برد


البرد... يا إلهي هذا البرد...
لم يكتفِ بأن يحتل المكان والزمان، بل تسلل أيضاً إلى الروح، وتغلل فيها عميقاً، محوِّلاً كل ذرة في وجودي إلى صقيع موجع.
ارتداني البرد، حتى لأخالني وقد قُدِدتُ من جليد. أنظرُ حولي، فأرى كيف تسلل البرد من داخلي، وغلف الأشياء، لكأن السرير والكنبة والمطبخ قد نِحتوا من جليد.

منذ سنوات طوال، أخالها بطول التاريخ السحيق، ألزَمَني والدي على الانتقال إلى هذا الكوخ على رأس الجبل. لأنه باختصار راهن على منزلنا في لعبة قمار، وخسره! فانتقلنا الى هذا الكوخ، الذي تكرَّم به علينا صديق والدي... مقامر مثله طبعاً.
أحسد أمي بشدة لأنها لم تستسلم لهذا المقامر، فاختارت الموت لأنه أرأف بنا منه. اختارت جنة القبر، على جحيم هذا الزوج الذي أذاقها مُرّ العذاب منذ الليلة الأولى. فرغم أنها تركتني وحيدة معه، إلا أنني اعذرها، وأحسدها على قرارها، إذا ما كان الموت قراراً نأخذه بإرادتنا.

بدأت الحياة تشتد صعوبتها عليّ، فالبرد بدأ يتغلغل إلى عظامي، إلى أن عطب مفاصلي، فأصبتُ أنا الثلاثينية بألم المفاصل، الذي حسم الطبيب أمره بأن أرجعه إلى البرد!
البرد يؤلم مفاصلي... والصقيع يؤلم روحي. وكوخنا لا تدخله التدفئة إلا فيما ندر، على حسب ربحه أو خسارته على طاولة القمار.
وأرقبُهُ بحقدٍ وهو يتجول أمامي، ويعيش تفاصيله المقيتة بكل أنانيته وصفاقته.

أتاني ذات ليلة سوداء، بأحقر قرار يمكن أن يأخذه والدٌ بحق ابنته. لقد قامر عليَّ لصالح صديقه مالك هذا الكوخ البارد! وصديقه كسب الرهان، لكنه خسر منزله، لذلك سوف ينتقل منذ هذه الليلة للعيش معنا في الكوخ، إلى يتم زواجي منه خلال بضعة أيام.
أمضيتُ ليلي كما يمضيه مجنون. كنت أبكي لساعات... ثم أطلق ضحكات هستيرية... فأنا ابنة مقامر، وسأصبح زوجة مقامر، فهل من هناءٍ يشبه هنائي!!


وأشتدَّ البرد، الثلج يتراكم في الخارج، والصقيع يشتدَ في الكوخ، وحقدي يتمدد في روحي.
تأملتهما مساءً عائدين من لعبة قمار، يبدو انهما خسرا فيها كل ما يملكان، فقد عادا دون وقود للمدفئة. وأكتفيا بالعدس لعشائهما.
تلك الليلة اتفق من هو والدي مع الزوج المنتظر، أنه لن يُغيّر حظهما سوى زواج سريع، وأبلغتُ "الخبر السعيد!" ... سوف يُعقد القران غداً.


أخلدا إلى النوم كثورَين أنهكتْ قواهما في الفلاحة . وجلستُ أنظر حولي، أفكر بهذا الرجل الغريب الذي سيعطيه والدي غداً، الحق بأن ينتهك جسدي وانسانيتي، كما سبق له هو أن انتهك عمري.
ولم أنجح بتدفئة نفسي... طمرتُ نفسي تحت البطانيات، لكن جسدي ما زال يرتجف، وروحي ما زالت تتألم.

فجأة انتبهتُ إلى ما حولي! أثاث المنزل المتهالك من خشب، وجدران الكوخ من خشب، وأنا أشعرُ بالبرد... البرد... وجدتُ في قعر القارورة بقية من مادة الكاز، حرصت على توزيعها بالتساوي بين أرجاء الكوخ، ومنحتُ الرجلين بعد أن قيدتهما، عود ثقابٍ مشتعل.
وجلستُ أراقب النيران تمتدّ ... وتمتدّ... وأكملتُ مذكراتي على صوت صراخهما، الذي ما لبث أن همد، ورأيتُ النار تقترب مني، صدق من أسماها الفرح الأكبر. فما هي سوى دقائق حتى أشعر بالدفء... دفء أبدي.
والآن سوف أرمي مذكراتي من النافذة... أنه الدفء أخيراً.




Images rights are reserved to their owners



 








4 comments:

  1. ليتنا نخسر البرد في لعبة القمار
    ونربح البيت!ا

    ReplyDelete
  2. سوف أرمي مذكراتي

    يا قمرا يطلع كل (صباح) من نافذة الكلمات

    ReplyDelete
  3. سوف أرمي مذكراتي

    يا قمرا يطلع كل (صباح) من نافذة الكلمات
    شكراً جزيلاً

    ReplyDelete