يا لصَخَبِ هذا الاحتفالِ في رأسي!
منذُ أيّامٍ ثلاثٍ، ترقصُ الأفكارُ في دماغي، ترافقُها الذكريات، بينما يعزفُ لها الماضي على طبولِ الأحلام، والمخاوفُ هي المايسترو.
أستفيقُ صباحًا منهكةً، فأشتمُّهنَّ جميعًا... وأتوعدُهنَّ بالإبادةِ مساءً. تمدُّ إحداهُنَّ لسانَها وتزعقُ: "مجنونةٌ... لن تستطيعي!"
الليلةَ... هذهِ الليلةُ سأُبِيدُهُنَّ عن بكرةِ أبيهِنَّ، لعلّي أنام!
كان هذا قراري البارحة. فتمدَّدتُ على السريرِ وأنا أتملّقُهُنَّ جميعًا ليتحلّقن حولي، فأُبِيدَهُنَّ دفعةً واحدة.
وإذ بهِنَّ!... يتحلّقنَ حولي كغيمةٍ سوداءَ، حاطتْ بي من الجهات الأربع، ثم حملنني عاليًا... عاليًا، فوجدتُ نفسي في مكانٍ أشبهَ بقاعةِ محكمةٍ.
أجلسوني في مقعدِ الاعترافِ... وأعلنوا ضميري قاضيًا عليَّ.
كانت محاكمةً من "خارجِ الصندوقِ" فعلاً. فللمرةِ الأولى تتجسدُ أمامي أفكاري وأحلامي وذكرياتي ومخاوفي...
بدأت المحاكمةُ باستعراضٍ راقصٍ أدّت فيه أفكاري فالسًا على مقطوعةٍ لأندريه ريو...
وقفتُ وصفقتُ بحرارةٍ وقلتُ: لم أكنْ أعلم أنكِ راقصةٌ ماهرةٌ!
أجابتني إحداهُنَّ: لأنكِ عمياءُ البصرِ، فلقد كنا نرقصُ في الزوايا وأنتِ تسرحين بين أنغامِ اللحنِ.
ذهلتُ وأجبتُ: حقًا!؟
أجلسني مجددًا حلمٌ تركته يذوي منذُ عشراتِ السنينِ وقال: والآنَ حانَ دورُ المحاكمةِ.
جاء حلمٌ وعرَّف عن نفسه محاميَ الأحلامِ.
قال للقاضي: لطالما قتلت صغارنا في المهدِ.
نظر إليَّ القاضي وقال: أجيبي...
لم أجب، بل جلستُ على الأرضِ أبكي وأركلُ كطفلٍ عنيدٍ غاضبٍ.
قال المحامي: ولمَ هذا البكاءُ الآن؟
أجبتُ: لماذا خذلتموني وتخلّيتم عني؟
أجاب بحكمةِ عجوزٍ: وماذا فعلتِ أنتِ؟ هل حاولتِ التمسك بنا؟
بكيتُ مجددًا، فقال: حسنًا... حسنًا، اصمتي. لا داعي للبكاء.
فأجبتُ: أنتم تعرفون أن الظروفَ...
أسكتني القاضي بحركةٍ من يده وقال: هذهِ هي "الشماعةُ" التي تعلقون عليها فشلكم في لبنان.
قلتُ بحزمٍ: لا... أنت تعلم وضعَ البلدِ المأساويَّ.
أحسستُ بيدٍ على ذراعي، نظرتُ... فإذا هو حلمٌ صغيرٌ بريءٌ.
ابتسمتُ له بحُبٍّ وقلتُ: أما زلتَ طفلًا؟
أعطاني "بونبونةً" وقال: لا أريد أن أكبر.
قال القاضي: هل تعترفين بجريمة قتل الأحلام في المهد؟
بكيتُ وأجبتُ: أجل... أعترف، لكن لديّ أسبابي...
طرق القاضي بمطرقتِه على الطبلِ وقال: الاعترافُ سيّد الأدلةِ... أَحكم عليكِ بتربية صغارها إلى أن تكبر، ومساندةِ شبابها إلى أن يحقق ذاته.
دخل جيشٌ جرّارٌ ينفخ في آلةٍ تشبهُ البوق.
الذكرياتُ... تولّت أشدُّهنّ وجعًا دورَ محامي الدفاعِ.
