مواطنة في مدينة الخيال


مرحباً عزيزي سانتا...
هذه أنا... طفلة الخيال المشاغبة- كما قلتَ عني يوماً- الروح البريئة التي ترفض أن تشيخ.

أكتب لكَ رسالتي المنتَظَرة منذ ألف عامٍ، أتذكر!؟... قلتَ لي يومًا أنكَ نُبِّئتَ بولادة طفلةٍ مشاغِبة في زمنٍ ما، لن تتوانى عن إزعاجك في أي يومٍ خلال العام، لتسمح لها بالدخول إلى مدينة الخيال، حيث تطارد أبطال قصصها، أو تريق أشعة الشمس على وجه فارسها الحبيب الذي وعدها أن يبني لها قصرًا من أوراق حكاياتها. لكنه ما زال ينتظركَ كي تمنح حبيبته انتماءًا إلى "مدينة الخيال".

عاتبتكَ- وأنا أراقص خيلاء الصبا- فوعدتني أن تمنحني "الانتماء" إذا قفزتُ فوق كهولتي، ووصلتُ إليكَ أحمل صليب معاناتي، والطفلة في داخلي ما تزال تسكن غيمة، وتراقص العصافير في صباحات القرى.

ها أنا أكتب لكَ رسالتي وقد بلغتُ مِن النضج عتيًا، والطفلة في داخلي، ترفض أن تشيخ. فما زالت- كعهدكَ بها- تلاعب الخيال وتروِّض حكاياته.
أكتب لكَ لأخبركَ كيف مضى العمر/المسرحية، التي لعبتُ فيها دور المتفرج! ةما أصعب أن تلعب دور المتفرج على مسرحيةٍ ترويكَ كمجرد "كومبارس" في حكاية القدر.

رُفع الستارُ إيذانًا ببدء المسرحية. كانت طفلة- هي أنا- تشاهد فيلمًا مِن الرسوم المتحركة، عن رجلٍ طيبٍ يحب الأطفال، لكن الله لم يمنحه طفلاً، فقرر هو وزوجته الحنون أن يمنحا الأطفال فرحة العيد، بتقديمهما الهدايا لهم، في ذكرى ميلاد الطفل/النبي يسوع. كافأهما الله بأن أرسل جنية بعصا سحرية، لتمنحهما الخلود والقدرة على توزيع الهدايا ليلة الميلاد على جميع الأطفال في أنحاء المعمورة.
وهكذا أقيمت "مدينة الأحلام" في القطب الشمالي.

غفت الطفلة!... نزعتُ شالي الأحمر وغطيتها به.
صرخ بي المخرج/القدر: عودي إلى مكانك...

ثم... بينما أنا أحاول أن أريح رأسي المتعب مِن "لعنة الوعي"- حسب مقولة سيوران*- لمع ضوءٌ ساطعٌ في أرجاء المسرح، فرأيتُ الناس تفرُ وكأن الشيطان يلاحقهم، لا بل فعلاً كان يلاحقهم بهديره المرعب...
فاستفاقت الطفلة!... لم تعد طفلة! لقد تجاوزت الخمسين!... والمعاناة موشومة في روحها/روحي! فأنا ابنتها البارة/الثائرة، التي تلعنها يوميًا في الجهر والعلن.

لعلكَ عزيزي سانتا، تود أن تسألني "وماذا فعلتِ من إنجازاتٍ لتستحقي الانتماء إلى مدينة الخيال؟".

لم أجَنَّ... 
أنا طفلة الحرب التي أسست خزائنها في ذكريات طفولتي منذ أول طلقة رصاصٍ بين "الشياح- عين الرمانة".

لم أنكسر... 
أنا طفلة الغضب، الرافضة للتطبيع مع عدو، ينشر الرعب في أنحاء الأوطان الآمنة، يقتل ألف طفلٍ في اليوم ويقول "نقاتل الإرهاب ليعم السلام في أرجاء العالم"!!!!.

لم انتحر... 
أنا ضحيةً منظومة سياسية فاسدة، جعلتنا- كشعب- نستجدي ثمن الدواء والدفء!
واجهتُ الموت بالإيمان، وذرفتُ دموع الصبر وأنا أرى أحبائي يوارون في الثرى مع قطعة من روحي... حبيبٌ بعد حبيب.

لم أكفر... 
أنا ضحية الخيانة. خيانة القريب والغريب... خيانة النساء والرجال... خيانة الأقنعة... يـــــــــــــــا لكثرة ما شاهدتُ من أقنعةٍ تسقط.

استحق الانتماء إلى "مدينة الخيال"لأنني من أولئكَ المجانين الذينَ يغوصون وصولاً إلى أعماق المعاناة، ليعودوا قبل برهةٍ من هلاكهم وفي جعبتهم حروف ضوئية، ينثرونها كغبار النجوم، في ليالي السهر، من أفواههم ينساب نهرُ حكاياتٍ لا ينضب.

كنتُ أغوص في معاناتي، فيقال انتهت!...
لكنني كنتَ أصعد مجددًا على ظهر حورية تحملني إلى شواطئ مدينتك، حيث أركض مع الدببة... ألعب مع رجال الثلج... أغني مع العصافير... أسبح مع البطاريق... أمارس التزحلق على الجليد مع "فارسي".

ماذا تقول عزيزي سانتا...
ألا أستحق منكَ ورقة ورد، تعلنني... "مواطنة في مدينة الخيال"؟





*الوعي لعنة مزمنة، كارثة مهولة، إنه منفانا الحقيقي، فالجهل وطن، والوعي منفى. إميل سيوران








Images rights are reserved to their owners

الوشم


نفير بوق سيارة الإسعاف يصمّ الآذان، في محاولةٍ لإنذار السائقين بضرورة فتح الطريق، بينما المسعفون داخل السيارة يقومون بما يستطيعون لإنقاذ المرأة التي تصرخ من آلامها. هي واحدةٌ من ضحايا حوادث الدراجات النارية، دهسها شاب متهور يقود دراجته بسرعة فائقة، بينما تترجل من سيارة الأجرة.

قرر الطبيب الجراح أنها بحاجة لجراحةٍ عاجلةٍ. بعد حوالي الساعة، وكان قد حضر ابنها، أُدخِلت هاجر (وهو اسم المرأة الخمسينية) إلى غرفة العمليات.

