همس الحنين

 
عزيزي آدم...
صاحب الطيف الأجمل...
الغائب/ الحاضر... الذي هو في غيابه، أكثر جمالاً في روحي من الجميع.

سبق أن زعمتُ- في رسالتي الأخيرة لك- أنها رسالتي الأخيرة.
لكن!... هو الحنين يا "رفيق الولدنة"، فالروح مسكونة بالأشواق لزمنٍ كنتُ فيه طفلة يافعة، لا هم لي سوى أن أراكَ تنتظرني في الشرفة المقابلة. لتأخذني إلى حلمٍ لا حرب فيه... ولا أصوات مدافع.

لعلك مثلي، ولعلك كمعظم معاصري الحرب الأهلية، قد اكتشفت أنها كانت لعبة أطفال بالنسبة لما نعيشه اليوم، من جميع أنواع البشاعات والموبقات، أولها الصواريخ الذكية، وليس آخرها المسيِّرات الانتحارية والتجسسية، التي تؤرق نوم الآمنين وتغتال براءة الأطفال.

ترى!... ما رأيكَ بكل ما يجري؟ هل تعتبر فلسطين قضيتكَ المركزية، أم أنك...؟
يا إلهي مرعب أن أفكر بذلك... أيعقل أنني أحفظ ذكرى رفيقٍ وأتمنى لقاءه، في حين نحن نقيضان في العقيدة الدينية والإنسانية والاجتماعية؟!


أسبوعين وأنا أهمل متابعة هذه الرسالة، فالمستجدات حدثٌ جلل!
كان العالم على شفا حربٍ عالمية نووية!
لكن الجميل في الموضوع أن حصون ما يسمى "إسرائيل"- الكائن المسخ- تُدك للمرة الأولى منذ تاريخ إنشائها المشؤوم.
لا أريد حتى أن أفكر، بأنك يمكن أن تكون من تلك الفئة المناهضة لفكرة المقاومة وقتال العدو، النافخة في بوق السلام والتطبيع المخزي مع عدو الله والإنسانية!


لكن!...
ما لنا وللحديث عن الحرب، يكفينا أننا نعيشها منذ أن ولدنا.
فما أردتُ أن أبوح لك به في هذه الرسالة، هو حجم الألم الذي أعيشه ككل أبناء جيلي، بعد أن بلغنا من العمر عتيًا، وتعتقنا في خوابي الوجع، في وطنٍ ما زال يتآمر علينا منذ أن لفظنا من أوساطه الإبداعية وميادينه العملية، لصالح أبناء الوساطات والأزلام وعبيد المال... إضافة إلى واحدة من عجائب هذا الزمن، ما يسمى المؤثرين والفاشينيستا (ز)!

هل غزا الشيب رأسك يا رفيقي؟
هل ضعف نظرك؟... لا يهم، المهم ألا نفقد البصيرة. وهل غير البصيرة من أوصلنا إلى كل هذا الوجع؟
أنا أنتمي لتلك الفئة التي تجسد مقولة إميل سيوران "الوعي لعنة مُزمنة، كارثة مَهولة، إنهُ منفانا الحقيقي، فالجهل وطن، والوعي منفى".

فهل أنتَ من هذا الجيل الذي عاصر الأصالة قبل أن تدخل تكنولوجيا الأجهزة الذكية، لتحول حياتنا إلى "تواصل افتراضي" تنتفي فيه كل قيِّم الرقي والاحترام والجمال والكمال!؟
يا لروعة كوننا جيلٌ لطخ أصابعه بحبر الأقلام الجافة، وقبَّل الورق أنامله. جيلٌ جالس الكتاب، وأمضى ساعاتٍ بين أقسام معرض الكتاب. نحن أبناء الأصالة، تعلمنا احترام الكبير ومحبة الصغير.
كان صوت فيروز نشيد صباحاتنا، أما قلوبنا فنبضت بالحب مع أم كلثوم، وكم غنينا مع عبد الحليم "وحياة قلبي وأفراحه" ونحن نجتاز المراحل التعليمية.

آهٍ... كم كنا ثائرين أثناء الدراسة، أورثتنا ثورتنا فكرًا ناضجًا منذ حداثة أعمارنا، فآمنا بمقاومة المحتل، وبالثورة على وطن يعيش أبشع أنواع الخلافات والاختلافات. للأسف لم تنجح ثورتنا، فها أن الوطن قد تشرذم إلى محميات، والخلافات أصبحت عداوات، والاختلافات تحولت لتصبح طائفية مقيتة.

