وعادت أليس من بلاد العجائب


ليلُ الأربعاءِ- الخميسِ 19/20- 1- 2022، ليلةٌ عاصفةٌ في لبنانَ، الثلوجُ تكادُ تُغطّي البلدَ من شماله حتى أقصى جنوبِه، والصقيعُ جليدٌ يغلفُ الحجرَ والشجرَ. الناسُ في منازلِهم، يجتمعون حول مواقدِ الدِّفءِ، أما أنا فكنتُ وحيدًا في منزلي الكبيرِ، فسيدتُه غادرتْ منذ سنواتٍ، عندما اكتشفنا... أنني عقيمٌ لا أنجبُ!

نحن في منطقةٍ جبليةٍ باردةٍ جدًّا، هناك آثرتُ أن أعيشَ وأفتحَ عيادتي الخاصةَ بطبِّ الأطفالِ. كنتُ مدينًا لأهلِ بلدتي بالكثيرِ، فقد أحاطوني بالرعايةِ والحبّ، بعد أن استشهدَ والدايَ في واحدةٍ من أعنفِ اعتداءاتِ العدوِّ الصهيوني على لبنان. فكان-أهلُ البلدةِ إلى جانبِ أقربائي- عائلتي وملجأ أماني.
تكفلت عمتي بتربيتي بين أبنائها، بعد أن تولّت الوصاية على ميراثي، إلى أن عدتُ إلى ربوع الوطن... بشهادةٍ في جراحةِ العظمِ للأطفال.

بالعودةِ إلى ليلةِ العاصفةِ الأكبرِ لهذا العام، كنتُ ممدّدًا على الكنبةِ بجانبِ المدفئةِ، أقرأُ روايةَ "الحياة رواية" للكاتب الفرنسيّ غيوم ميسو، أنا من أشدّ المعجبين برواياته، رغم أن أصدقائي يستغربون حبي الأدبَ، أنا البعيدُ عن هذا العالمِ، مسافةَ سنةٍ ضوئية. لكنني فعلاً ومنذ صِغري، هاوٍ للأدبِ وشغوفٌ بالقراءةِ.
كنتُ مستغرقًا في القراءة عندما رنّ هاتفي في ساعةٍ متأخرةٍ نسبيًّا من اللَّيل، الرقمُ يعود لعمتي. ابتسمتُ تلقائيًّا، فعمتي الحبيبة لا تتوانى عن الاتصالِ بي لتطمئنَّ عني في أيِّ وقتٍ، فهي تعرف أنني أسهرُ طويلاً.

كان اتصالُها هذه المرة مختلفًا، فحفيدتُها الرضيعةُ حرارتُها مرتفعةٌ وتبكي بشدّةٍ.
حملتُ في حقيبتي كلَّ ما يلزم، وتوجهتُ إلى منزلِ عمتي.
ابنتها اليسار -والدة الطفلة- زوجةٌ مُقالةٌ من منصبها، كانت خطيبةً لجارٍ لهم، تركها حاملًا وسافر إلى بلاد الغربة... أنكر صلته بحملِها، وتبرّأ من طفله قبل أن يولد.
أشرفتُ على ولادتِها منذ حوالي الشهرين... وما زالت قضيةُ نسب طفلتها طيّ الكتمان بين العائلتين.

كان والدها أستاذَ مادةِ التاريخ في الجامعة-رحمه الله- قد أطلق عليها هذا الاسم إعجابًا باليسار ملكةَ قرطاج. 
لكننا كنا نناديها "أليس في بلاد العجائب" عندما كانت تروي لنا حكاياتها ومغامراتها مع صديقها "بينغو" الذي وُلد من نبتة الترمس! لما نبتة الترمس تحديدًا؟ لأنها كانت مغرمةً بزهرتها الجميلة ولونها البنفسجي.
كانت اليسار أو أليس كما تُحب أن نناديها، طفلتنا المدللة وأميرتنا الصغيرة.

انخفضت حرارة الطفلة فجرًا، وتحسنت حالُها. حاولت عمتي ثنيي عن الذهاب في هذا الوقت، وقد تراكم الثلجُ في الدروب، لكنني أصررتُ أن أنام في سريري. فسمحت لي بالمغادرة بعدما وعدتها أن أعود ظهراً لتناول الغداء معهما، هي وأليس.
كانت عمتي تعيش وحدها مع ابنتها، فأبناءها الرجال الخمسة كانوا منتشرين في أصقاع الأرض، بحثًا عن حياةٍ ومستقبلٍ لأبنائهم.

