أرواح صديقة


نزعت نظارتها ودلكت عينيها... منذ ساعاتٍ وهي تعمل.
 
فجأة دوى صوتٌ رهيب واهتزتْ الأرض. اجتمع الموظفون في الممر يتساءلون عما يكون هذا الصوت، وتسارعوا يستطلعون الخبر.
انفجار في المبنى حيث تسكن، ركضت ووراءها الزملاء.

وصلت لتجد أن المبنى قد تهشم والنيران تتصاعد من منزلها الكائن في الطابق الأول.
حاولت الصعود، لكن منعها رجال الأمن، ركضت إلى رجل اطفاء ورجته أن يُنقذ أصدقاءها.
فسألها إن كان في المنزل سكان؟ 
تلعثمت ثم قالت "مكتبتي... مكتبتي".
اعتقدها مجنونة، فقال بسأم "وهل هذا وقت المزاح". 
 لكنها صرخت بأن "هذا ليس مزاحًا. في المنزل مئات الكتاب، مئات الشخصيات... هم من روح ودم، إنهم أصدقائي... أهلي... كل عائلتي. هم يشعرون... ويحيّون معي، أتحاور معهم... أغضب منهم... أفرح معهم... أحزن لأحزانهم... وأفرح بانتصاراتهم".
لكن... بالنسبة لرجال الإطفاء، فالأولوية لإخماد الحريق.

أُخمد الحريق. فصعدتْ راكضة إلى شقتها... غرفة مكتبها كانت متفحمة.
جلستْ على أنقاض الحريق، تبكي كطفلةٍ فقدت كل عائلتها.








 Image rights are reserved to the owner

برد


البرد... يا إلهي هذا البرد...
تسلل إلى الروح، وتغلل فيها عميقًا، فتحولت كل ذرة في وجودي إلى صقيع موجع.
ارتداني البرد... أنظرُ حولي، فأرى كيف تسلل من داخلي، وغلف الأشياء، لكأن السرير والكنبة والمطبخ قد نِحتوا من جليد.

منذ سنوات طوال، أخالها بطول التاريخ السحيق، ألزَمَني والدي على الانتقال إلى هذا الكوخ على رأس الجبل. لأنه باختصار راهن على منزلنا في لعبة قمار، وخسره! فانتقلنا الى هذا الكوخ، الذي تكرَّم به علينا صديق والدي... بالتأكيد مقامر مثله.

أحسد أمي بشدة لأنها لم تستسلم لهذا المقامر، فاختارت الموت لأنه أرأف بنا منه. اختارت جنة القبر، على جحيم هذا الزوج الذي أذاقها مُرّ العذاب منذ الليلة الأولى. فرغم أنها تركتني وحيدة معه، إلا أنني اعذرها، وأحسدها على قرارها، إذا ما كان الموت قرارًا نأخذه بإرادتنا.

بدأت الحياة تشتد صعوبتها عليّ، فالبرد بدأ يتغلغل إلى عظامي، إلى أن عطب مفاصلي، فأصبتُ أنا الثلاثينية بألم المفاصل، الذي حسم الطبيب أمره بأن أرجعه إلى البرد!
البرد يؤلم مفاصلي... والصقيع يؤلم روحي. وكوخنا لا تدخله التدفئة إلا فيما ندر، على حسب ربحه أو خسارته على طاولة القمار.
أرقبُهُ بحقٍد وهو يتجول أمامي، ويعيش تفاصيله المقيتة بكل أنانيته وصفاقته.

أتاني ذات ليلة سوداء، بأحقر قرار يمكن أن يأخذه والدٌ بحق ابنته. لقد قامر عليَّ لصالح صديقه مالك هذا الكوخ البارد! وصديقه كسب الرهان، لكنه خسر منزله، لذلك سوف ينتقل منذ هذه الليلة للعيش معنا في الكوخ، إلى يتم زواجي منه خلال بضعة أيام.
أمضيتُ ليلي كما يمضيه مجنون. كنت أبكي لساعات... ثم أطلق ضحكات هستيرية... فأنا ابنة مقامر، وسأصبح زوجة مقامر، فهل من هناءٍ يشبه هنائي!؟


أشتدَّ البرد، الثلج يتراكم في الخارج، والصقيع يشتدَ في الكوخ، وحقدي يتمدد في روحي.
تأملتهما مساءًا عائدين من لعبة قمار، يبدو انهما خسرا فيها كل ما يملكان، فقد عادا دون وقود للمدفئة. وأكتفيا بالعدس لعشائهما.
تلك الليلة اتفق من هو والدي مع الزوج المنتظر، أنه لن يُغيّر حظهما سوى زواج سريع، وأبلغتُ "الخبر السعيد!"... سوف يُعقد القران غدًا.