آدم يا "رفيق الولدنة" هل تحمل منفاك في داخلك مثلي!؟
فالوعي المبكر نما في روحي، وتلقى اشتعالاته من حرائق دمي التي خضتها وأنا أسير على طريق الجلجلة، حاملة صليب معاناتي، أنوء تحت ثقل الحِمل.
شكلتني المعاناة، لا بل أعادت تشكيلي آلاف المرات، لتجعل مني امرأة معتقة الآلام، باذخة الحزن، تتناسل ثوراتي من مخاض أحلامي وآمالي وآلامي، لتجعل مني امرأة من أرقٍ وقلق.
أراقص الحياة وأشتبك معها، أُرديها أرضًا كلما صفعتني، وإذا ما رمت أمامي أحجارها، تعثرتُ... لكنني سرعان ما أقف لأرشقها بالحجر.
لا أخفيك سرًا يا رفيقي، مرّ العمر ولا عناوين ثابتة على خريطة أيامي، ولا بوصلتي فيها اتجاهات!
لذا فقد أتعبتني محاولات ترويضها، والأحمال على كاهلي تتراكم جبالٌ فوقها جبال، وأنا روحٌ منهكة تحتها، أبحث عن زاوية أمانٍ وسلام لأعيش ما تبقى من أوجاع العمر.


عزيزي آدم...
صاحب الطيف الأجمل...
لعلنا قبل اسدال الستارة عن مسرحية الحياة، نلتقي على قارعة صدفةٍ، وقد هيأت لنا متكأينِ من ورد... وقهوة لقاءٍ تنتظر مراهِقين بلغا خمسينهما، أو ربما ستينهما... أو ربما...
فهل نلتقي يا رفيقي، أم............؟

 

Images rights are reserved to their owners

روحٌ... ومواجع


تقاطعت الأقدار متعاكسة الاتجاهات. فلم يبقَ سوى الفراق، آخر الأقدار.
فما فرقنا صحـراءٌ مـن الغربة، وزمـنٌ قاهرٌ... وسـوءُ توقيـت.

لكن!... لستُ وحيدة، كما يُخال لهم!
مزدحمة بك روحي، منذ صدفةٍ أرْدَتنا، على أخطر حافة في الحياة... العشق.
هناك... حيث أعدتَ تكويني، امرأة شاهقة الحزن، روحي مطرزة بوشم غائبٍ تحوَّل إلى جرح.
يمر بي العابرون، يرون غيمةً تمطر أحزانًا، تمطر هذيانًا... وحنين.
فيشرِعون مظلاتهم، ويكملون الطريق
.





Image rights are reserved to the owner












 

بؤسستان


في بلاد بؤسستان

نشرب الصباح

في فناجين المرارة

نكنس حطام أحلامنا

ونشعل بها مواقد الصبر.



ندفن العصافير المنتحرة

من علياء أبراج القهر

نوضب تغريداتها

في صندوق باندورا

نسجنها هناك في القعر

حيث يطيب النواح

مع أملٍ سجين.



في بلاد بؤسستان

نحفر مقابر جماعية

لبراءة الأطفال وفرح الفراشات

نقيم المآتم على موائد الفجيعة

نزغرد نواح اليمام

ونذرف الدموع أنهار دماء.



في بلاد بؤسستان

مشانق منصوبة

على قارعة كل حلم

يتدلى منها الحق

مُدْلَع اللسان

وكأنه جثة

تسخر من قاتليها.





Image No 1  rights are reserved to Christian edler

Images rights are reserved to their owners




لوز وسكّر


حرمهما الله نعمة الإنجاب، فامتهنا إضحاك الأطفال.
بعد سنواتٍ من العلاجات ومحاولات الحقن المجهري، أخبرهما الطبيب أن الإنجاب بالنسبة لهما مستحيل، إلا في حال حصلت معجزة.

كان نزار يملك متجرًا لبيع ألبسة الأطفال. بعد ليلةٍ من النقاشات بينه وبين زوجته الحبيبة، اقترحت عليه منى أن يفكر بتأسيس فرقة لتسلية الأطفال، بدل أن يناقشها بفكرة الانفصال.

