لوز وسكّر


حرمهما الله نعمة الإنجاب، فامتهنا إضحاك الأطفال.
بعد سنواتٍ من العلاجات ومحاولات الحقن المجهري، أخبرهما الطبيب أن الإنجاب بالنسبة لهما مستحيل، إلا في حال حصلت معجزة.

كان نزار يملك متجراً لبيع ألبسة الأطفال. بعد ليلةٍ من النقاشات بينه وبين زوجته الحبيبة، اقترحت عليه منى أن يفكر بإنشاء فرقة لتسلية الأطفال، بدل أن يناقشها بفكرة الانفصال.

وهكذا كان...
أسسا فرقة " لوز وسكّر"، زوجان مهرجان يقيمان عروضاً مسرحية في المدارس والمسارح.
ذاع صيتهما وأصبحا حديث الأطفال والعائلات. وقد عرضت إحدى محطات التلفزة المحلية عليهما، برنامجاً للأطفال يُعرض يومياً... فوافقا.

مضت السنوات وهما يعملان بجد، فذاع صيتهما، واتسعت شهرتهما.
لكن الزمن... غادرٌ ويهوى تنغيص هناء البشر!
اكتشف الأطباء ورماً سرطانياً في جسد منى!
  لم يخفها المرض أو يثنها عن تقديم العروض للأطفال، فكانت تقول لزوجها بعد كل عرض ومهما اشتد وجعها "ضحكات الأطفال هي أجمل ما في الحياة، فلا تتوقف عن إسعادهم أبداً، مهما حصل لي".

ازدادت صحتها سوءاً مع مرور الوقت، ونزار يشعر بالعجز وهو يراها تضعف يوماً بعد يوم. إلى أن أعاقها المرض عن الخروج من المنزل.
كان لوز بعد انتهاء العمل يخلع قناع المهرج، ويعود إلى منزله الصغير، ليعتني بحبيبته سكّر محبوبة الأطفال، وينقل لها رسائلهم وباقات ورودهم التي يرسلونها لها، وهو يحاول أن يخفف عنها الألم. كان يروي لها قصصاً عن الأطفال الذين أضحكهم اليوم، وعن السعادة التي رآها في عيونهم.
لكن داخله كان محطماً، فمنى لن تتحسن... هكذا أخبره الطبيب وختم بكلامه "للأسف... عليك توقع الأسوأ".

شهورٌ قليلة قضياها معاً بالألم والمعاناة والدموع...
ذات فجرٍ طلبت منه منى بصوتٍ ضعيف شربة ماء.
لم تكملها... أسلمت الروح بين يديه.
تحولت أيامه إلى ظلامٍ، فاعتزل الأضواء وأغلق باب منزله على نفسه.

بعد أكثر من شهر، على وفاة منى، كان أحدهم يضغط على جرس الباب دون انقطاع، ويدق بيديه الخشب وهو يصرخ "نزار... لن أرحل، وسأقرع الباب إلى أن تفتح لي".
أمام إصرار الزائر، لم يكن أمامه إلا أن يفتح الباب.
كان صديقه... مخرج البرنامج التلفزيوني.

بعد العديد من المحاولات الفاشلة، قرر صديقه أن يخرجه من عزلته عنوة، ومهما كلف الأمر.

في وقت عرض برنامج الأطفال، ظهر المخرج وطلب من الأطفال أن ينصتوا جيداً. أخبرهم قصة وفاة محبوبتهم سكّر، وحزن لوز عليها، ورفضه الخروج من المنزل.
واقترح عليهم أن يتجمعوا بأكثر عدد ممكن أمام مبنى التلفزيون، ليرافقوه إلى منزل لوز، فربما يستطيع الأطفال إخراجه من أحزانه.
وهكذا كان... في الموعد المحدد حضر عشرات الأطفال مع أهاليهم للمشاركة في زيارة لوز.

فتح الباب بعد إلحاح صديقه المخرج، فدخل الأطفال صاخبين وهم يتعلقون بقدميه ويديه، ويصرخون "لوز... حبيبنا لوز..."
اقتربت منه طفلة جميلة وعلى وجهها ابتسامة ساحرة وقالت له "لوز... أنا أيضاً مثلك حزينة لأن والدي قد مات... لكن أمي قالت انه يراني من السماء، وأنه سيبكي إذا رآني حزينة... لا تحزن كي لا تبكِ سكّر وهي في السماء"
عانقته بحنان بالغ... فعانقها بحرارة.
في تلك اللحظة، أدرك نزار أن منى كانت على حق. ضحكات الأطفال هي أجمل ما في الحياة.

فقرّر أن يعود إلى المسرح، لا لأنه نسى ألمه، بل لأنه أراد أن يحوّل ذلك الألم إلى أملٍ جديد. أراد أن يكون مصدر سعادة للآخرين، حتى لو كان قلبه ينزف. تماماً كما أوصته سكّر.

