حكم علينا الهوى نعشق سوا يا عين
واحنا اللي قبل الهوى
شوف كنت فين وانا فين
وآه يا ليلي آه ع الوعد والمقسوم
يا ليل يا عيني آه ع الوعد والمقسوم*
وجهة سفري أعالي عكار/شمال لبنان، تلبية لدعوة ابن خالتي مروان لقضاء إجازة ليلة رأس السنة، رفقته وعائلة خالتي.
لا أصدق أنني سأعود إلى هناك، حيث التقيتها أول مرة!
يملك أبناء خالتي مشروعًا صغيرًا في أعالي عكار، مجموعة شاليهات للإيجار على مدار الفصول.
أوائل الربيع الفائت كنتُ هناك، بهدف أن أريح عقلي من التفكير بما حدث معي- قبل أن أجنّ- لعلي أنام ساعة... ساعة فقط أغمض فيها عيناي وأرحل إلى عالم اللاشيء... اللاإحساس.
كنت أخرج في أي وقتٍ من الليل أو النهار، وأمشي بلا هوادة في الطبيعة الخلابة.
في لحظةٍ مباغتة، ضربت روحي صاعقة أشد من برق السماء، صاعقة جاءت من حضورها الساحر تحت ظلال تلك الشجرة العتيقة.
وكأن شموع عمري المطفأة اشتعلت من هالة النور التي تحيطها.
كانت تجلس هناك، بين نسمات الطبيعة ونقاء الهواء، تغوص في عالم الكتاب الذي بين يديها كأنها تلامس أرواح الكلمات بشفافيةٍ متناهية. شعور غريب غمر قلبي، كما لو أن الكون كله قد توقف ليشهد ذلك اللقاء السري بين الإنسان والجمال.
رأيتُ فيها كل الحكايات التي لم تُروَ، والأحلام التي لم تُرسم بعد.
وكأن خيط من نور سطع من روحها إلى روحي، حوَّل الزمن إلى صفحة من الأدب تروي حكاية لقاء سحري بين قلبٍ يبحث عن ذاته وبين امرأةٍ يقرأها الصمت فتشع بآلاف الحكايات.
فجأة... أغلقت الكتاب ونظرت نحو الأفق حيث الشمس تغرب بألوانها الذهبية، تنسج خيوط الذكريات والآمال في قلب المساء.
تسربلتُ بخجلي لحظة رأتني! حاولتُ التواري عن مدى رؤيتها.
لكنها همست بصوت شجي: د. فارس لماذا تهرب؟
بدت عينيها كمرآة تعكس عالمًا لا يُرى، أما عالمي أنا فكان على وشك التلاشي.
تلعثمتُ وقد امتزج الترقب مع الحذر في صوتي وأنا أجيب: عفوًا سيدتي... هل تعرفينني؟
ابتمست برقةٍ وخفر وأجابت: أجل أعرفك... ألستَ تبحث عن حقيقة ما جرى معك، من ضياع مخطوط كتابكَ الجامعي؟
اختفى حذري للحظاتٍ وقلتُ بتلقائية: جئتُ إلى هذه المنطقة بهدف أن أريح عقلي من التفكير بما حدث، والله أكاد أجنّ.
أجابت بعطف: لن تشعر بالراحة إلا بعد أن تتضح معالم مأساتك... وأنا أستطيع مساعدتك!
خلتني جننتُ... فقلتُ متماهيًا مع جنوني: وهل تعرفينها أنتِ؟
ابتسمت ابتسامة العارف وأجابت: أجل أعرفها.
شككتُ بأنها مرسَلة من قِبَل الجامعة كي تستنطقني لتعرف مصير الكتاب الذي كان عليَّ تسليمه للمطبعة منذ أسبوع ولم أفعل بعد، فالكتاب مرجع في فلسفة العلوم كنتُ سأعتمده في تدريس الطلبة هذا العام. لذا قلت لأقلب معادلة الإستنطاق: تفضلي أخبريني.
دعتني للجلوس، وطلبت من شابٍ داخل الشاليه أن يحضر لها أدوات تحضير القهوة.
لن أنسى ما حييت مذاق قهوتها، وكأن عقلي كان محاصَرًا في عاصفة من الرمال، وفجأة انحسرت الزوبعة!
وبينما أنا هائم في ملكوتٍ سحري، أعادت فتح الكتاب الذي وضعته جانبًا وهي تعد القهوة، ركزت نظرها فيه مطولًا ثم نظرت إليّ وقالت: هل تريد أن تعرف الحقيقة؟... وأنبهك مسبقًا بأنها مُرَّة؟
أجبتُ وأنا لا أصدق ما يجري: أجل أريد... لكن كيف تعرفين أنتِ؟
انساب صوتها كنسماتٍ ربيعيةٍ منعشة وهي تقول: هذا الكتاب يعرف كل شيء، قصتكَ مدوَنة هنا.
ضحكتُ بسخرية وقلت: اعذريني سيدتي لكنني لا أصدق بألاعيب التنجيم والتوقعات.
ابتمست بتفهم أمٍ لطفلها وأجابت: ولا أنا أؤمن، لكن هذا الكتاب حقًا يخبرني بقصتك.