اقترب منها الطبيب الجراح، بينما طبيب التخدير يحقنها بالمخدر، وقال وابتسامة تعاطفٍ تنير وجهه: هاجر، لا تقلقي... سيكون كل شيء بخير إن شاء الله.
"يا إلهي... هذا الوشم!" قالت في نفسها. ثم أغمضت عينيها تحت تأثير التخدير.

لهذا الوشم المميز حكاية من سالف الزمان، يوم كانت هاجر في السادسة عشرة من عمرها، والحرب الأهلية في أوجها.
ذات جولة قصفٍ عشوائي كانت تغادر المدرسة، رفقة الطلاب والأساتذة، والخوف غرابٌ أسود ينعق فوق رؤوسهم. اهتزّت الأرض تحت قدميها جراء انفجار صاروخٍ قريب. استفاقت من صدمتها لتجد نفسها في مكانٍ بارد، يبدو أنّه مستودع للبضائع. نظر إليها شاب بذهولٍ، إذ وجدها أمامه في لمح البصر!

قالت وأنفاسها تتقطّع: آسفة... لقد دخلتُ للاحتماء... الصاروخ....
أشار ناحية كرسي قريب وقال: لا عليكِ... اهدأي... أنتِ في أمان.
جلست، فأحضر لها عبوة ماء. نظرت إليه بينما كان يضع العبوة في يدها. على عنقه وشم مميز، قلبٌ وخطوط نبضات واسم.
قال: لا تخافي... إنها جولة قصف كالمعتاد.
تناولت جرعة ماءٍ، فاستعادت اتّزانها وقالت: يجب أن أذهب... ستقلق أمي عليّ.
أجاب: الأفضل أن تنتظري قليلاً كي يهدأ القصف.
لكنها غادرت بلمح البصر، كما حضرت، وهي تقول: أشكرك على كل شيء.

اختفت، ولم تترك مجالاً للشاب أن يرد. كان يريد أن يقول لها إنّه سيرافقها إلى منزلها.

بعد أن تحسن وضع هاجر واستقر بعد العملية، أوصى الطبيب بنقلها من غرفة العناية المشددة إلى غرفة عادية. في المساء، وهو يطمئن على صحة مرضاه قبل المغادرة، دخل غرفتها وهو يبتسم ويقول: هاجر البطلة... الحمد لله على السلامة.
ابتسمت في وجهه، بينما ابنها يقول: ماما، الدكتور كمال أجرى لكِ العملية.
ابتسمت وقالت: الوشم... الوشم على عنقك... لقد عرفتكَ....
نظر إليها متسائلاً، فذكّرته بالحادثة والملجأ. عادا بالذاكرة إلى زمان الحرب الأهلية القاسي. ثم قالت: الآن تذكرت... كان الوشم اسم جلنار مع قلب. أرجو أنّكما ما زلتما معاً.
ابتسم الطبيب بحزن وأجاب: جلنار توفيت منذ أن كنتُ طفلاً... هي أمي. وللوشم حكاية سأخبرك بها.

في العاشرة من عمري، كنتُ و الدتي على شرفة المنزل، ننعم بدفء شمس الشتاء. فجأة سقطت قذيفة قربنا، فتوفيت والدتي وأصبتُ أنا في عنقي.
بعد تعافيَّ من الإصابة، عانيتُ من صدمة وفاة أمي. كان والدي كلما بحث عني وجدني في غرفتي أمام المرآة، أخدش مكان الإصابة.
بفضل العلاج النفسي، تعلّمتُ أن أرسم أشكالاً جميلة فوق الإصابة، كي أحافظ عليها من أظافري، بعدها أصبحتُ أطلب من أبي أن يكتب بدل الرسومات اسم أمي... جلنار.
في الثامنة عشرة من عمري، فاجأتُ والدي بهذا الوشم الذي يخلد اسم أمي. استاء مني وخاف عليَّ، بحجة أنّ المواد المستخدمة في الوشم يمكن أن تكون ملوثة، ولكنني قبّلتُ رأسه واستعطفته، فاسم جلنار الموشوم فوق حبل وريدي لن يحمل لي إلا السلامة.
ابتسمت بحزن وقالت وهي تمسح دمعة عن خدها: تعيش وتتذكر.
ابتسم مجدداً وقال: تعيشي يا ست هاجر... هي ذكرياتنا الموجعة، والجميلة أحياناً. لكنها ذكرياتنا وكنزنا الدفين في كل الأحوال.





Images rights are reserved to their owners


سلالة فرانكشتاين


ذات ليلة ضجرٍ، قرأ حاكمُ الدولة العظمى، قصة ماري آشلي/ فرانكشتاين.
لكن النهاية لم تعجبه! فقرر أن يستدعي "المسخ" الذي خلقه العالِم روبرت فرانكشتاين، ليعيد له اعتباره في التاريخ بعد كل الظلم الذي تعرض له بسبب كاتبة لاهية.

استنفرت قوات الأمن والمخابرات إلى أن وجدوه. وأحضروه إلى القصر الرئاسي، بتكتمٍ شديد وسرِّية تامة.
سأله الرئيس: هل تعتقد أن العالِم فرانكشتاين قد أنصفكَ في رواية ماري آشلي؟
أجاب المسخ بحزن: لا... لقد سرقا مني المرأة، وقررا نفيِّ إلى جزيرة جليدية
لأعيش فيها مأساتي وحيدًا.
فقال له الرئيس مشجعًا: وماذا لو أعدنا لك امرأتك ووليّناكَ مهمة عظيمة؟
ذهل المسخ وأجاب: وهل ذلكَ ممكن؟
فأجاب الرئيس ضاحكًا: لا مستحيل بالنسبة لنا.
فقال المسخ بثقة: سأكون طوع بنانك، وسأنفذ أوامركَ حرفيًا.

وهكذا...
أخرجوا له امرأته حيث قام العالِم روبرت والتون بدفنها.
تزوج فرانكشتاين مِن محبوبته فرانكشتينا، وأنجبا قبيلةً من المسوخ.
رفعوا شعاراتهم باسم الدين والخلافة الإسلامية. وعاثوا في البلاد فسادًا.








Images rights are reserved to their owners


رصاصة طائشة


والزغاريد تلعلع... هوى إلى الأرض.
خط الدماءِ الوقح على الإسفلت أوضحَ ما حدث... رصاصة أصابت رأس العريس!
رصاصةٌ تُتهم بأنها طائشة، والطيش مظلومٌ إذ يُنسب إلى معدنٍ في أيدي أناسٍ أقل ما يُقال عنهم أنهم... معدومي الضمير!