أخلدا إلى النوم كثورَين أُنهكتْ قواهما في الفلاحة. وجلستُ أنظر حولي، أفكر بهذا الرجل الغريب الذي سيعطيه والدي غدًا، الحق بأن ينتهك جسدي وانسانيتي، كما سبق له هو أن انتهك عمري.
لم أنجح بتدفئة نفسي... طمرتُ نفسي تحت البطانيات، لكن جسدي ما زال يرتجف، وروحي ما زالت تتألم.

فجأة انتبهتُ إلى ما حولي!
أثاث المنزل المتهالك من خشب، وجدران الكوخ من خشب، وأنا أشعرُ بالبرد... البرد... وجدتُ في قعر القارورة بقية من مادة الكاز، حرصت على توزيعها بالتساوي بين أرجاء الكوخ، ومنحتُ الرجلين بعد أن قيدتهما، عود ثقابٍ مشتعل.
وجلستُ أراقب النيران تمتدّ... وتمتدّ... وأكملتُ مذكراتي على صوت صراخهما، الذي ما لبث أن همد، ورأيتُ النار تقترب مني، صدق من أسماها الفرح الأكبر. فما هي سوى دقائق حتى أشعر بالدفء... دفء أبدي.
والآن سوف أرمي مذكراتي من النافذة... أنه الدفء أخيرًا.




Images rights are reserved to their owners



 








حادث إجهاض

عدتُ مساءًا إلى منزلي وقد أنهكني التعب. وقفتُ أمام المرآة أراقب هموم العمر تحت جفنيّ.
فجأة وجدتني أجهض!... دم شبابي أريق أمام ناظري، وأنا لم يكن لي حَول ولا قوة أمام ما يجري لي، لم أستطع حتى أن أضع حدًا للسيل الذي يخرج مني منتشرًا في كل زوايا غرفتي.
أفقدني الألم وعيي لفترة... استفقتُ وقد احتلني احساسٌ أوحد... كنتُ أشعُر بالخواء.
الإجهاض استنزف كل ما بداخلي... فأصبتُ بحالة تشبه حالة إنسان أفرغوا أعضاءه من داخل جسده لتشريحه أو ربما تحضيرًا لتحنيطه. وهكذا أفرغ داخلي وأنا صاحية، أنظر إلى نفسي في المرآة، وأراها تُفرغ عضوًا عضوًا أمام ناظري. 
فأين عمري؟... وأين شبابي؟... أين أحلام صباي؟... أين روحي التي كانت تشبه فرسًا جامحًا يرمح في البراري، دون أن يتمكن حتى أمهر الفرسان من ترويضه.

حين تخرجتُ في الجامعة كنتُ ممتلئًة صخبًا وأحلامًا وطموحًا هادرًا لتغيير كوني الذي يحيطني.
لكن! الأبواب التي ما تزال تغلق بوجهي منذ سنوات طوال، قد أفرغتني من صِبايا وطموحي وأحلامي ... ودمائي.
أنا امرأة أجهضتُ عزيمتي وإرادتي على الحياة. لقد غادرني دم صباي، قطرة فقطرة، على مذبح هذا الوطن الديمقراطي!... اللاطائفي!... المؤمن بكفاءة الإنسان لشخصه!... لا لانتماءاته الحزبية على أنواعها!!
اليوم، وقبل أن أعود إلى منزلي وأُجهض... أُغلق آخر أبواب العمل في وجهي بعنف. هو آخر الأبواب التي كان من الممكن أن أدخل منها من هامش الزمن إلى وسط الحياة، في هذا الوطن الذي يصرّ زعماؤه، على إفراغنا من كل أحلامنا، لتحنيطنا في متحف الوطنيات والشعارات الفارغة من كل معنى... وضمير.
وهكذا وقفت أمام المرآة أراقب نفسي تُجهض كيانها...
وأنا أجلس في منتصف غرفتي، أراقب نزيف أحلامي، الذي انتشر من حولي، سمعت طرقًا على بابي، فتحاملت على نفسي لأذهب وأرى من الطارق، فقد كنت أسكن وحدي منذ أن ذهب أهلي إلى القرية طلبًا للهدوء والسكينة.
الطارق كان عاصم... جاري، شابٌ جامعي ضاقت به السبل مثلي، فتزوج مالكة البناء الذي نسكنه، والتي تتقدمه بأكثر من عشرين عامًا... تزوجها بعد أن أغرته بالمنزل الفخم، ومحل يبيع فيه العطور... ويسلي نفسه بإهداء الأحلام للصبايا، أثناء غياب العجوز، المسافرة دومًا إلى حيث أولادها منتشرون في هذا العالم. وهكذا كنا وحيديّ هذا البناء.
حالي وحاله المتشابهان، ربطنا بوثاق التعاطف وأوقع بنا في تيار الحب، الذي ما أزال حتى الآن أقاوم الوقوع فيه، لكن عاصم لا يمل المحاولة.
لم أقل شيئًا حين رأيته يقف في الباب.
فابتسم بحنان وقال: رأيتك تعودين وأقلقني حالكِ... هل من أمرٍ يضايقك؟

