حادث اجهاض

عدتُ مساءً إلى منزلي وقد أنهكني التعب. وقفتُ أمام المرآة أراقب هموم العمر تحت جفنيّ... وفجأة وجدتني أجهض!... دم شبابي أريق أمام ناظري، وأنا لم يكن لي حَول ولا قوة أمام ما يجري لي، لم أستطع حتى أن أضع حداً للسيل الذي يخرج مني
 منتشراً في كل زوايا غرفتي.
أفقدني الألم وعيي لفترة... استفقتُ وقد احتلني احساسٌ أوحد...
كنتُ أشعُر بالخواء.
الإجهاض استنزف كل ما بداخلي... فأصبتُ بحالة تشبه حالة إنسان أفرغوا أعضاءه من داخل جسده لتشريحه أو ربما تحضيراً لتحنيطه. وهكذا أفرغ داخلي وأنا صاحية، أنظر إلى نفسي في المرآة، وأراها تُفرغ عضواً عضواً أمام ناظري. وهكذا أصبتُ بالخواء.
فأين عمري؟... وأين شبابي؟... أين أحلام صباي؟... أين روحي التي كانت تشبه فرساً جامحاً يرمح في البراري، دون أن يتمكن ولا حتى أمهر الفرسان من ترويضه.

حين تخرجتُ في الجامعة كنتُ ممتلئةً صخباً وأحلاماً وطموحاً هادراً لتغيير كوني الذي يحيطني... لكن! الأبواب التي ما تزال تغلق بوجهي منذ سنوات طوال، قد أفرغتني من صِبايا وطموحي وأحلامي ... ودمائي.
أنا امرأة أجهضتُ عزيمتي وإرادتي على الحياة. لقد غادرني دم صباي، قطرة فقطرة، على مذبح هذا الوطن الديمقراطي!... اللاطائفي!... المؤمن بكفاءة الإنسان لشخصه!... لا لانتماءاته الحزبية على أنواعها!!
اليوم، وقبل أن أعود إلى منزلي وأجهض... قد أُغلق آخر أبواب العمل في وجهي بعنف. هو آخر الأبواب التي كان من الممكن أن أدخل منها من هامش الزمن إلى وسط الحياة، في هذا الوطن الذي يصرّ من يتزعمه، على إفراغنا من كل أحلامنا، لتحنيطنا في متحف الوطنيات والشعارات الفارغة من كل معنى... وضمير.
وهكذا وقفت أمام المرآة أراقب نفسي تُجهض كيانها...
وأنا أجلس في منتصف غرفتي، أراقب نزيف أحلامي، الذي انتشر من حولي... سمعت طرقاً على بابي، فتحاملت على نفسي لأذهب وأرى من الطارق، فقد كنت أسكن وحدي منذ أن ذهب أهلي إلى القرية طلباً للهدوء والسكينة.
الطارق كان عاصم... جاري، شابٌ جامعي ضاقت به السبل مثلي، فتزوج مالكة البناء الذي نسكنه، والتي تكبره بأكثر من عشرين عاماً... تزوجها بعد أن أغرته بالمنزل الفخم، ومحل يبيع فيه العطور... ويسلي نفسه بإهداء الأحلام للصبايا، أثناء غياب العجوز، المسافرة كثيراً إلى حيث أولادها منتشرون في هذا العالم. وهكذا كنا وحيديّ هذا البناء.
حالي وحاله المتشابهان، ربطنا بوثاق التعاطف وأوقع بنا في تيار الحب، الذي ما أزال حتى الآن أقاوم الوقوع فيه، لكن نبيل لا يمل المحاولة.
لم أقل شيئاً حين رأيته يقف في الباب.
فابتسم بحنان وقال: رأيتك تعودين وأقلقني حالكِ... هل من أمرٍ يضايقك؟
استفقتُ وعاصم بجانبي، غارقٌ في نومه وأحلامه التي حققها... نظرتُ حولي، فرأيتُ هذه المرة أن دماء عذريتي هي التي تلوِّن المشهد، فعاودت التمدد... ولم أستطع أن أجد أي إحساس في داخلي... ما زلت أشعر بالخواء.

عندما استفقنا صباحاً، كان عاصم فرحاً، كطائر يرقص حول نافورة ماء في حديقة خضراء. تكلم كثيراً، ناثراً وعوده وأحلامه فوق دماء أحلامي وعذريتي. أخبرني أن "العجوز" زوجه، قد نقلت ملكية المحل لتصبح باسمه، وكيف أنها قريباً سوف تنقل له أيضا ملكية المنزل وربما البناء بأكمله، وهكذا...
- سوف نتزوج... لا بل نحن الآن متزوجان أمام الله، لكننا سوف نعلن زواجنا قريباً جداً... أعدك.
أحببتُ جداً ما منحني إياه، هذا الصباح، من إحساس بأن هناك من يهتم لأمري ويرعاني ويحوطني بالحب والحنان فأردتُ أن أتعلق برقبته، أردتُ أن أتمسك بما أعطاني من أمل، أردتُ أن أحيا فقط لأشعر بيديه تلامسني.
قبل أن يغادر المنزل قبّلني وقال:
- لن أرضى بسواكِ أماً لأولادي.

وهكذا أصبح مساءً لا يعود إلى منزله بل إلى منزلي... حيث يرعاني ويهتم بشؤوني ويشعل الحرائق في أنوثتي...
إلى أن عادت العجوز من السفر! فتغير وضعنا... عدنا جارين بالكاد نتبادل التحية، فالعجوز لم تكن تترك عاصم وحده أبداً.