العريس/الشهيد هو ناجي الشاب الثلاثيني الذي أراد أن يكون هذا اليوم مميزًا في أجندة مناسباته. يوم اقترانه بفتاة أحلامه عبير.
عبير!... العروس التي لم تكد تفرح بعقد قرانها على حبيب العمر، فها هو مضرجٌ بدمائه الحمراء، التي لونتْ فستانها الزهري، فبدلته إلى أسود الحداد.

وكم مِن رصاصٍ طائشٍ ستُحصي بعدُ... يا وطني!




 

  Image rights are reserved to the owner


مسرحية هزلية


"عجبستان" دولة عمرها سبعة آلاف سنة، تقع على شاطئ البحر المتوسط.
لطالما كانت عصية على المحتل، مِن أي بقعة من المعمورة أتى.
عدوها الأوحد، كائنٌ/مسخ احتل بقعة أرضٍ مباركة، أقام على ترابها كيانه الغاصب.
أما علاقاتها مع سائر الدول فكانت علاقات ودية، تسودها المحبة المتبادلة.

إلى أن...
قامت دولة ما زالت في طورها الجنيني في مجال التنمية، لم يتجاوز عمرها بعدُ 60 عاماً، بعقد معاهدة صُلح مع الكيان الغاصب، تفند حقوقه الشرعية والقانونية... وتضرب بسيفه!

... وفجأة ومن دون أسبابٍ معلنة، قرر حكّام هذه الدويلة قطع العلاقات التجارية بين الدولتين، لأسبابٍ واهية!
فانقطع الحليب المستورد من هذه الدولة التي لطالما اعتبرتها "عجبستان" دولة صديقة.
السبب الغير معلن (والمعروف للجميع طبعاً)... على دولة "عجبستان" أن تعترف مثلها بالكيان الغاصب، كونه صديقًا يريد مصالحنا جميعًا!
انتفض الشعب المناضل، وطالبوا الزعماء بإيجاد حلٍ لانقطاع الحليب.

فتولت فئة من المؤرخين دراسة وتحليل هذه المهزلة، وأصدروا بيانًا لشعب "عجبستان" جاء فيه:
أيها الشعب العنيد، الموجود على هذه الأرض منذ سبعة آلاف سنة، ما هذه الجارة، إلا طفل أحمق يريد أن يلعب بالتاريخ ليغيِّر الجغرافيا. نحن هنا منذ سبعة آلاف عام، قاتلنا من أجل وطننا كل محتلٍ وغاصب، ولم نسمح لأحد بأن يتحكم في رقابنا، تحت أي شعار. فهل سنسمح الآن "لدويلة هجينة" عمرها لا يتخطى الستون عامًا، أن تلزمنا بعقد صلحٍ مع الكيان الغاصب؟ وهل يستحق الحليب أن يمرِّغ أنوفنا في أوحال العمالة؟
"عجبستان" دولة موجودة منذ فجر التاريخ، وستبقى على خارطة العالم إلى نهاية الكون... ولن نصالح.


ولأنها دولة "عجب- ستان" فقد انقسم شعبها بين مؤيدٍ للصلح مع الغاصب، وبين رافض له!

وما زالت المسرحية تتنقل بين مسارح الوطن. الممثلون يرمون الجمهور بالشتائم. والجمهور... يتبادل الاتهامات.






 

 Images rights are reserved to their owners

 

فات الأوان


"لا شيء فيَّ مكتملٌ... إلا أحزاني، وشغفي بأنثى لا يليق بها النسيان".

تأوّهتْ باكيةً وهي تعيد قراءة هذه الجملة/الطعنة. كان يحدّق بها واجمًا، غاضبًا منها، حزينًا لأجلها.
قالت من دون أن ترفع نظرها عن الورقة: لمن كتبَ هذا الكلام؟
أجاب باستهزاء: وهل هذا جُلُّ همكِ الآن؟... لمن كتب هذا؟
أجابت بغصّة: طبعًا يهمني... أليس زوجي الـ...
ولم تستطع أن تكمل الكلام.
كان يغالب الدموع المحتشدة على قارعة جفنيه، أخذ نفسًا عميقًا وأجاب: لقد رحل وهو حزين.
هزّت رأسها إيجابًا، وقالت شارقةً بدموعها: لم أكن أعرف!... لماذا لم يقل شيئًا؟
اكتفى بأن وضع يده على فمه، وتأمّلها تبكي بحرقة. فماذا يمكنه أن يقول وهو يراها تبكي بعد أن فات أوان الندم!
مسحت دموعها، وتناولت رشفة ماءٍ، أخذت نفسًا عميقًا ثم قالت: أريد أن أعرف كل الحكاية... هيا أخبرني ماذا كان يجري!
أجاب: هل ستحتملين سماع الحقيقة؟
قالت بسرعة: سأحتمل... سأحتمل... يجب أن أعرف.

فقال بعد أن أشعل سيجارة: كان أخي رحمه الله هاويًا للشعر قبل أن يتعرّف إليكِ، ينظم كلماته كما ينبض قلبه، بكل صدقٍ وشفافية. هل تذكرين؟ حاول أن يقرأ لكِ بعضًا من أشعاره أثناء فترة خطوبتكما، فسخرتِ منه ومن "هوايته السخيفة" كما وصفتها، فتوقف عن الكلام عن هوايته هذه أمامكِ طوال سنين طوال... عشرات السنين، وهو لا يكتب الشعر، وكان يضع كتبه في مكان عمله، أو في سيارته، بعد أن رميتِ مجموعة كتبٍ له في سلة المهملات. وأكمل حياته معكِ بما يرضي الله.
كنتِ لا تفهمين حنانه "الزائد عن الحد" كما كنتِ تقولين! تنفرين من لمساته وتعتبرينها "ولدنة لا داعي لها"، فأنتِ دائمًا مشغولة بأمرٍ ما، حفلة عند صديقاتك، شجار بين شقيقكِ وزوجته، مرض طفلة من أطفال شقيقتك، والدتكِ حزينة وتحتاجك معها... وهكذا قضيتِ معه العمر، عائلتكِ في أعلى مرتبة، يليها أولادكِ ومنزلك، أما هو... فكان آخر اهتماماتك.
لم يخبرني تفاصيل علاقةٍ أنتِ أدرى الناس بها، خاصة أن فيها من الأسرار الزوجية الكثير، لكنه لخص حياتكما معًا بجملةٍ فيها كل الحكاية، إذ قال لي"كنا هي وأنا نعيش على كوكبين مختلفين، أحيانًا كنت أخالني بالنسبة لها شبحًا، أو صرافًا آليًا في أحسن الأحوال".