صمتُّ ولم أجد ما أقوله، نظرت مجددًا في عينيَّ وقالت: اللابتوب الخاص بك لم يسُرِق بل مُنِح هدية لأحدهم... أما بريدك الإلكتروني فقد تم "تهكيره"* كي لا تصل لنسختك من الكتاب المسجلة عليه.
قلتُ مستاءًا: ومَن فعل ذلك!؟
أجابت: لعلها زوجتك!
جحظت عيناي وقلت: ماذا قلتِ؟... زوجتي؟... لا...لا... لا أصدق.
أصرت المرأة على أقوالها وقالت: اسألها عن المدعو "زياد".
كنت مسترخيًا بما يكفي كي لا أقفز من مكاني، لكنني سألت: من هو زياد هذا؟
وقفت المرأة وهي تقول: اعذرني لقد بدأ الجو يميل للبرودة وعليَّ أن أدخل... اذهب إلى زوجتك واسألها... وإذا احتجت لأي استفسار عدّ، وستجدني هنا.
صرختُ بها قبل أن تدخل إلى الشاليه: هل أنتِ جنية!؟... لا بد أنكِ جنية!؟
وبدأتُ بتلاوة آيات من القرآن.
سمعتها تقول قبل أن تغلق الباب وراءها: اذهب إلى زوجتك واسألها يا دكتور فارس.
لحظة وصلتُ إلى "الشاليه" انقشع شيء ما داخل عقلي، وكأن غيمة تحركت من مكانها... فزعقت: زوجتي خائنة!... ومن هو زياد هذا!؟
حاولتُ أن أهدىء لأفكر بمنطق، وحاولتُ إقناع نفسي بأنني لا بد أهلوس بسبب عدم خلودي للنوم منذ أسبوع.
وأخيرًا قررتُ أن أعود في الغد إلى العاصمة، للبحث عن اللابتوب.
لكن!... لم أستطع النوم، ارتديتُ ملابسي على عجل وحملت علاَّقة المفاتيح...
وأنا أفتح باب المنزل سمعتُ وشوشاتٍ غامضة تخرج من ناحية غرفة النوم، مشيتُ كهرِّ متأهب وأنا أحمل سكينًا حادة في يدي، وفتحتُ باب الغرفة بهدوء.
كدتُ أطعنها في عنقها، عندما شعرتُ بيدٍ تمسك بيدي... كانت يد مروان-ابن خالتي الضابط- أخذ السكين من يدي وهو يقول: حسنًا يا فارس لا تورط نفسك بهذه النفايات، حسبكَ أنكَ رأيتهما بالمجرم المشهود.
اكتشف مروان ابن خالتي خيانة زوجتي لي عن طريق الصدفة، خلال التحقيق في قضية رقيق أبيض واتجار بالمخدرات متورط بها المدعو زياد.
وقد حدد مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية وحماية الملكية الفكرية، أن زياد قد أرسل في الآونة الأخيرة كل مراسلاته من لابتوب يعود ل... اللابتوب الشخصي لي!
هنا ربط مروان حادثة اختفاء اللابتوب بزياد، وبعد أن وُضع هذا الأخير تحت المراقبة، انكشف سرّ علاقته الآثمة بزوجتي!
وبدأت كرة الثلج تكبر... وتكبر...
كان مروان يريدني أن أشهد خيانة زوجتي بوجوده، كي يكون لدي مستمسك قانوني في حال أردت رفع قضية زنا عليها.
كان هو مَن خطط لي الرحلة إلى عكار/الشمال وكل ما تلاها، من لقاء مع المرأة وحديثها معي. كانت الصبية شقيقة زوجته - اسمها مريم - وهي طبيبة أطفال.
عرفتُ فيما بعد أن الشيطانة التي تزوجتها- وهي تملك صالون تجميل- كانت تستدرج الفتيات كي يقعنَّ في شباك عشيقها زياد!
صدق مروان... أقسم أن أرفع عليها قضية زنا.
التقيتُ مريم ثلاث مراتٍ بعدها في منزل مروان، فقد كانوا مريم ومروان وزوجته، سلواي وعوني على تجاوز المحنة... بفضلهم تعافيت.
دعاني مروان إلى هذه العطلة متحمسًا وهو يقول: المنطقة ساحرة خلال موسم الثلوج.
ابتسمتُ وقلت: وهل ستكون مريم معكم؟
رد الإبتسامة بتواطىء وهو يغمزني: طبعًا... فهي أول المدعوين.
أردتُ أن أعبِّر لمريم عن امتناني لما فَعَلته معي، ولكونها أعطتني أنبل وأطهر صورة عن المرأة كما يجب أن تكون، فقد قررتُ أن أهديها شيئًا مميزًا يذكرِّها دائمًا بالرجل الذي عالجته كما يعَالج الأطفال.
هدية، إذا قبلتها مني، تكون قد طوبتني كشريكٍ لها في قهوة الصباح... والمساء.
* أغنية حكم علينا الهوى/أم كلثوم
كلمات: عبد الوهاب محمد
ألحان بليغ حمدي
*تهكير نسبة لكلمة " hacker" أي مخترِق أو مقرصَن.
Image No1 rights
are reserved to the owner





No comments:
Post a Comment