زهرة الجنوب


الفينيق (العنقاء) طائر أسطوري الذي خرج من الجنة، بجمال لا يوصف، دثاره الحكمة، اتّجه إلى الأرض ليختبر فيها الحياة.
استوقفته أثناء تجواله رائحة اللبان والبخور الصنوبري المنبعثة من أعلى شجر الأرز في لبنان. فبنى عشه واستوطن فيه. ومن أعالي الأرز كان ينشد أعذب الألحان ويتشارك مع الأفلاك السماوية نغماتها.

إلى أن!...
بدأ يختلط بالحياة الأرضيّة فلحقت به شرارة ناريّة من عذابات الناس وآلامهم فأحرقت عشّه، وتحوّل الطائر إلى رماد!
لكنها لم تكن النهاية، بل البداية.
فإرادة الحياة فيه كانت أقوى من الموت، انتفض من رماده مجدداً، وانبعث إلى الحياة وفي روحه ذكرى آلاف السنين.

كانت هذه الأسطورة هي افتتاحية حديثنا، زهرة وأنا.
كنتُ أعمل على كتابٍ يروي قصص المشاهير، وكنتُ منتدبة لكتابة قصة حياة رسامة من لبنان، وصلت شهرتها إلى العالمية.

وبدأت حكاية زهرة فقالت:
خاض لبنان منذ نشأته حروباً لا تنتهي، لكن يقيناً أننا لم نعاني حرباً أشرس من حربنا مع العدو الإسرائيلي.
فيوم قرر اجتياح لبنان عام 1982 كان لي من العمر عشر سنوات، كنتُ أعيش في قرية جنوبية صغيرة محاطة بطبيعة خضراء خلابة.
كنت أحب الرسم، وأحلم بأن أصبح فنانة مشهورة أرسم لوحات عن جمال الطبيعة وسِحر أرض الجنوب.
رسمت السماء الزرقاء، والشمس المشرقة، والأشجار الخضراء. رسمت الأطفال يلعبون في الطبيعة، والطيور تحلق في السماء، ينابيع المياه، والتلال مكسوة بثلوج كانون/ديسمبر... رسمتُ أفراد عائلتي... كم رسمتهم في جميع حركاتهم وسكناتهم.
ذات يوم، وقد اختفت أصوات الطيران الحربي والغارات، جلستُ تحت شجرة السنديان الكبيرة في حديقة جدي، كان منزله يبعد عن منزلنا أمتارٌ قليلة.

مهول ما حصل!... لكنني لم أعرف تفاصيله إلا لاحقاً.
أذكر أن وهجاً شديداً أعمى بصري، و....

فتحتُ عيناي، فطالعني وجه جدتي دامعة العينين، كنتُ أتألم في كل أنحاء جسدي. وفمي جاف كقطعة خشب، رطبتْ جدتي شفتاي بقطعة قماشٍ وقالت:
لا تخافي يا عمري، أنا معك.

يوم فتحتُ عيناي وقد استعدتُ وعيي الكامل، علمتُ أنني في المستشفى منذ أسبوع تقريباً.
"أين أمي!؟"
لم تكن أمي وحدها، بل أفراد عائلتي كلهم قد ارتقوا شهداء... أمي وأبي وأخوتي الصغار.
نظرت حولها وأكملت دامعة:
هذا المرسم كان منزل عائلتي، وقد دمره الصهاينة فوق رؤوس أحبائي، فذابت أجسامهم في ترابه... بنيتُ هذا المرسم مكانه، لأخلد ذكراهم.

قادتني إلى قاعة فسيحة، تجولنا معاً وهي تشرح لي كل شيء عن اللوحات.
لوحاتُ تروي قصة حياة عائلة كانت تعيش بهناء وتعمل بجهد، لم تترك زهرة مناسبة أو مشهداً للعائلة إلا وقد خلدته بلوحة.
في زاوية معتمة من القاعة، وقفنا دقائق صمتٍ مهيب، وزهرة تذرف دموعاً حارة. احترمتُ حزنها، وقد خنقتني العبرات. فهنا لوحات تحكي حكايتها مع اليتم وأحزان الفقد.
دقائق من الحزن والدموع مرت علينا ونحن في وقفتنا.