بكت بحرقة... فتابع: لم تحتويه... عشتما فردين في منزلٍ واحد، ولم تكونا يومًا شريكين في الحياة. كان يعيش من أجل ولديه التوأم، هما فقط كانا سبب بقائه حيًا. وعندما أصيب بالمرض العضال، كان يقاوم من أجلهما.
كنت أزوره فلا أجدكِ في المنزل، كان وحده يعاني آلامه أحيانًا، أولاده يعتنون به، وأنتِ تحضرين حفلةً بمناسبة ومن دون مناسبة، فقررت أن أعلمه استخدام الإنترنت. دخل عالم المدونات وصفحات التواصل الاجتماعي، هناك بدأ يخرج من قوقعة أحزانه وآلامه. كان يكتب أشعاره ليجد حوله عشرات المعجبين بسحر كلماته.

باختصارٍ، لقد أحبها. كانت تشبهه في رهافته، في جنونه، في هواه الأدبي وفي نزقه الشعري. لكنه لم يرِد أن يتخلّى عنكِ ويدمِّر منزلاً يحوي ولديه المراهِقَين، وهما أحوج ما يكون إليه، تركها تنفصل عنه لأجلك.
لكنَّ قلبه المرهف لم يحتمل الحزن وهي بعيدة عنه، فتوقّف تلك الليلة رافضًا أن يعود إلى الحياة على الرغم من جهود الأطباء. فماذا كانت النتيجة؟
تلوّت بألم، فتابع: لم تتنازلي وترافقينا إلى ربوع الوطن لندفنه حيث أراد، في تراب قريته. لماذا؟... لا يهم. المهم أننا واريناه ثرى القرية وتركناه في أحضانها، حيث سيجد راحته الأبدية.
وأكمل ليؤلمها أكثر: وماذا بعد؟... بعد أقلّ من ثلاثة أشهرٍ خلعتِ الأسود، وتزيّنتِ.
فصرخت: قالوا لي...
أسكتها بحركة من يده وقال: لا يهمني ما قالوه... أنتِ زوجة ناكرة للجميل، لطالما كنتِ لأخي الحبيب نكد حياته.
أطفأ سيجارته بعنف في المنفضة، وتابع: لن أبوح بكلمة لأحد عما دار بيننا... أما أخوتي وأنا، فسنكون دائمًا سندًا لولديه ومعهما.




Images rights are reserved to their owners


 

 

في ضيافة الشيطان

 
لكثرة ما لعنتُ الشيطان... خطفني!
كان ذلكَ بعد معركة حامية الوطيس شهِدّتها على محطة البنزين، بين مجموعة شبانٍ على أفضلية التقدم، والسيارات تصطف رتلاً يمتد طوله أكثر من كيلومتر!

ابتعدتُ عن المكان وأنا أشتم وألعن الشيطان، ألن تنتهي ألاعيبكَ بنا أيها المطرود من رحمة الله!؟
لم أحصل على وقود لسيارتي!... طبعًا لم أحصل، أنا لا أملك سيارة أساسًا، كنتُ أمرُّ من هناك صدفة.

فجأة!... وجدتني في مكانٍ غريبٍ مرعب!
غابة كثيفة الأشجار، والليل حالك الظلمة. في الأجواء هسيسٌ مخيف، لم أفهم كنهه، وكأنه عويلٌ من جهنم، أو تراتيل مخلوقاتٍ شيطانية.
أين أنا؟... نظرتُ حولي، كانت ضربات قلبي وكأنها قرع طبول، وفي حلقي صحراءٌ جافة. حتى الدموع لم تسعفني!
أغمي عليَّ... بعد أن سمعتُ صوتًا!... استفقتُ ورائحة الكولونيا في أنفي... كنتُ بين يدي رجلٍ وسيم أنيق تفوح منه رائحة عطرٍ مميز، لم يسبق لي أن شممتُ مثيلاً له.
ناولني كوب ماءٍ وهو يبتسم... ثم قال: هوني عليكِ أنتِ في أمان ولا داعي للخوف.

بدأتُ أهدأ عندما لاحظتُ وجود امرأة معه، هي أيضًا كانت رائعة الجمال.
أجلستني على بساطٍ سميك، وناولتني قطعة من الشوكولا، ابتسمت وقالت: يبدو أن الرعب قد جفف عروقك، سيساعدك السكر على استعادة لون وجهك.
تناولتها بهدوء، ثم نطقتُ أخيرًا: أين أنا؟ ومَن أنتما؟
ابتسم الشاب وقال وفي عينيه وميض: أنتِ في مملكة الشيطان.
ضحكتُ للطرفة... ضحكتُ إلى أن سالت دموعي وأصابني السعال.
ثم قلت: حلوة منك... لم يسبقكَ عليها أحد. يبدو أنكَ رائق البال، وتريد أن تتسلى بي.
أجابت المرأة: صدقيه عزيزتي فهو إبليس وأنا الشيطانة ليليث. ألم تسمعي عنا!؟
ضحكتُ مجددًا، فهدر الرجل بصوتٍ أصابني بالخرس، ثم قال: توقفي عن الضحك، لسنا هنا لتسليتك.
ازدرتُ ريقي وقلت: هل تقسمان بالله أنكما لا تتلاعبان بي؟
أجاب الرجل بابتسامة خبيثة: شيطانٌ ويقسم بالله!!!
انتحبتُ وقلت: مَن أنتما وماذا تريدان مني؟... فدية؟... عائلتي تحت خط الفقر، و...
قاطعتني المرأة وقالت: لا نريد فدية من أحد، وإن وافقتِ سوف نعطيكِ ثروة.
خدرٌ غريبٌ تغلغل في شراييني، فوجدتني أستسلم للعبة.
فقلت: حسنًا... صدقتكما... فماذا تريدان مني؟
أجاب الرجل: أحضرتكِ إلى هنا لأقدم لكِ الدليل على أنني بريءٌ من أفعال البشر، فهم مَن يوحي إليَّ بما يريدونه من خططٍ ومؤامرات!
ضحكت بسخرية وقلت: شيطان وتريد أن تقنعني أن البشر هم مَن يوحون إليكَ بشيطنتهم!؟
أجاب بهدوء: أجل... ويجب أن تقتنعي.
أجبتُ باستسلام: حسنًا... موافقة أقنعني، المهم بسرعة كي أعود إلى المنزل قبل أن تقوم عائلتي بالإبلاغ عن اختفائي.
ابتسم بارتياح وأجاب: لا تقلقي بهذا الشأن.
ساعدتني ليليث على الوقوف، لنبدأ في رحلةٍ داخل الغابة.
سألني بيلي (طلب مني أن أناديه بهذا الاسم): من أين تريديننا أن نبدأ؟
أجبت بتصميم: من انفجار مرفأ بيروت.

