لا يشبهه أي كائن على وجه الأرض.
بالغباء قادنا، وبالظلم حكمنا، وبعنجهيته الفارغة تسلط على حياتنا. ذقتُ في كنفه الأمرين، ورأيتُ ابنتي تنطفئ أمامي كشمعة في مهب الريح.

كنتُ كلما أحاول أن أطلب الطلاق، أجد عائلتي أول من يقف بوجهي.
إلى أن أصيب يومًا بجلطة دماغية دمرت قوته، وخلفته تحت رحمتي وعطفي. لكنني ما أشفقتُ عليه. كان يشتمنا، ابنتي وأنا، ليل نهار، ويكفر بالله لأنه فعل به ما فعل، وتركنا نحن "العاهرتين - كما كان يصفنا - بكامل قوانا."


طلبت الطلاق، لكن المجتمع بأسره حاربني، وقالوا عني ناكرة الجميل، أخذته لحماً وأريد أن أرميه عظماً.

انتحرت ابنتي هربًا من ظلمه بعد أن أصيبت بمرض نفسي قالوا لي يومها إنه اكتئاب حاد. لكن ألسنة الناس لم ترحمها وترحمني، بل أشفقوا عليه، فقالوا إنها انتحرت بعد أن سلمت شرفها لمن لم يصنها.

صدقتني عائلتي بعد فوات الأوان، بعد أن ماتت ابنتي واشتعل قلبي بنار فراقها، لكنهم ما وافقوا على طلب الطلاق، بحجة أن "الضرب بالميت حرام"، وهو قد أصبح ما أصبح عليه، فلم يعد الأوان مناسبًا للانفصال بعد أن بلغنا هو وأنا من الكبر عتياً.
خدمته... كنتُ ممرضته إلى أن أصابتني جميع أمراض الشيخوخة وخلفتني كما ترين، على كرسي نقال.
مات بعد صراعٍ مع المرض، ليلتها رأيتُ ابنتي في الحلم لأول مرة منذ أن توفيت، كانت تبتسم وتقول لي "مبارك عليكِ حريتك."

وها أنا الآن حرة، من دون ابنتي، ومقعدة أعيش عالة على إخوتي، وفي قلبي تتراكم صخور الندم على طلاقٍ لم أجرؤ على السعي له.
أمسكت بيدي وقالت "الأفضل دائمًا أن نندم على شيء فعلناه، لا على ما لم نفعل... هل فهمتِ ما أعني؟"
ابتسمتُ من خلال دموعي وقلت "فهمت."
قبلتها على وجنتيها، أعطتني ورقة عليها عنوانها ورقم هاتفها وقالت "إن احتجتني يومًا ستجدينني هنا، إلا إن كان الموت أسرع منكِ."



 


Images rights are reserved to their owners





































       


No comments:

Post a Comment