ذكريات محاها المطر


كيف يمكن لحدثٍ بسيط أن يعصف ريحاً في كيان إنسان!؟ كيف يمكن لكبسة زر أن تغير تاريخ رجل اعتاد العراك مع الهزائم والألم؟
لدقائق عصفت ريح عاتية في عالم صادق كرم بور، دقائق كانت كفيلة بأن تقلب مقاييس منطق رجل تجاوز جنون التهور منذ زمن، كانت ريحاً من القوة بحيث حملت رجلاً في منتصف الأربعين لتعيده طالباً جامعياً يقوده جنون العشق لملاحقة كل زهرة في حديقة عالمه الرحب.
حصل ذلك لحظة دخل صادق كرم بور الى مدونة خاصة بالقصص القصيرة. فصادق هو أستاذ محاضر في الجامعة، حائز على دكتوراه في العلوم الاجتماعية، وهو الآن بصدد تأليف كتاب عن التغيرات الاجتماعية التي حصلت بعد الكومبيوتر والشبكة العنكبوتية في حياتنا المعاصرة، وقد خصص قسم من كتابه لظاهرة المدونات.
بالصدفة أخبره أحد طلابه عن هذا الموقع الخاص بكاتبة مغمورة هي حنين العجمي. أول أقصوصة في هذه المدونة كانت عن حادثة حصلت للراوية في الجامعة خلال سنتها الجامعية الأولى!... يا الله!... هذه الحادثة! هذه الحادثة تتكلم عنه كطرف ثانٍ في الحكاية، هو الآن يذكرها كما لو حدثت البارحة.
وبطلة الحادثة!... يا إلهي كيف ينسى ذاك الوجه البريء؟!
أطل وجهها من بين الحروف، فتاة تكاد أن تكون طفلة بوجه عادي الجمال، به مسحة من جاذبية وسحر، وعينان عسليتان لا تعبير فيهما، وكأنه لا يعنيها كل ما يدور حولها، كان أجمل ما فيها شعرها الطويل.
كان ذلكَ وهو طالب في سنته الجامعية الأخيرة.
كثيراً ما تبادلا النظرات من بعيد، كانت بنظره مجرد طفلةٍ لا شيء فيها لافت. لكن كان وجهها يسطع في ذاكرته أحياناً دون سبب محدد.
تخرج هو وسافر لإكمال دراسته، حاملاً في صدره طموحه وفي ذاكرته وجهاً بريئاً لطالما أطل من بين الضباب في باريس، الى أن محته الدراسة... والمطر.

أرسل لها على بريدها الإلكتروني رسالة يشرح فيها أسباب اطلاعه على مدونتها، وطلب مقابلتها للحصول على مزيد من المعلومات لكتابه.
للوهلة الأولى لم تصدق عيناها!... إنه هو... حقاً هو! صادق كرم بور، وهل يمكن أن تنساه، الشاب الشهير بجماله واسمه الفارسي المميز. "الإيراني الجميل" هكذا كانوا يطلقون عليه في الجامعة، وهي ككل فتيات الجامعة أعجبت به... فهل سيذكرها بعد كل هذه السنين؟

... اتفقا على لقاء في مقهى.
لم يشعر بضربات قلبها المجنونة، لقد كان مشغولاً بتأملها... امرأة جميلة، يبدو أنها خبرت الحياة جيداً، في عينيها سهام سحر، وفي عطرها نشوة التغلب على أربعين من العمر.
فجأة - وخلال حوارهما- لمح في عينيها تلك النظرة التي ما زال يذكرها جيداً... نظرة فتاة تنظر ولا ترى، وكأن لا شيء يعنيها... أو كأنها تنظر الى عالم داخلي خاص بها وحدها. دامت تلك النظرة برهة، وسرعان ما اختفت.
... سألها إن كانت تحتفظ بصور لها حين كانت في تلك الجامعة؟ لم تسأله توضيحاً، فقد كانت تعرف ما يدور في ذهنه.
أحضرت له صورة في لقائهما التالي.
تأملها طويلاً... رفع اليها عينين لونهما الحنان والحنين وقال: هل تذكرينني؟!
فأخبرته قصة فتاة صغيرة ساذجة، كانت ككل فتيات الجامعة، منبهرة بالشاب البهي الطلة، القادم من إيران بلغة عربية ممتازة، ليشغل بال فتيات الجامعة.
ابتسم بحنينٍ لتلك الفترة وقال: ولدتُ هنا... فأمي لبنانية. وأحمل الجنسية اللبنانية لأن والدي كان يحملها قبل أن يتزوج من أمي.
وأخبرها عن سفره إلى باريس، وحصوله على الدكتوراه. وروى لها حكاية شاب سافر وفي ذهنه ذكرى وجه بريء لطالما أطل من بين الأحرف والضباب... وجه للأسف... محاه المطر.

تزوجا...
وفشلت حياتهما الزوجية.
لقد نسيا أن البراءة تنضج... والشخصيات تتبدل. وأن الزواج يبدأ "الآن"... وأن جمال الذكرى يكمن في أن تبقى مجرد ذكرى... حتى لو... محاها المطر.




Images rights are reserved to their owners











No comments:

Post a Comment