اصطحبني إلى مبنى ضخم، فيه عشرات الموظفين، شاشات كومبيوتر ضخمة- شاشات تلفزيون- أجهزة تنصت- أجهزة بث وإرسال...
يا إلهي... ما هذا؟ سألتُ بقلق.
أجاب بيلي: هنا مركز مخابراتنا... نستخدمه حاليًا لنعرف مَن المسؤول عن هكذا انفجار!
فقلت بحماس: إذن؟... مَن فعلها؟
استاء بيلي ومعه ليليث!... وقالت الأخيرة: والله لم نعلم حتى الآن مَن المسؤول، فكلما دخلنا إلى عقل أحدهم، أحالنا إلى مئة عقلٍ غيره!
صرخت: لكنكم أنتم مَن وسوس لهم بهذه الفعلة، فلمن وسوستم؟ وفي عقل مَن رسمتم هذه الكارثة؟
تفت ليليث في صدرها كما تفعل الجميلات في مصر الحبيبة وأجابت: معاذ الله أن نوحي لشخص بهكذا كارثة، منتهى قدراتنا أن نوسوس لشخص أن يضرب الآخر أو يُطلق عليه النار، لكن أن يبيد مدينة!!!!... لا وألف لا، هل انعدم ضميرنا إلى هذه الدرجة!!!

بكيتُ... ثم ضحكت بهستيريا... ثم بكيت بتفجع... ثم ضحكتُ...
صفعني بيلي وقال: اهدئي... هل ستنهارين الآن؟... لم نبدأ بعد.
وصلنا إلى صالة تمتد كمدينة، تحيط بها شاشات ضخمة، تعرض ما يشبه البورصة... و... فجأة رأيته!... كان يعطي محاضرةٍ عن المال والاقتصاد.
صرخت: هذا؟... انه...
ضحك بيلي وأجاب: فوجئتِ؟...
شتمته أعني المُحاضر وقلت: وماذا يفعل هنا!؟
أجاب بيلي: هذا أقدم أساتذة الاقتصاد هنا.... بروفسور في نهب الخزينة وإفلاس الدول.
حاولتُ أن أحلل الموضوع في عقلي... (هذا ال....) يعلم الشياطين؟... أم الشياطين يعلمون أمثاله؟
أغمي عليَّ... رشتني ليليث بعطر جميل الرائحة، استفقت وقلتُ بغصة: متى تنتهي هذه الرحلة ؟!
قالت بحزم: لا... ما زال أمامك الكثير لتريه.

أخذتني إلى مكانٍ أشبه بمنتجع أو "سبا" كبير جدًا، نساء... نساء... آلاف النساء... أزياء... عطور... مكياج... اكسسوارات... وكل ما له علاقة بالنساء!
شتمتها وقلت: هنا تم إعدامِ المودة الزوجية، وقتل قيم العائلة بدمٍ بارد.
أجابت وعلى ثغرها ابتسامةٌ ساخرة: لم نفعل سوى أن علمنا النساء بعض الخدع لتصبح أجمل في عين الرجل.
أجبتُ باستياء: لكنكِ علمتها التمرد على الرجل!
أجابت: لا... هي علمت نساء جنسها التمرد، ها أنا مطيعة لبيلي الحبيب إلى الأبد.
أرسل لها قبلة في الهواء.

حملني بيلي بين ذراعيه كما يُحمل "شوال البطاطا"، وأوقفني أمام!... ما هذا!؟... لم أفهم... على عرشٍ عرضه صفحة السماء، يتربع الدولار و... ما هذا؟! سألتُ بيلي.
أجاب الأخير: الدولار...
يبدو أن ملامح وجهي كانت مضحكة، فليليث ضحكت بطريقة هستيرية وهي تقول: يا لها من طفلة ساذجة... هبلة... هبلة...
بكيتُ بسبب التنمر، فربت بيلي على كتفي وقال: هي تمازحك لا تبكي. يا عزيزتي ما ترينه هو معبد لعبادة المال... وعلى العرش فوق توجنا الدولار.
كفكفتُ دموعي وسألته: وماذا تفعل هذه الجموع الساجدة تحت أقدامه!؟
أجاب بيلي: تقدم فروض الولاء والطاعة.
قلت بدهشة: للمال!؟
دهِش بدوره وقال: لا تقولي انكِ فوجئتِ!؟... فأين تعيشين أنتِ؟
أجبتُ بإحباط: حسنًا... طبعًا عبادة المال هي دين العصر. لكن!... هل من أساليب أخرى للنهب تعلمهم إياها؟... ثم تدَّعي انك بريء من أفعالهم!
ابتسم باستهزاء وأجاب: وغضبتِ من ليليث حين نعتتكِ بالهبلة!... يا صغيرتي هم يأتون إليَّ، يضعون أمامي كل المعطيات التي بين أيديهم لنهب الأموال، أنا فقط أفتح لهم الطريق وأضع لهم ثغراتٍ يدخلون منها لإعطاء المشروعية لنهبهم المنظم.
جلستُ على الأرض "أبحت" كما يفعل طفلٌ لم يُستَجَب طلبه وقلت: لم أعد أحتمل... أعيدوني إلى أمي... أعيدوني إلى منزلي...
قال بيلي: بقي أمرٌ أخير أريدكِ أن تريه.

اصطحبني إلى ما يشبه ملعب كرة قدم، مساحة لا نهاية لها، أطفالٌ من جميع الأعمار، والألوان والأعراق... بنات وصبيان، يبكون ويلعنون كلما ظهر على شاشة السماء صورة زعيمٍ عربي... من أكبر ملكٍ إلى أصغر مسؤول حكومي...
أشرتُ إلى ما أرى أسأل دون كلام، فأجابت ليليث: إنهم أطفالي الأحباء، يلعنون كل مَن يشارك في قتل وظلم الأطفال حول العالم.
نظرتُ إلى بيلي وقلت: ألستَ أنتَ مَن تزين لهم الحروب واحتلال الدول، وقتل البشر!؟
أجاب: هل رأيتِ يومًا شيطانًا يقود طائرة حربية؟!... هل سمعتِ يومًا عن مملكة يحكمها شيطان، قامت باحتلال مملكة شيطانية أخرى!؟
نحنا منذ خلقنا الله نعيش في سلامٍ فيما بيننا. نخرج إلى دنيا الإنس لنقوم بعملنا، فمن استدعانا لبيناه، ومَن حاربنا بآية الكرسي كفيناه شرنا.
أغمي عليَّ...

