والدي ما أروع قلبك

 
يوم توفيت والدتي الحبيبة، لم يكن والدي قد تجاوز بعد الأربعين من عمره، وكنتُ أنا ولده البكر، وقد تجاوزتُ للتو سنواتي الخمسة عشر، أما شقيقي الأصغر فقد كان في العاشرة من عمره.
توطدت علاقتنا بوالدنا كثيرًا، فقد أصبح بالنسبة لنا الأم والأب معًا. كل هذا ولم نكتشف سوى متأخِرَين جدًا أننا كنا نحمِّله فوق طاقته، وأننا تعاملنا معه بأنانية جمة، لا بل أننا تمادينا في إيلامه، أنا خاصة، لدرجة أننا حرمناه من الهناء وراحة البال. كل ذلك وهو لا يشكو ولا يتذمر بل يأخذنا باللين والعطف والدعاء بأن يهدينا الله إلى ما فيه هدوء حالنا وحاله معنا.
أمضينا عامًا في حداد على والدتي، ووالدي يعتني بنا، ويؤثرنا على راحته الشخصية.
 بعد مضي عامين على وفاة والدتنا، بدأنا نسمع من جدتي كلامًا جديدًا لم نستوعب كنهه فورًا. كان الكلام عن وحدة والدي وعن ضرورة وجود امرأة في المنزل، موضوع رفضه عقلي الباطن لدرجة أنني أقنعتُ نفسي أن جدتي بالتأكيد تريد القول بأن على والدي أن يُحضر خادمة لتُعنى بشؤون المنزل، لأنها هي أصبحت عجوزًا ومتعَبة.

دعانا والدي إلى تناول الغذاء في مطعمِ نختاره نحن على ذوقنا، بمناسبة انتهاء العام الدراسي الذي أنهيناه، شقيقي وأنا، بنجاح. أمضينا نهارًا رائعًا برفقة والدي الذي فاجأنا بهدايا رائعة.
عدنا مساءًا إلى المنزل سعداء سكارى بالفرح، فطلب منا والدي أن نعقد اجتماع عائلي كي نتباحث في أمر هام.

لن أدخل في تفاصيل اللقاء والأحاديث التي جرت، لكنني سوف أختصر لأقول أن والدي قد شاورنا بأمر زواجه! صعقني الخبر وشل تفكيري.
بعد استيعاب الصدمة، رفضت، وقدمتُ كل الحجج الممكنة لتبرير رفضي، لكنها لم تقنع جدتي، التي أصرت على أن والدي ما زال في ريعان الشباب وأنه بحاجة لامرأة.

كنت في ذلك الوقت قد بدأتُ أكوِّن أفكاري الخاصة عن العلاقة الحميمة بين رجل وامرأة، لكن ذلك لم يكن كافيًا كي أفهم ماهية الحاجات الجسدية والروحية لرجل أربعيني في عنفوان شبابه. فقد رفضتُ زواجه وآلمته كثيرًا بتصرفاتي وكلامي، لكنه كان كدأبه دومًا، والدًا عظيمًا ذا قلبٍ مفعمٍ بالحب والتسامح، فقد أصرّ على محاورتي والتأكيد لي بأنه سيبقى إلى الأبد والدنا وأن لا إنسان ولا شيء سوف يبعده عنا.
فوافقتُ أخيرًا لأجله هو، فقد كنتُ أحبه وأريد أن أرضيه.

أتت المرأة الغريبة إلى المنزل، فوضعتُ بيني وبينهًا حاجزًا كبيرًا منذ اللحظة الأولى، ولم أسمح لها بتخطيه مهما حاولتْ.

وها أنا اليوم أعترف بأنني قد أتعبتها جدًا، فقد حاولتْ المسكينة المستحيل كي تزيل هذا الحاجز، لكنني كنتُ أمعِنُ في إيذائها وفي إيلام والدي، لكن لا والدي ولا هي، وأشدد على كلمة، ولا هي، قد عاقباني يومًا على ما أفعل أو أقول، بل كانا يحتويان الموقف بكثير من الحكمة والتروي، إلى أن أهدأ قليلاً، فيسير المنزل هادئًا فترة من الوقت الى أن أجن مجددًا فأعاود إثارة المشاكل... 
وهكذا مرت السنوات.

أنا اليوم في الأربعين من عمري، متزوج ولي أولاد، وأعيش حياةً أشبه بالجحيم، فزوجتي امرأة أنانية ومستهترة لا هم لها إلا المال... ثم المال. كانت شراكتنا الروحية والعقلية معدومة، فهي في عالم تفاهة التسوق ومعاهد التجميل وأنا في عملي واهتماماتي الأدبية.
ماذا يبقيني معها؟!... طبعًا الأولاد.

الآن فهمتُ حاجة الرجل لأن تشاركه امرأة في أدق تفاصيل حياته، امرأة تمنح من روحها، وتنشر الدفء في الزوايا والحرارة في القلوب.
الآن فهمت أن الأولاد أهم جزء في مشاعرنا، لكن الرجولة فينا لا ترويها سوى امرأة تجيد فن التحاور مع حاجاتنا ومتطلبات إنسانيتنا ورجولتنا.

أولادي الأعزاء... سامحوني فأنا أحتاج لامرأة تشاركني حياتي، وتملأ الفراغ في قلبي.
والدي أيها العظيم في أبوته، والعظيم في رجولته، سامحني على كل سنوات الطيش والولدنة وعدم الفهم التي عشتها معك وآلمتك بها أشد الألم، في وقتٍ كنتَ تمنح فيه الحب والتفهم والاحتواء، المشاعر التي ما زلتَ حتى الآن تغمرنا بها، شقيقي وأنا، بكل ما في قلبك من طيبة وروعة.




Images rights are reserved to their owners









 


2 comments:

  1. القصة جميلة جداً, والمستغرب انك تتكلمين فيها بصيغة المذكر.

    ReplyDelete
  2. ذلكَ لضرورات السرد عصام، فالبطل رجل وأنا أفضل أن يروي أبطالي قصصهم بأنفسهم، فذلكَ يترك لهم فسحة أكبر للتعبير عن مشاعرهم ومشاكلهم، والقصة تلبس رداء الصدق حين يرويها بطلها. وبصراحة يا عزيزي لا أحب أن أكون عزولاً بين البطل وقصته، ولا أحب أن أقف في موقع الراوية التي لا حول لها ولا قول.

    ReplyDelete