بعد جلوسنا مجدداً تابعت زهرة:
عام 1985 كنت قد بدأتُ أتأقلم مع حياتي الجديدة، في كنف جدتي، أما جدي فقد فارق الحياة بعد استشهاد عائلتي بأشهر قليلة.
حلَّ ربيعٌ آخر، والحزن ما زال معششاً في زوايا المنزل، رغم جهودنا جدتي وأنا أن نخفي الأمر عن بعضنا، فقد كنا نواسي بعضنا، بصمت ونتواطأ مع الحزن كي لا يرتدي وجوهنا.
يوم عودتنا إلى المدرسة، بعد عطلة الربيع، أخبرتنا المديرة أن جمعيةً للعناية بأطفال الحروب ستزورنا.
كنتُ أحب الوحدة، وأفضل أوقاتي أقضيها منزوية في ركنٍ بعيد وحدي مع رسوماتي، فقصدتُ قاعة الرياضة لأنها تكون فارغة بهذا الوقت وجلستُ في زاوية بعيدة، أرسم...

كنت منهمكة بالرسم، فإذ بي ألمح امرأة تحمل كاميرا تنظر إلى رسوماتي، ابتسمت وقالت "هل يمكنني أن أرى رسوماتك؟"
نظرتُ ل إليها بحذر، ثم مددت لها الدفتر.

بعد أسابيع، انتشرت رسوماتي في الصحف والمجلات. تأثر الناس برسوماتي التي عبّرت عن معاناة الأطفال في الحرب. فبدأت المنظمات الإنسانية تهتم بي وبأوضاعي.

في سنتي النهائية في المدرسة، كنتُ قد طورتُ أدواتي وأسلوب رسمي، وقد أهداني عمي أدوات خاصة للرسم.
استدعتني مديرة المدرسة، دخلتُ إلى مكتبها فوجدتُ عمي وامرأة لا أعرفها.
عرفتُ أن السيدة هي معلمة في كلية الفنون. وهي تحمل لي عرضاً، كلية الفنون الجميلة تقدم لي منحة مجانية لدراسة الرسم.
نظرتُ إلى عمي برجاء، فابتسم وقال "إذا كنتِ موافقة فأنا موافق".


وبدأت مرحلة جديدة في حياتي. مرحلة مليئة بالألوان، رغم أنّ الحرب تركت ندوباً في قلبي. لكنني كنت أعلم أنّ الفن يمكن أن يكون سلاحاً ضد الظلام، ووسيلة لإيصال صوتي إلى العالم... بفرشاتي قاومت الموت، وانتصرتُ على الحرب.

احتفالاً بالتخرج أقام لنا معهد الفنون معرضاً للوحاتنا، حضره فنانون وإعلاميون ووكالات أنباء عالمية، فقد كان عنوان معرضنا "أطفال الحروب".
عزمتُ خلال هذا المعرض على أن أخبر الصحافة عن مشروعي القادم، إقامة مؤسسة تُعنى بمواهب الأطفال الناجون من الحرب.

جاءني دعم مادي من أكثر من متبرع، والكل قدَّم ما يستطيع من إمكانات لينجح هذا المشروع.
مع مرور الوقت، انتشرت أعمالي خارج الوطن العربي.

نظّمتُ معارض فنية في عواصم كبيرة، يعود ريعها لصالح مؤسستي، مما زاد في أسعار اللوحات، بفضل أناسٍ آمنوا بي وبقضيتي.
وهكذا... وبفضلٍ من الله تعالى أصبحتُ رمزاً للأمل والإصرار، وصوتاً للسلام، ألقي محاضرات في الجامعات والمؤتمرات الدولية عن قوة الفن في التغيير النفسي والمجتمعي. كنتٌ دائماً أقول إن الرسم ليس مجرد ألوان على لوحة، بل هو وسيلة لإيصال صوت من لا صوت لهم، وبناء جسور بين الثقافات.
والحمد لله أنني نجحتُ بأن أكون رسالة حية تُذكّر العالم بأنّ حتى في أحلك الأوقات، يمكن للفن أن يكون نوراً يضيء الطريق نحو السلام الداخلي.

أنهت زهرة حكايتها، وقد شعَّ من وجهها نورٌ ألهمني كتابة روايةٍ عن حياة إنسانة أشبه بطائر الفينيق، أحرقته الحياة فتمرد على الموت وقام من رماده، ليشع نوراً في ظلام المقهورين.


وهنا حضرتني مقولة ل سيجموند فرويد
"في كثير من الصدمات النفسية تتسامى النفس عندما تعجز في الوصول إلى أغراضها. تتسامى فتتجه ناحية الفنون كالشعر والموسيقى والرسم... ولذلك إذا تتبعت حياة الكُتاب والروائيين والفنانين، وجدت قصة دامية فتترفع النفس إلى المصاف الفلسفية فتزهد في الحياة وتترفع عن توافه الأمور".



Images rights are reserved to their owners



No comments:

Post a Comment