عندما فتحتُ عيني، وجدتني في غرفةٍ بيضاء. ابتسم شخصٌ في وجهي وقال: الحمد لله على السلامة.
وضعتُ يدي على رأسي المتألم وقلت: أين أنا؟
أجاب الرجل: أنا الدكتور يوسف، أنتِ في المستشفى، لقد تلقيتِ ضربة على رأسك وأنتِ تمرين أمام محطة البنزين، هل تذكرين؟
أجبت: لا... لا أذكر... فقط أذكر إنني كنتُ مع الشيطان في رحلة.
ضحك الدكتور وأجاب: الفكاهة دليل تعافي... الحمد لله على سلامتك... سوف أنادي عائلتك.

 

 

 Images rights are reserved to their owners

 

 


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بعد موت الكاتبة


ماتَتِ الكاتبةُ... فتاه أبطالُ حكاياتها في أروقة النهايات.
هذه خلاصةُ قراءتي لمسودةِ قصةٍ كانت تكتبها هديلُ قبل وفاتها.
فمن هي هديل؟...
هديلُ أنثى خُلقت في محبرةٍ، فكانت نقطةَ حبرٍ كونية، في عقلها نبعُ حكاياتٍ لا ينضبُ.
عرفتها خلال دراستها الجامعية، عندما زارتني للمرةِ الأولى في دارِ النشرِ، يسبقها عطرُها وثقتها بنفسها، متأبطةً ملفًّا أحمر اللون فيه كتاباتها، لم يكن اختراعُ الكمبيوتر قد عُرف بعدُ. قدَّمته لي وعلى ثغرِها ابتسامةَ الأقحوانِ، وفي عينيها... حقلُ قمحٍ.
عشقتها... ولم أبحْ لها...

أنهتْ الماجستيرَ تزامنًا مع ولادةِ أولِ مجموعةٍ قصصيةٍ لها.
أقمتُ لها -برعايةِ دارِ النشرِ طبعًا- حفلَ توقيعٍ لإطلاقِ كتاباتها وتعريفِ مجتمعِ الكتَّابِ إليها.

قبل ختامِ الحفلِ، طلبتُ يدها للزواج... فكانت هي عرسُ الأدبِ وعروسه.
أنجبت لي مازن الحبيبَ، نسخةً مختلفةً عنا كلانا، هو فارسُ العلوم بامتياز، أنهى دراسته الثانوية في لبنان، وحمل طموحه إلى بلاد الاغتراب.
أكتب هذا ودموعُ القلب تشارك دموعَ العينِ في التفجّع، فحبيبتي هديل أحبها الله فاستعادها... لا عجب، فهي ملاكٌ مكانه السماءُ.

ذات ليلةٍ من شهر نيسان/أبريل، وبعد سهرةٍ عامرةٍ مع ولدي مازن العائد في إجازة إلى الوطن، زارتني في الحلم، كانت ترتدي الأبيض كما لو أنّها ملاكٌ. عاتبتني لأنني أهملتُ كتاباتها وأبطالَ حكاياتها! وقالت قبل أن تغيب عن ناظري: أبطالُ حكاياتي في عهدتكَ الآن...

استفقتُ وما زال عبيرُ عطرها يتضوع في الغرفة.
تلك الليلة تحديدًا قررتُ أن أفتحَ اللابتوب خاصتها، وكانت تلك المرة الأولى التي أقحم فيها نفسي بخصوصياتها.
أشغلته وانتظرتُ... نورٌ ساطعٌ أضاء عتمَ الغرفة، ثم!.. يا إلهي ما هذا؟!
وجهُ رجلٍ في الشاشة تنفس الصعداء وقال: أخيرًا... كدتُ أموت اختناقًا.
نظر إليَّ وكأنه استهجن وجودي وقال: لكن!.. من أنت؟
كادت المفاجأةُ تقضي عليَّ، كنتُ على وشك الموتِ رعبًا... ربتَ مازن على كتفي وقال: اهدأ يا أبي... لا تخف... لقد سبق أن طورتُ اللابتوب لأمي...
أعطاني كوبَ ماءٍ وقال للرجل في الشاشة: حسنًا يا عزيزي... من أنت؟
أجاب الشاب: بل من أنت؟... وأين هديل؟
شتمته وقلت: وما شأنك بزوجتي؟... من أنت؟
جلس الشاب على حافةِ الشاشة وقال بهدوء: اهدأ يا رجل... فهمت الموضوع بشكلٍ خاطئ، هديل كانت تكتب قصتي وتركتني في... المتاهة... أين هي؟
بكيت وأنا أقول: لقد توفيت...
صعق الشاب وأجاب: لا!... لا يمكن أن أصدق!... متى حصل ذلك؟
أجاب مازن: منذ ستة أشهر...
ضرب الشاب رأسه وأجاب: وماذا سنفعل نحن في المتاهة؟... فكلنا ينتظر هديل لترسم لنا سبيلَ الخروج!؟
نظرت إلى ولدي مازن وقلت: أصبحت عجوزًا خرفًا أليس كذلك؟... فهذا الشيء ليس إلا وهمًا أراه وحدي؟
ربت مازن على رأسي وأجاب بحب: بل أنت في كامل قواك العقلية يا أبي، وهو فعلاً موجود وأنا أراه وأسمعه مثلك تمامًا.
تابع موجّهًا كلامه للشاب في الشاشة: حسنًا... هل يمكن أن تشرح لي ما هي هذه المتاهة؟ وما شأن أمي الحبيبة بها؟
ابتعد الشاب عن الشاشة وأشار بيديه الاثنتين وقال: انظر لترى...
تمددت الشاشة أمامنا كما لو أنها سجادة ضخمة، فبانت لنا عليها متاهة عملاقة، في داخلها بضعة أشخاص!

أكمل الشاب: نحن مجموعة أشخاصٍ كانت هديل تكتب حكايتنا، ولكنها لم تنهِها... وإن لم تصل هذه القصة إلى خواتيمها، فلن يجد أي منا طريق الخروج من هنا... سندور في المتاهة إلى الأبد.