عاد لوز إلى ارتداء قناع المهرج.
وخلال كل عرض، لم يتوقف عن إخبار الأطفال قصة سكّر الجميلة التي أحبتهم وهي تراهم من السماء.
ويختم العرض برسالة حبٍ لها منه ومن أحبائها الأطفال.


Images rights are reserved to their owners

زهرة الجنوب


الفينيق (العنقاء) طائر أسطوري الذي خرج من الجنة، بجمال لا يوصف، دثاره الحكمة، اتّجه إلى الأرض ليختبر فيها الحياة.
استوقفته أثناء تجواله رائحة اللبان والبخور الصنوبري المنبعثة من أعلى شجر الأرز في لبنان. فبنى عشه واستوطن فيه. ومن أعالي الأرز كان ينشد أعذب الألحان ويتشارك مع الأفلاك السماوية نغماتها.

إلى أن!...
بدأ يختلط بالحياة الأرضيّة فلحقت به شرارة ناريّة من عذابات الناس وآلامهم فأحرقت عشّه، وتحوّل الطائر إلى رماد!
لكنها لم تكن النهاية، بل البداية.
فإرادة الحياة فيه كانت أقوى من الموت، انتفض من رماده مجدداً، وانبعث إلى الحياة وفي روحه ذكرى آلاف السنين.

كانت هذه الأسطورة هي افتتاحية حديثنا، زهرة وأنا.
كنتُ أعمل على كتابٍ يروي قصص المشاهير، وكنتُ منتدبة لكتابة قصة حياة رسامة من لبنان، وصلت شهرتها إلى العالمية.

وبدأت حكاية زهرة فقالت:
خاض لبنان منذ نشأته حروباً لا تنتهي، لكن يقيناً أننا لم نعاني حرباً أشرس من حربنا مع العدو الإسرائيلي.
فيوم قرر اجتياح لبنان عام 1982 كان لي من العمر عشر سنوات، كنتُ أعيش في قرية جنوبية صغيرة محاطة بطبيعة خضراء خلابة.
كنت أحب الرسم، وأحلم بأن أصبح فنانة مشهورة أرسم لوحات عن جمال الطبيعة وسِحر أرض الجنوب.
رسمت السماء الزرقاء، والشمس المشرقة، والأشجار الخضراء. رسمت الأطفال يلعبون في الطبيعة، والطيور تحلق في السماء، ينابيع المياه، والتلال مكسوة بثلوج كانون/ديسمبر... رسمتُ أفراد عائلتي... كم رسمتهم في جميع حركاتهم وسكناتهم.
ذات يوم، وقد اختفت أصوات الطيران الحربي والغارات، جلستُ تحت شجرة السنديان الكبيرة في حديقة جدي، كان منزله يبعد عن منزلنا أمتارٌ قليلة.

مهول ما حصل!... لكنني لم أعرف تفاصيله إلا لاحقاً.
أذكر أن وهجاً شديداً أعمى بصري، و....

فتحتُ عيناي، فطالعني وجه جدتي دامعة العينين، كنتُ أتألم في كل أنحاء جسدي. وفمي جاف كقطعة خشب، رطبتْ جدتي شفتاي بقطعة قماشٍ وقالت:
لا تخافي يا عمري، أنا معك.

يوم فتحتُ عيناي وقد استعدتُ وعيي الكامل، علمتُ أنني في المستشفى منذ أسبوع تقريباً.
"أين أمي!؟"
لم تكن أمي وحدها، بل أفراد عائلتي كلهم قد ارتقوا شهداء... أمي وأبي وأخوتي الصغار.
نظرت حولها وأكملت دامعة:
هذا المرسم كان منزل عائلتي، وقد دمره الصهاينة فوق رؤوس أحبائي، فذابت أجسامهم في ترابه... بنيتُ هذا المرسم مكانه، لأخلد ذكراهم.

قادتني إلى قاعة فسيحة، تجولنا معاً وهي تشرح لي كل شيء عن اللوحات.
لوحاتُ تروي قصة حياة عائلة كانت تعيش بهناء وتعمل بجهد، لم تترك زهرة مناسبة أو مشهداً للعائلة إلا وقد خلدته بلوحة.
في زاوية معتمة من القاعة، وقفنا دقائق صمتٍ مهيب، وزهرة تذرف دموعاً حارة. احترمتُ حزنها، وقد خنقتني العبرات. فهنا لوحات تحكي حكايتها مع اليتم وأحزان الفقد.
دقائق من الحزن والدموع مرت علينا ونحن في وقفتنا.