وهكذا كان...
أسسا فرقة " لوز وسكّر"، زوجان مهرجان يقيمان عروضًا مسرحية في المدارس والمسارح.
ذاع صيتهما وأصبحا حديث الأطفال والعائلات. وقد عرضت إحدى محطات التلفزة المحلية عليهما، برنامجًا للأطفال يُعرض يوميًا... فوافقا.

مضت السنوات وهما يعملان بجدٍ، فذاع صيتهما، واتسعت شهرتهما.
لكن الزمن... غادرٌ ويهوى تنغيص هناء البشر!
اكتشف الأطباء ورمًا سرطانيًا في جسد منى!
 لم يخفها المرض أو يثنها عن تقديم العروض للأطفال، فكانت تقول لزوجها بعد كل عرض ومهما اشتد وجعها "ضحكات الأطفال هي أجمل ما في الحياة، فلا تتوقف عن إسعادهم أبدًا، مهما حصل لي".

ازدادت صحتها سوءًا مع مرور الوقت، ونزار يشعر بالعجز وهو يراها تضعف يومًا بعد يوم. إلى أن أعاقها المرض عن الخروج من المنزل.
كان لوز بعد انتهاء العمل يخلع قناع المهرج، ويعود إلى منزله الصغير، ليعتني بحبيبته سكّر محبوبة الأطفال، وينقل لها رسائلهم وباقات ورودهم التي يرسلونها لها، وهو يحاول أن يخفف عنها الألم. كان يروي لها قصصًا عن الأطفال الذين أضحكهم اليوم، وعن السعادة التي رآها في عيونهم.
لكن داخله كان محطمًا، فمنى لن تتحسن... هكذا أخبره الطبيب وختم بكلامه "للأسف... عليك توقع الأسوأ".

شهورٌ قليلة قضياها معًا بالألم والمعاناة والدموع...
ذات فجرٍ طلبت منه منى بصوتٍ ضعيف شربة ماء.
لم تكملها... أسلمت الروح بين يديه.
تحولت أيامه إلى ظلامٍ، فاعتزل الأضواء وأغلق باب منزله على نفسه.

بعد أكثر من شهر، على وفاة منى، كان أحدهم يضغط على جرس الباب دون انقطاع، ويدق بيديه الخشب وهو يصرخ "نزار... لن أرحل، وسأقرع الباب إلى أن تفتح لي".
أمام إصرار الزائر، لم يكن أمامه إلا أن يفتح الباب.
كان صديقه... مخرج البرنامج التلفزيوني.

بعد العديد من المحاولات الفاشلة، قرر صديقه أن يخرجه من عزلته عنوة، ومهما كلف الأمر.

في وقت عرض برنامج الأطفال، ظهر المخرج وطلب من الأطفال أن ينصتوا جيدًا. أخبرهم قصة وفاة محبوبتهم سكّر، وحزن لوز عليها، ورفضه الخروج من المنزل.
واقترح عليهم أن يتجمعوا بأكثر عدد ممكن أمام مبنى التلفزيون، ليرافقوه إلى منزل لوز، فربما يستطيع الأطفال إخراجه من أحزانه.
وهكذا كان... في الموعد المحدد حضر عشرات الأطفال مع أهاليهم للمشاركة في زيارة لوز.

فتح الباب بعد إلحاح صديقه المخرج، فدخل الأطفال صاخبين وهم يتعلقون بقدميه ويديه، ويصرخون "لوز... لوز..."
اقتربت منه طفلة جميلة وعلى وجهها ابتسامة ساحرة وقالت له "لوز... أنا أيضًا مثلك حزينة لأن والدي قد مات... لكن أمي قالت انه يراني من السماء، وأنه سيبكي إذا رآني حزينة... لا تحزن كي لا تبكِ سكّر وهي في السماء"
عانقته بحنان بالغ... فعانقها بحرارة.
في تلك اللحظة، أدرك نزار أن منى كانت على حق. ضحكات الأطفال هي أجمل ما في الحياة.

فقرّر أن يعود إلى المسرح، لا لأنه نسى ألمه، بل لأنه أراد أن يحوّل ذلك الألم إلى أملٍ جديد. أراد أن يكون مصدر سعادة للآخرين، حتى لو كان قلبه ينزف. تمامًا كما أوصته سكّر.

عاد لوز إلى ارتداء قناع المهرج.
وخلال كل عرض، لم يتوقف عن إخبار الأطفال قصة سكّر الجميلة التي أحبتهم وهي تراهم من السماء.
ويختم العرض برسالة حبٍ لها منه ومن أحبائها الأطفال.