استفقتُ وعاصم بجانبي، غارقٌ في نومه وأحلامه التي حققها... نظرتُ حولي، فرأيتُ هذه المرة أن دماء عذريتي هي التي تلوِّن المشهد، فعاودت التمدد، ولم أستطع أن أجد أي إحساس في داخلي... ما زلت أشعر بالخواء.

عندما استفقنا صباحًا، كان عاصم فرحًا، كطائر يرقص حول نافورة ماء في حديقة خضراء. تكلم كثيرًا، ناثرًا وعوده وأحلامه فوق دماء أحلامي وعذريتي. أخبرني أن "العجوز" زوجه، قد نقلت ملكية المحل لتصبح باسمه، وكيف أنها قريبًا سوف تنقل له أيضا ملكية المنزل وربما البناء بأكمله، وهكذا...
- سوف نتزوج... لا بل نحن الآن متزوجان أمام الله، لكننا سوف نعلن زواجنا قريبًا جدًا... أعدك.
أحببتُ جدًا ما منحني إياه، هذا الصباح، من إحساس بأن هناك من يهتم لأمري ويرعاني ويحوطني بالحب والحنان فأردتُ أن أتعلق برقبته، أردتُ أن أتمسك بما أعطاني من أمل، أردتُ أن أحيا فقط لأشعر بيديه تلامسني.
قبل أن يغادر المنزل قبّلني وقال: لن أرضى بسواكِ أمًا لأولادي.

وهكذا أصبح مساءًا لا يعود إلى منزله بل إلى منزلي. يرعاني ويهتم بشؤوني ويشعل الحرائق في أنوثتي...
إلى أن عادت العجوز من السفر! فتغير وضعنا، عدنا جارين بالكاد نتبادل التحية، فالعجوز لم تكن تترك عاصم وحده أبدًا.

...وسكنت في أرجوحة، وقد مزقني القيء.
ابتسم الطبيب بحنان أبوي، معتقدًا نفسه ينقل بشرى الحمل لعروسٍ حديثة الزواج!
 حين رأى الذعر في عينيّ انطفأت ابتسامته، وقد فهم أنه نقل لي خبر مصيبة، لا بُشرى حمل.

عدتُ قبيل الغروب، كانت سيارة إسعاف تقف أمام المبنى حيث أسكن، وكان شابان ينقلان العجوز زوجة عاصم على نقالة، تبادلنا النظرات، وصعد إلى الإسعاف، ملفوفًا بالصمت والغموض... ولم أفهم ما يجري.

جلستُ في غرفتي، أحاول إعادة ترتيب أحلامي حسب أولوياتها... زواجي من عاصم كان أولوياتي الوحيدة... أمام أمومتي لم يعد يعنيني أي شيء.

استفقتُ من شرودي، استجابة للمسة عاصم وصوته: ما بك؟ لما هذا الشرود؟
ارتميتُ على صدره، فعانقني وأنا أردد: خائفة... خائفة...
استطاع تهدئتي، وأراد أن يفهم ما أصابني... أخذتُ يده ووضعتها على بطني وقلت: انه هنا...
- ما هو؟
- حبك... أنه هنا... ابنك هنا.

صُعق! وهربت دماؤه من شرايينه! أخذ يدور في المنزل وهو يقول: لماذا؟... لماذا الآن يا الله؟... لماذا؟
جاء دوري لأهدّئ من روعه، وأقنعتُ نفسي أنه فرح للخبر، لكنه فوجئ لأنه حصل بهذه السرعة. لم أكن أريد أن أرى أن امتقاع لونه لا يدل أبدًا على السعادة.

وألقى في وجهي قنبلته: العجوز لا أولاد لها... لقد كانت تسافر بداية لأجل أن تعالج نفسها من العقم... ثم أصبحت تسافر لإجراء عمليات تجميل ... والآن عادت لتقول إنها مصابة بالسرطان وأنها تحتضر...
- وماذا سنفعل؟
- أنا سأبقى معها، فهذا شرطها لأحصل على كامل الميراث...
أرعبني صمته فهززته وقلت: وأنا؟ ...ماذا سأفعل أنا؟
- عليك أن تتخلصي منه... سوف ننجب لاحقًا حين نتزوج بعد أن تموت العجوز.