بعد جلوسنا مجدداً تابعت زهرة:
عام 1985 كنت قد بدأتُ أتأقلم مع حياتي الجديدة، في كنف جدتي، أما جدي فقد فارق الحياة بعد استشهاد عائلتي بأشهر قليلة.
حلَّ ربيعٌ آخر، والحزن ما زال معششاً في زوايا المنزل، رغم جهودنا جدتي وأنا أن نخفي الأمر عن بعضنا، فقد كنا نواسي بعضنا، بصمت ونتواطأ مع الحزن كي لا يرتدي وجوهنا.
يوم عودتنا إلى المدرسة، بعد عطلة الربيع، أخبرتنا المديرة أن جمعيةً للعناية بأطفال الحروب ستزورنا.
كنتُ أحب الوحدة، وأفضل أوقاتي أقضيها منزوية في ركنٍ بعيد وحدي مع رسوماتي، فقصدتُ قاعة الرياضة لأنها تكون فارغة بهذا الوقت وجلستُ في زاوية بعيدة، أرسم...

كنت منهمكة بالرسم، فإذ بي ألمح امرأة تحمل كاميرا تنظر إلى رسوماتي، ابتسمت وقالت "هل يمكنني أن أرى رسوماتك؟"
نظرتُ ل إليها بحذر، ثم مددت لها الدفتر.

بعد أسابيع، انتشرت رسوماتي في الصحف والمجلات. تأثر الناس برسوماتي التي عبّرت عن معاناة الأطفال في الحرب. فبدأت المنظمات الإنسانية تهتم بي وبأوضاعي.

في سنتي النهائية في المدرسة، كنتُ قد طورتُ أدواتي وأسلوب رسمي، وقد أهداني عمي أدوات خاصة للرسم.
استدعتني مديرة المدرسة، دخلتُ إلى مكتبها فوجدتُ عمي وامرأة لا أعرفها.
عرفتُ أن السيدة هي معلمة في كلية الفنون. وهي تحمل لي عرضاً، كلية الفنون الجميلة تقدم لي منحة مجانية لدراسة الرسم.
نظرتُ إلى عمي برجاء، فابتسم وقال "إذا كنتِ موافقة فأنا موافق".


وبدأت مرحلة جديدة في حياتي. مرحلة مليئة بالألوان، رغم أنّ الحرب تركت ندوباً في قلبي. لكنني كنت أعلم أنّ الفن يمكن أن يكون سلاحاً ضد الظلام، ووسيلة لإيصال صوتي إلى العالم... بفرشاتي قاومت الموت، وانتصرتُ على الحرب.

احتفالاً بالتخرج أقام لنا معهد الفنون معرضاً للوحاتنا، حضره فنانون وإعلاميون ووكالات أنباء عالمية، فقد كان عنوان معرضنا "أطفال الحروب".
عزمتُ خلال هذا المعرض على أن أخبر الصحافة عن مشروعي القادم، إقامة مؤسسة تُعنى بمواهب الأطفال الناجون من الحرب.

جاءني دعم مادي من أكثر من متبرع، والكل قدَّم ما يستطيع من إمكانات لينجح هذا المشروع.
مع مرور الوقت، انتشرت أعمالي خارج الوطن العربي.

نظّمتُ معارض فنية في عواصم كبيرة، يعود ريعها لصالح مؤسستي، مما زاد في أسعار اللوحات، بفضل أناسٍ آمنوا بي وبقضيتي.
وهكذا... وبفضلٍ من الله تعالى أصبحتُ رمزاً للأمل والإصرار، وصوتاً للسلام، ألقي محاضرات في الجامعات والمؤتمرات الدولية عن قوة الفن في التغيير النفسي والمجتمعي. كنتٌ دائماً أقول إن الرسم ليس مجرد ألوان على لوحة، بل هو وسيلة لإيصال صوت من لا صوت لهم، وبناء جسور بين الثقافات.
والحمد لله أنني نجحتُ بأن أكون رسالة حية تُذكّر العالم بأنّ حتى في أحلك الأوقات، يمكن للفن أن يكون نوراً يضيء الطريق نحو السلام الداخلي.

أنهت زهرة حكايتها، وقد شعَّ من وجهها نورٌ ألهمني كتابة روايةٍ عن حياة إنسانة أشبه بطائر الفينيق، أحرقته الحياة فتمرد على الموت وقام من رماده، ليشع نوراً في ظلام المقهورين.


وهنا حضرتني مقولة ل سيجموند فرويد
"في كثير من الصدمات النفسية تتسامى النفس عندما تعجز في الوصول إلى أغراضها. تتسامى فتتجه ناحية الفنون كالشعر والموسيقى والرسم... ولذلك إذا تتبعت حياة الكُتاب والروائيين والفنانين، وجدت قصة دامية فتترفع النفس إلى المصاف الفلسفية فتزهد في الحياة وتترفع عن توافه الأمور".



Images rights are reserved to their owners