Images rights are reserved to their owners

زهرة الجنوب


الفينيق (العنقاء) طائر أسطوري الذي خرج من الجنة، بجمال لا يوصف، دثاره الحكمة، اتّجه إلى الأرض ليختبر فيها الحياة.
استوقفته أثناء تجواله رائحة اللبان والبخور الصنوبري المنبعثة من أعلى شجر الأرز في لبنان. فبنى عشه واستوطن فيه. ومن أعالي الأرز كان ينشد أعذب الألحان ويتشارك مع الأفلاك السماوية نغماتها.

إلى أن!...
بدأ يختلط بالحياة الأرضيّة فلحقت به شرارة ناريّة من عذابات الناس وآلامهم فأحرقت عشّه، وتحوّل الطائر إلى رماد!
لكنها لم تكن النهاية، بل البداية.
فإرادة الحياة فيه كانت أقوى من الموت، انتفض من رماده مجددًا، وانبعث إلى الحياة وفي روحه ذكرى آلاف السنين.

كانت هذه الأسطورة هي افتتاحية حديثنا، زهرة وأنا.
كنتُ أعمل على كتابٍ يروي قصص المشاهير، وكنتُ منتدبة لكتابة قصة حياة رسامة من لبنان، وصلت شهرتها إلى العالمية.

وبدأت حكاية زهرة فقالت:
خاض لبنان منذ نشأته حروبًا لا تنتهي، لكن يقينًا أننا لم نعاني حربًا أشرس من حربنا مع العدو الإسرائيلي.
فيوم قرر اجتياح لبنان عام 1982 كان لي من العمر عشر سنوات، كنتُ أعيش في قرية جنوبية صغيرة محاطة بطبيعة خضراء خلابة.
كنت أحب الرسم، وأحلم بأن أصبح فنانة مشهورة أرسم لوحات عن جمال الطبيعة وسِحر أرض الجنوب.
رسمت السماء الزرقاء، والشمس المشرقة، والأشجار الخضراء. رسمت الأطفال يلعبون في الطبيعة، والطيور تحلق في السماء، ينابيع المياه، والتلال مكسوة بثلوج كانون/ديسمبر... رسمتُ أفراد عائلتي... كم رسمتهم في جميع حركاتهم وسكناتهم.
ذات يوم، وقد اختفت أصوات الطيران الحربي والغارات، جلستُ تحت شجرة السنديان الكبيرة في حديقة جدي، كان منزله يبعد عن منزلنا أمتارٌ قليلة.

مهول ما حصل!... لكنني لم أعرف تفاصيله إلا لاحقًا.
أذكر أن وهجًا شديدًا أعمى بصري، و....

فتحتُ عيناي، فطالعني وجه جدتي دامعة العينين، كنتُ أتألم في كل أنحاء جسدي. وفمي جاف كقطعة خشب، رطبتْ جدتي شفتاي بقطعة قماشٍ وقالت:لا تخافي يا عمري، أنا معك.

يوم فتحتُ عيناي وقد استعدتُ وعيي الكامل، علمتُ أنني في المستشفى منذ أسبوع تقريبًا.
"أين أمي!؟"
لم تكن أمي وحدها، بل أفراد عائلتي كلهم قد ارتقوا شهداء... أمي وأبي وأخوتي الصغار.
نظرت حولها وأكملت دامعة: هذا المرسم كان منزل عائلتي، وقد دمره الصهاينة فوق رؤوس أحبائي، فذابت أجسامهم في ترابه... بنيتُ هذا المرسم مكانه، لأخلد ذكراهم.

قادتني إلى قاعة فسيحة، تجولنا معًا وهي تشرح لي كل شيء عن اللوحات.
لوحاتُ تروي قصة حياة عائلة كانت تعيش بهناء وتعمل بجهد، لم تترك زهرة مناسبة أو مشهدًا للعائلة إلا وقد خلدته بلوحة.
في زاوية معتمة من القاعة، وقفنا دقائق صمتٍ مهيب، وزهرة تذرف دموعًا حارة. احترمتُ حزنها، وقد خنقتني العبرات. فهنا لوحات تحكي حكايتها مع اليتم وأحزان الفقد.
دقائق من الحزن والدموع مرت علينا ونحن في وقفتنا.