قبل أمتارٍ قليلةٍ من منزلي، سمعتُ صراخَ طفلٍ! طفلٌ يبكي. تلفّتُ حولي فلم ألاحظ شيئًا. فجأة... وجدتُ على باب منزلي لفةً فيها رضيعٌ يبكي!!! يا إلهي!... أذهلتني المفاجأة، فمن هذا الطفل؟ ومن تركه على بابي؟
أدخلته إلى المنزل، وبدأتُ بعمل كلّ ما يلزم لتدفئته، فقد كان لونه قد بدا أزرقَ من شدّة البرد. كان صبيًّا، لعله مولودٌ منذ بضعة ساعاتٍ أو يومٍ على الأكثر، فالصرّة لم تكن قد وقعت بعد.
أعطيته مشروبَ اليانسون كي يهدأ، لكنه جائعُ... بالتأكيد جائع. فماذا أفعل يا ربي؟
تفحصتُ الكاميرات المحيطة بمنزلي، لعلي أعرف شيئًا عن الطفل. لكن!... كل ما ظهر هو شبحٌ مغطى بقماشٍ أسود، وضع الطفل على عتبةِ بابي، وغادر!
ولم يسكت الطفل عن البكاء، تذكرتُ أليس، فحملت الطفل وقصدتُ منزل عمتي.
شعر الطفل بالدفء في حضنِ أليس، وتكور غافياً بعد أن أرضعته من صدرها.

لم تستطع تحريات المخفر أن تعرف أي تفاصيل عن الحادثة، فحقًّا انشقت الأرض وابتلعت الشبح أمام منزلي، لم يعرف رئيس المخفر أي تفصيلة ترشدنا إلى والدة الطفل.
بعد عدة أيامٍ من البحث، والطفل يعيش هانئًا في حضن أليس، قرّر رئيسُ المخفر تحويل الطفل إلى مركزٍ للأيتام، لكن!... أليس تعلّقت به لأقصى درجة، وأنا كذلك. كنت أعود مساء من عيادتي لأساعدها بالطفلين. كم أحببتُ دوري الجديد.

ليلة وداع الطفل كانت ليلة حزينة، كانت أليس تبكي من أجل الطفل اليتيم، ومن أجل البرد الذي سيعيش فيه من دون والدة تحضنه، كنت أبكي معها من الداخل، قلبي ينزفُ حُزنًا، "أين العدل يا الله؟... أنا أتمنى طفلًا، والناس يرمون أطفالهم على أبواب الغرباء".

استدعتنا عمتي، أليس وأنا، لنشاركها قهوة الصباح. كان يبدو على كلينا الإرهاق بسبب السهر وعدم النوم.
صبت لكلٍّ منا فنجانَ قهوةٍ، ثم نظرت إلينا وعلى وجهها ابتسامةٌ خجولة، وقالت: ما رأيكما أن نربي الطفل نحن؟
أجابت أليس بأسى: ليتني أستطيع، لكنكِ تعرفين وضعي.
نظرت إليّ عمتي بخجل... تنحنحت وقالت: رامي يا حبيبَ عمتك... ألا يهمّكَ أن تصبحَ والدًا؟
فقلتُ بغصةٍ: يا ليت... لكن!...
أردت أن أقول "كيف وأنا عقيمٌ".
قالت عمتي: تزوج أليس واحتفظا بالطفل.
أحمرت أليس وقالت مستاءةً: ما هذا الذي تقولينه يا أمي!
لم تجب عمتي، بل كانت تنظر إليّ وعلى وجهها ابتسامةٌ حنونةٌ دافئةٌ، كدفءِ الشمس بعد عاصفة.
أجبتُ بحماسٍ: يشرفني يا عمتي... إذا وافقت أليس أن تتزوج عجوزًا مثلي.
قلتُ هذا لأنني أكبرها بحوالي 15 عامًا.
ولم تستسلم عمتي، وكنت سعيدًا بما تفعله، أقنعت أليس أن توافق على الزواج بي.

صباحيةُ زواجنا كانت أليس ترفلُ بالأبيض وهي تحضر الفطور، اقتربتُ منها، قبلتُ أناملها وقلتُ: حوريةٌ من الجنة، وطفلين... ماذا أريد أكثر!
ضحكت بخفرٍ وأجابت: هل ستثق بي؟ لم أعد مجنونةً مثل السابق.
قبلتُ رأسها وقلت: أثق بأنكِ ستكونين توأم روحي... وأجملُ الأمهات.
لا بدّ أن أخبركم... لقد سجّلتُ الطفلين على اسمي واسم أليس... كتوأم.





Images rights are reserved to their owners

 

No comments:

Post a Comment