تنحنحت وقالت: سيدي القاضي، أطالب بسجنِها من دونِ ماضٍ فهي ناكرةٌ للجميل. إذا قدّمنا لها ذكرى جميلةً... بكت. وإذا قدّمنا ذكرى أليمةً... سخرت أو شتمت. وإذا...
قاطعتُها وأجبتُ: هيي أنتِ! ألا تعلمين أن الذكريات المفرحةَ تُحزنُ أكثرَ من تلك السعيدة؟
نظرتْ إلى القاضي وقالت: ما معنى ذلك، سيدي القاضي؟
أجاب القاضي: معناه أن الذكرى المفرحةَ تبكينا لأنها لم تعد موجودةً، بينما تضحكُنا الذكرى المؤلمةُ بسبب سخافتها.
صُعِقَتِ الذكرى، ولم تعرف بما تجيب. فحاولتْ أن تلاعب طفلَها لتشتّت انتباهي.
قال القاضي: بُنيّتي لينا، ما قضيتكِ مع الذكرياتِ؟
أجبتُ: تدخلني في حلقةٍ مفرغةٍ من الأحزانِ والأفراحِ: أكونُ فرِحةً، فتأتيني أبشع الذكريات وأقساها، أكون حزينةً، فتظهر أسخف الذكريات وتستفزّني... والله أبدو مجنونةً حين تزورني... ساعةً أضحك، وساعةً أبكي.
سأل محاميةَ الذكرياتِ: هل تعترفين بأنكِ ومجموعتُكِ، تشوّشين مزاجَ ونفسيةَ المتّهمةِ؟
سكتتِ الذكرياتُ ولم تجب.
فطرق بمطرقته على الطبلِ وقال: حسنًا... هذا اعترافٌ. أَحكمُ على الذكرياتِ بأن تحملَ بعضَها بعضًا بالتناوبِ طول العمرِ.
أجبتُ بامتعاضٍ: وأنا ماذا أستفيد من هذا الحكم؟
رفعَ حاجبيه وقال باستهزاءٍ: اتلَهي يا لينا... "إنتِ ما تتحركشي بالحمى حتى ما تجيكٍ البردية!"*
دخلت المخاوفُ تولولُ وتندبُ.
رفعتُ حاجبي دهشةً... وقف كبيرُهُم أمامَ الماضي.
يرتدي أوراقًا مبللةً، أسنانه مهشّمةٌ، وجسدُه مغطّىً بالكدماتِ واللونِ الأزرقِ. ضحكتُ لغرابةِ مظهرِه.
دقَّ القاضي على الطبلِ وقال: تأدبي يا بنتُ!
أجاب كبير المخاوفِ: هل رأيتَ قلةَ الأدبِ التي أتلقاها منها؟ منذ زمن انهالت عليَّ بالمكنسة، ورمتني في الحقل تتبول عليّ كلابُ السككِ.
لا دخل لي... كلُّ من في القاعة ضجّ بالضحك. لكن القاضي سرعان ما تمالك نفسه وقال: ما قضيتكَ معها أيها العجوز؟
التفت إليَّ القاضي فقلتُ: أجل... أجل... أعترف. لقد بلغتُ الخمسين، وأنا أرزح تحت نيرِ مكائدِ الدهرِ ومآسيِه، تدربتُ جيّدًا على الرقص مع أفكاري، والعيش مع أحلامي، والتحكّم بذاكرتي وذكرياتي، ومواجهةِ مخاوفي... لم يَعُدْ شيءٌ يُخيفني إلا غيابَك.
ابتسم القاضي ومسَدَ شاربيه وقال: غيابي أنا... هل أنتِ مُغرمةٌ بي يا بنتُ؟
أجبتُ: تأدبْ يا سعادتك... أليستْ ضميرًا؟... أنا أخاف من غيابِ الضميرِ...
غاب صوتُه... وسمعتُ صوتَ أمي تقول وهي تمسح على شعري: لينا... ماما لينا... استفيقي... لا بد أنّكِ كنتِ تحلمين.
جلستُ في السريرِ وقلتُ: بل كنتُ مخطوفةً!
ضحكت أمي فهي معتادةٌ على جنوني وقالت: نامي... سوف أُغطّيكِ.
*تتحركشي: تتحرشي
تجيكِ البردية: تصيبكِ القشعريرة
Images rights are reserved to their
owners
No comments:
Post a Comment