بعد حديثٍ غرائبي، بالكاد كنت أستوعبه، كان عليّ أن أجد نهاية للقصة، كي يخرج الجميع من المتاهة. بشرط!... أن تكون النهاية أقرب ما تكون لأسلوب هديل وقناعاتها في وضع النهايات!
لم أفهم جدوى ذلك... ولم أفهم كلّ ما كان يحصل، لكنني أردت مساعدة رامي وهذا كل شيء.

وهكذا بدأنا:
كتبت هديل...
مساءَ يومٍ قارص البرودة من شهر ديسمبر/كانون، وكان قد مضى أسبوع على وفاة شقيقتي الصغرى هاجر. سلمني زوجها اللابتوب الخاص بها ومعه مظروف كُتب عليه "إلى شقيقي..."
داخل المظروف ورقة بيضاء... "وأنت وحدك من يُسمح له بفتح اللابتوب... الباسوورد هو...".
كان زوجها مذهولًا، وكأنه منوم مغناطيسيًا. أحزنه أن يرى خط يدها للمرة الأولى (هو فعليًا ليس خط يدها، فأنا أعرف خطها جيدًا)، وكأنها لم تكن زوجته هو!
قال مستاءً: ما معنى ذلك؟... ما معنى أن...؟
أخفيت قلقي من الموضوع وأجبت بهدوء: أنت تعرف أنها كانت تطلب مساعدتي في كل ما له علاقة باللابتوب ومشاكلها في استخدامه...
فقال: على العموم ها قد أحضرت لك اللابتوب كما أرادت هي... و...
توقفت هديل هنا عن الكتابة.
فسألت الشاب: حسنًا يا بني، من أنت زوج هاجر أم شقيقها؟
فأجاب: أنا زوجها، وكنت أريد أن أعرف ماذا عليَّ أن أفعل؟ لماذا لم تكن زوجتي تثق بي؟!
حككت رأسي وقلت: حسنًا أنت وحدك من يعرف لماذا؟ ألم تكونا على وفاق؟
أجاب الشاب: لم تكن هديل قد وضعت بعد شكلًا لعلاقتنا!
فقلت: حسنًا... فلنحاول معًا...

حسب معرفتي بزوجتي، فهديل لا يمكن أن تكتب شيئًا لا قيمة سردية له... مثلاً... زوجتك وثقت بشقيقها فقط وأعطته كلمة سر اللابتوب... هذا معناه أنها لم تكن تثق بك!... أو أنها كانت تخفي عنك أمراً.
أجاب بسرعة: لكن زوجتي كانت تثق بي جدًا، فأنا كنت أستاذها في الجامعة.
قاطعنا مازن وقال: لحظة... أمي هنا كتبت على هامش قصتك أنك ستزور طبيبًا بعد شهر!
أجاب الشاب: لم أكن مريضًا.
فقلت: دعنا نجرب يا بني... استعد للخروج من المتاهة.
استعد الشاب، فتابعت: زرت طبيبًا لأنكما لم تنجبا بعد...
ازداد توغل الشاب في المتاهة، وقال مستاءً: لا... ليس هذا!
قال مازن: زرت طبيبًا كي تطمئن على صحة والديك...
لم يتحرك الشاب... فحرَّك رأسه مستاءً.
فجأة خطرت لي الفكرة فقلت: هديل كانت تقرأ كثيرًا في علم النفس، فلعلك كنت تحتاج طبيبًا نفسيًا.
تحرك الشاب من مكانه، وكأن يدًا نقلته إلى جهة أخرى من المتاهة، جهة أقل تعقيدًا.
صفق بفرح وقال: هيا... هيا يا سيد، حاول بعد، لعلنا اقتربنا.

لكننا لم نعرف النهاية إلا بعد يومين... فجأةً عرفت السر!
لم تكن زوجة الشاب متوفاة!
وجدت في زاوية معتمة من المتاهة امرأة شابة قد تلقت ضربة على رأسها!
عندما سألتها عن هويتها قالت: أنا هاجر زوجة خالد... المعتوه ضربني على رأسي... وها أنا...
نظرت إلى يديها وتابعت: لقد جمد الدم في شعري.
سألتها مجددًا: ابنتي أخبريني ما الذي حصل؟
نظرت إليَّ بتساؤل وقالت: من أنت؟ وأين هديل؟ لماذا تركتني وأنا في هذا الوضع؟
ضربت على رأسي وقلت: وهل أنت أيضًا تحتاجين إلى نهاية كي تخرجي من المتاهة؟

حسنًا، فهمتم بالتأكيد. هاجر كانت زوجة خالد بطل هذه الحكاية.
إذن، فلنحاول مجددًا...
جمعتهما بعد أن أفهمت الزوجة ما يجب عليها أن تفعل، وقلت: هيا يا ابنتي أخبريني ماذا حصل في تلك الليلة؟
أجابت: حسبما أذكر كان عليَّ أن أواجه خالد لأخبره أن صديقه المزعوم لا وجود له!... وأنه واهم!
صرخ بها: لا لم أكن واهماً... فقد كان صديقي معجبًا بك جدًا، ويحسدني لأنك تزوجتني.
نظرت إلي وقالت: أَرَأَيْت!؟ ألم أقل لك إنه معتوه!
سألها مازن: اللابتوب يا هاجر... لماذا أرسلت اللابتوب لشقيقك؟
أجابت هاجر باستنكار: لم أرسل شيئًا لسامر!
وهكذا كان علينا أن نبحث عن الشقيق.