لم ينفعني دفاعي المستميت عن أملٍ بدأ ينمو بداخلي، فعاصم لم يوافق على أي حلٍ قدمته، ولم يوافق على أن أذهب بعيدًا بطفلي، على أن يلحق بي بعد أن تموت العجوز.
قال بحدة ناهيًا الموضوع: سوف تتخلصين من هذا الطفل... وكفى.
خرج إلى الصالون وأجرى اتصالاً، ثم عاد وقال: هيا بنا... سوف نذهب الآن.
- الى أين؟
- سوف نتخلص منه.

فتحتُ عينيّ، فرأيتُ الطبيب العجوز الذي سبق أن أخبرني بحملي، ابتسم بذات حنوّه الأبوي وقال: الم يكن الأجدى يا ابنتي لو أنك أخبرتني بما تريدين كي نتحاشى ما حصل معك؟!
تحاملتُ على آلامي وسألت بصعوبة: ماذا حصل؟
قال مترددًا: المرأة التي أجرت لك عملية الإجهاض... آذتكِ كثيرًا... لقد نقلوكِ إلى هنا... وأنتِ على وشك أن ... لماذا فعلت ذلك يا ابنتي؟
- ولكن هل سأشفى من هذه الآلام؟
أطرق وقال: يؤسفني أن أخبرك...أنها آذتكِ كثيرًا...لم يعد باستطاعتك الحمل مجددًا.

ضجت المستشفى بصراخي.
حين حقنتني الممرضة، كان عاصم يُمسك بي، ويقول شيئًا. كان وجهه آخر ما أراه قبل أن أغيب عن الوعي.


عاصم اختار المال، وتركني أصارع بحر إجهاضاتي المتتالية وحيدة، فبعد أن أجهضتُ أحلامي أمام رجل أردته أبًا لأولادي... أجهضتُ على يديه طفلي... وأجمل آمالي.

فهل يعرف الرجال معنى أن تجهضي طفلاً؟ معنى أن تجهضي حلمًا؟... هل يعرفون معنى أن يُجهض إنسان كل معنى بداخله؟
هل يعرف الرجل، الفرق بين الإجهاضين؟ بل هل يعرف أوجه التشابه بينهما؟
رجل أحلامي، ولأجل أحلامه، أجبرني على الإجهاض... هو أجهض طفلاً لأجل حلم... وأنا! الإجهاض قضى على أحلامي وآمال...

فمن أنا؟ من هي هذه المرأة التي تقف في مرآتي؟... وأين الناس؟... أين أصدقائي؟... أين أمي؟... أين هي من أسقطتني في هذه الدنيا جنينًا لن يكتمل نموه أبدًا؟




Images rights are reserved to their owners



























                                                                                                          

مذكرات شابة أصبحت في الخمسين


أقدّس حريتي... لذا فق رفضتُ الزواج دومًا.
إلى أن...

التقيت به صدفة، فعبر حواجزي بإصراره، وأفهمني أنه الرجل الذي سيحول حياتي إلى سيمفونية رائعة من السعادة والفرح والحرية... فتزوجته.

بعد مضي حوالي خمسة وعشرون عامًا على زواجنا، اكتشفتُ حقيقة لم أكن أعرفها عن نفسي أبدًا. اكتشفتُ أنني أعظم ممثلة عرفتها الحياة، ولم تشهدها المسارح. فقد مثلتُ دور الزوجة المحبة والمعطاءة والمتسامحة، رغم كل الأخطاء، طوال هذه السنوات.
فعندما اكتشفتُ انه عقيمٌ، ولإيماني بأنني مسؤولة عن قراراتي، مهما كانت نتائجها، فقد بحثتُ عن الدور الذي يجب أن ألعبه في موقف كهذا، فكان القناعة والصمت وإخفاء الجراح. فأقنعت نفسي بالرضا عن أنوثتي المنقوصة وأمومتي المسلوبة، وتحولتُ إلى مجرد شكل خارجي جماله ينبع من مهارة من رسم خطوط ملامح وجهه، وأهميته تنبع من كونه ما زال صالحًا للاستعمال.

بعد أن ذهب في رحلته الأبدية، سمحت لي وحدتي بنزع جميع الأقنعة، فاكتشفتُ أن الأحلام لم تتحقق كما توهمت، وأن أجنحتي قد تطاير ريشها في مهب الزواج.
وأما الداخل فلم يعد روح إنسان، بل دمار شامل، كذاك الذي يلي غارة حربية.
قابلني الجمال في المرآة وقد حولته لعنة التمثيل إلى تشوه، وبصمات آلاف الأحزان.


 

Images rights are reserved to their owners