...وسكنت في أرجوحة، وقد مزقني القيء.
ابتسم الطبيب بحنان أبوي، معتقداً نفسه ينقل بشرى الحمل لعروسٍ، ما زالت منذ ليلة زفافها تدعو أن تصبح حاملاً!
 حين رأى الذعر في عينيّ انطفأت ابتسامته، وقد فهم أنه نقل لي خبر مصيبة، لا بُشرى حمل.

حين عدتُ قبيل الغروب، كانت سيارة إسعاف تقف أمام المبنى حيث أسكن، وكان شابان ينقلان العجوز زوجة عاصم على نقالة، تبادلنا النظرات، وصعد إلى الإسعاف، ملفوفاً بالصمت والغموض... ولم أفهم ما يجري.

جلستُ في غرفتي، وأنا أحاول إعادة ترتيب أحلامي حسب أولوياتها... زواجي من عاصم كان أولوياتي الوحيدة... أمام أمومتي لم يعد يعنيني أي شيء.
استفقتُ من شرودي، استجابة للمسة معتصم وصوته:
- ما بك؟ لما هذا الشرود؟
ارتميتُ على صدره، فعانقني وأنا أردد:
- خائفة... خائفة...
استطاع تهدئتي، وأراد أن يفهم ما أصابني... أخذتُ يده ووضعتها على بطني وقلت:
- انه هنا...
- ما هو؟
- حبك... أنه هنا... ابنك هنا.

صُعق! وهربت دماؤه من شرايينه! أخذ يدور في المنزل وهو يقول:
- لماذا؟... لماذا الآن يا الله؟... لماذا؟
جاء دوري لأهدّئ من روعه، وأقنعتُ نفسي أنه فرح للخبر، لكنه فوجئ لأنه حصل بهذه السرعة. لم أكن أريد أن أرى أن امتقاع لونه لا يدل أبداً على السعادة.
وألقى في وجهي قنبلته:
- العجوز لا أولاد لها... لقد كانت تسافر بداية لأجل أن تعالج نفسها من العقم... ثم أصبحت تسافر لإجراء عمليات تجميل ... والآن عادت لتقول أنها مصابة بالسرطان وأنها تحتضر...
- وماذا سنفعل؟
- أنا سأبقى معها، فهذا شرطها لأحصل على كامل الميراث...
أرعبني صمته فهززته وقلت:
- وأنا؟ ...ماذا سأفعل أنا؟
- عليك أن تتخلصي منه... سوف ننجب لاحقاً حين نتزوج بعد أن تموت العجوز.
...ولم ينفعني دفاعي المستميت عن أملٍ بدأ ينمو بداخلي، فعاصم لم يوافق على أي حلٍ قدمته، ولم يوافق على أن أذهب بعيداً بطفلي، على أن يلحق بي بعد أن تموت العجوز.
قال بحدة ناهياً الموضوع:
- سوف تتخلصين من هذا الطفل... وكفى.
خرج إلى الصالون وأجرى اتصالاً، ثم عاد وقال:
- هيا بنا... سوف نذهب الآن.
- الى أين؟
- سوف نتخلص منه.

فتحتُ عينيّ، فرأيتُ الطبيب العجوز الذي سبق أن أخبرني بحملي، ابتسم بذات حنوّه الأبوي وقال:
- الم يكن الأجدى يا ابنتي لو أنك أخبرتني بما تريدين كي نتحاشى ما حصل معك؟!
تحاملتُ على آلامي وسألت بصعوبة:
- ماذا حصل؟
قال متردداً:
- المرأة التي أجرت لك عملية الإجهاض... آذتكِ كثيراً... لقد نقلوكِ إلى هنا... وأنتِ على وشك أن ... لماذا فعلت ذلك يا ابنتي؟
- ولكن هل سأشفى من هذه الآلام؟
أطرق وقال:
- يؤسفني أن أخبرك...أنها آذتكِ كثيراً...لم يعد باستطاعتك الحمل مجدداً.
ملأتُ المستشفى صراخاً.
حين حقنتني الممرضة، كان عاصم يُمسك بي، ويقول شيئاً. وكان وجهه آخر ما أراه قبل أن أغيب عن الوعي.


عاصم اختار المال، وتركني أصارع بحر اجهاضاتي المتتالية وحيدة، فإضافة لكوني امرأة الإخفاقات، أصبحتُ أيضاً امرأة الإجهاضات. فبعد أن أجهضتُ أحلاماً أمام رجل أردته أباً لأولادي... أجهضتُ على يديه طفلي... وأحلامي.
فهل يعرف الرجال معنى أن تجهضي طفلاً؟ معنى أن تجهضي حلماً؟... هل يعرفون معنى أن يُجهض إنسان كل معنى بداخله؟
هل يعرف الرجل، الفرق بين الإجهاضين؟ بل هل يعرف أوجه التشابه بينهما؟
رجل أحلامي، ولأجل أحلامه، أجبرني على الإجهاض... هو أجهض طفلاً لأجل حلم... وأنا! الإجهاض قضى على أحلامي وآمال...
إجهاض أحلامي شوَّه في روحي منطقة الإرادة على المضي قدماً في الحياة. وإجهاض طفلي عطب قدرتي الأنثوية على الإنجاب.
فمن أنا؟ من هي هذه المرأة التي تقف في مرآتي؟... وأين الناس؟... أين أصدقائي؟... أين أمي؟... أين هي من أسقطتني في هذه الدنيا جنيناً لن يكتمل نموه أبداً؟




Images rights are reserved to their owners



























                                                                                                          

2 comments:

  1. كم ظلمت الأنثى عبر العصور
    وكان الدين سيداً ووصياً وأداةً طيعة بيد الرجل
    كما كان قاسياً ذلك الله الذي عبدوه
    وكم جميلة تلك الأنثى التي كفروا بها

    ReplyDelete
  2. ما أروع كلامك صديقي محمد
    شرفتَ مدونتي

    ReplyDelete