وجدناه بعد أسبوع، كان عائدًا من دولة أجنبية حضر فيها مؤتمرًا طبيًا.
لا داعي لتكرار المكرر، هو أيضًا طالب بإخراجه من المتاهة.
عندما أخبرناه بما حصل صاح بأسى:
المعتوه أما زال يعذبها بخيالاتك؟ أحضر لي اللابتوب خاصتها وادعى أنها توفيت -لا سمح الله.
صرختُ أنا بفرح: إذن... خالد أنت كنت مريضًا بالوهم، وكان عليك أن تزور طبيبًا نفسيًا!
تحركت جدران المتاهة، فانضم سامر إليهم، قبّل شقيقته وقال:
عرفت أنه معتوه! فهديل عندما ذكرت خطوط شخصيتكِ لم تذكر موتك!
ما زال بعض الأشخاص متفرقين في الزوايا، لكن بعض جدران المتاهة بدأت تختفي...
صاح خالد: هيا... هيا... لم يبقَ الكثير... فكر بعد يا سيد...
قلت: أبلغت هاجر مستشفى المجانين عن زوجها المريض!
قالت هاجر: هديل لم تكن لتقول عن مستشفى الأمراض النفسية أنها مستشفى للمجانين.
قال مازن: حسنًا هاجر، كنت ستتصلين بطبيب في المصحة ليجد لكِ حلاً مع زوجك المريض!
أيضًا لم يتحرك أحد... فقلت لسامر وقد هدني التعب:
عندما أحضر لك اللابتوب، عرفت أنه لا شك يهذي، فشقيقتك لم تمت... لذا...
بدأت الجدران من حولهم تتحرك... فتابعت: لعلك أغلقّت عليه باب الغرفة، لتتصل بإسعاف المركز الطبي!
لم يتغير شيء في خارطة المتاهة. لكن سامر لمح من بعيد امرأة كانت تنام في "الريسايكل بن"... صاح بها: ريمااااااااااااا...
استفاقت بصعوبة وأجابت: أخيرًا عادت هديل، اعتقدتها نسيتني في...
نظرت إلينا باستغراب وقالت: من أنتم؟
صرخت بذعر: لا يا إلهي!... ليس مجددًا...
أبعدني مازن عن الشاشة وقال: استرح أبي ودعني أحاول مساعدتك... توجه بكلامه إلى ريما وقال: سيدتي الفاضلة، هلا أخبرتني رجاءً، ماذا كنت تفعلين في الحاوية؟
أجابت: كن مؤدبًا معي أيها الشاب... أنا كنت في "الريسايكل بن"، هناك فرق.
قال بتهذيب: آسف سيدتي، سامحيني رجاءً... ماذا كنت تفعلين في "الريسايكل بن"؟
أجابت بغضب: فجأة جُنّت هديل ورمتني هناك، لكنها قبل غيابها الطويل وعدتني أن تعيدني إلى الحكاية.
أجاب مازن بسأم: وما كان دورك؟
حكت رأسها مفكرة وأجابت: أعتقد أنها أرادتني أن أحضر العصير للضيف... خالد أقصد. هذا المعتوه لطالما زارني في الصيدلية وطلب أدوية غريبة لا يجب أن يتناولها.
هنا صرخت أنا متدخلًا: إذن كنت صيدلانية وتعرفين بتركيب الأدوية؟
أجابت بسأم: أجل... ولم الاستغراب!؟ ألا أشبه...
قاطعته مازن وقال: لا... لا... لم يقصد هذا... هو يقصد أنكِ صيدلانية، وقد طلب منك زوجك إحضار العصير لخالد؟
أجابت: نعم... هذا قبل أن ترميني هديل في ال...
أجاب رامي: في "الريسايكل بن"... فهمنا. لكن أمي أرادت إعادتك؟
قالت المرأة: إذن أنت ابن هديل؟... يا لك من شاب جميل.
صعق زوجها وقال: ريما... ما رأيك أن أعيدك إلى الحاوية؟
ضحكت المرأة وأجابت: إن لم أخرج أنا من الحاوية، لن تخرجوا جميعكم من المتاهة!
قلت قبل أن يحتد النقاش ونخسر الوقت: إذن أنت وضعت منوّمًا في عصير خالد؟
أجابت: ربما...
تحركت جدران المتاهة، ولم يبق إلا مخرجين، وراء أحدهما ينام شاب وفي يده هاتف جوال... وشاب آخر ينام داخل الإسعاف!
أخذت زجاجة الماء البارد من أمامي، ورشقتهما به. استفاقا مذعورين، صرخ الشاب داخل الإسعاف: هل حان الوقت... هيا... أنا...
نظر إلى رفيقه ثم نظرا معًا إلينا وقالا بصوتٍ واحد: من أنتم؟

بعد جهد جهيد، وصدّ ورد، فهمنا الحكاية.
الشابان كانا طبيبًا نفسيًا وسائق إسعاف، مستعدين لتلقي هاتف... ليحضرا المريض إلى المركز!
لكن!... هاتف من؟... من كان سيتصل بالطبيب النفسي؟
قال مازن: طبعًا الدكتور سامر!
لا... لم يتحرك شيء.
أكمل وقال: إذن أنتِ ريما كنت ستتصلين بالطبيب، فهو كان ينتظر اتصالك!
أيضًا لم يتحرك شيء.
قلت متعبًا وبالكاد يُسمع صوتي: هاجر اتصلت بالطبيب.
هيا... هيا... لم يبق إلا القليل. صاح سامر.
فقلت: كانت شقيقتك تعرف بمرض زوجها، وسبق أن حدثتك بالموضوع...
سمعنا أصوات جدرانٍ تتباعد قليلاً...
تابعت متوجهًا إلى هاجر: سيدتي أنت لاحظت أن خالد قد أخذ اللابتوب خاصتك...
الجدران تبتعد أكثر فأكثر عن المجموعة... فصرخت هديل: أجل... أجل... أكمل، أرجوك...
فقلت: اتصلت بشقيقك وأخبرته. ولأنه لم يكن يصدقك مسبقًا فقد صُعق بفعلة خالد.
بقي جدار واحد لم يفتح في المتاهة، فصرخ خالد: تابع... أرجوك تابع...
فقلت: لكنك كنت قد أخبرت ريما وصدقتك... وهكذا... ريما وضعت منوّمًا في العصير... وأنت اتصلت بالطبيب...
بدأت بقية جدران المتاهة تتباعد فقال مازن: كان الطبيب النفسي قريبًا لك سيدتي...
توقفت المتاهة عن التحرك! فقلت فورًا: لعله كان زميل دراسة؟
فُتحت جدران المتاهة، وعمّ النور.

تنفس الجميع الصعداء، ورقصت هاجر والطبيب النفسي فرحًا. أما خالد فقد قفز إلى موقع يهتم بعلم النفس.
ريما ركضت بعد أن لاحظت صفًا طويلًا من البشر يقف أمام باب الصيدلية.
أما سامر فقد حيانا بلباقة وقال بلهجةٍ آسفة: الكورونا!!!!... كونوا على حذر.
ودخل في الإسعاف إلى جانب السائق.

قلت لمازن: أنا متعب جدًا... وأريد أن أنـــــــام.
قبّل رأسي وقال: اذهب للنوم أبي، وأنا سأتكفل ببقية ملفات أمي.










 Images rights are reserved to their owners