بعد جلوسنا مجددًا تابعت زهرة: عام 1985 كنت قد بدأتُ أتأقلم مع حياتي الجديدة، في كنف جدتي، أما جدي فقد فارق الحياة بعد استشهاد عائلتي بأشهر قليلة.
حلَّ ربيعٌ آخر، والحزن ما زال معششًا في زوايا المنزل، رغم جهودنا جدتي وأنا أن نخفي الأمر عن بعضنا، فقد كنا نواسي بعضنا، بصمت ونتواطأ مع الحزن كي لا يرتدي وجوهنا.
يوم عودتنا إلى المدرسة، بعد عطلة الربيع، أخبرتنا المديرة أن جمعيةً للعناية بأطفال الحروب ستزورنا.
كنتُ أحب الوحدة، وأفضل أوقاتي أقضيها منزوية في ركنٍ بعيد وحدي مع رسوماتي، فقصدتُ قاعة الرياضة لأنها تكون فارغة بهذا الوقت وجلستُ في زاوية بعيدة، أرسم...

كنت منهمكة بالرسم، فإذ بي ألمح امرأة تحمل كاميرا تنظر إلى رسوماتي، ابتسمت وقالت "هل يمكنني أن أرى رسوماتك؟"
نظرتُ ل إليها بحذر، ثم مددت لها الدفتر.

بعد أسابيع، انتشرت رسوماتي في الصحف والمجلات. تأثر الناس برسوماتي التي عبّرت عن معاناة الأطفال في الحرب. فبدأت المنظمات الإنسانية تهتم بي وبأوضاعي.

في سنتي النهائية في المدرسة، كنتُ قد طورتُ أدواتي وأسلوب رسمي، وقد أهداني عمي أدوات خاصة للرسم.
استدعتني مديرة المدرسة، دخلتُ إلى مكتبها فوجدتُ عمي وامرأة لا أعرفها.
عرفتُ أن السيدة هي معلمة في كلية الفنون. وهي تحمل لي عرضًا، كلية الفنون الجميلة تقدم لي منحة مجانية لدراسة الرسم.
نظرتُ إلى عمي برجاء، فابتسم وقال "إذا كنتِ موافقة فأنا موافق".


وبدأت مرحلة جديدة في حياتي. مرحلة مليئة بالألوان، رغم أنّ الحرب تركت ندوبًا في قلبي. لكنني كنت أعلم أنّ الفن يمكن أن يكون سلاحًا ضد الظلام، ووسيلة لإيصال صوتي إلى العالم... بفرشاتي قاومت الموت، وانتصرتُ على الحرب.

احتفالاً بالتخرج أقام لنا معهد الفنون معرضًا للوحاتنا، حضره فنانون وإعلاميون ووكالات أنباء عالمية، فقد كان عنوان معرضنا "أطفال الحروب".
عزمتُ خلال هذا المعرض على أن أخبر الصحافة عن مشروعي القادم، إقامة مؤسسة تُعنى بمواهب الأطفال الناجون من الحرب.

جاءني دعم مادي من أكثر من متبرع، والكل قدَّم ما يستطيع من إمكانات لينجح هذا المشروع.
مع مرور الوقت، انتشرت أعمالي خارج الوطن العربي.

نظّمتُ معارض فنية في عواصم كبيرة، يعود ريعها لصالح مؤسستي، مما زاد في أسعار اللوحات، بفضل أناسٍ آمنوا بي وبقضيتي.
وهكذا... وبفضلٍ من الله تعالى أصبحتُ رمزًا للأمل والإصرار، وصوتًا للسلام، ألقي محاضرات في الجامعات والمؤتمرات الدولية عن قوة الفن في التغيير النفسي والمجتمعي. كنتٌ دائمًا أقول إن الرسم ليس مجرد ألوان على لوحة، بل هو وسيلة لإيصال صوت من لا صوت لهم، وبناء جسور بين الثقافات.
والحمد لله أنني نجحتُ بأن أكون رسالة حية تُذكّر العالم بأنّ حتى في أحلك الأوقات، يمكن للفن أن يكون نورًا يضيء الطريق نحو السلام الداخلي.

أنهت زهرة حكايتها، وقد شعَّ من وجهها نورٌ ألهمني كتابة روايةٍ عن حياة إنسانة أشبه بطائر الفينيق، أحرقته الحياة فتمرد على الموت وقام من رماده، ليشع نورًا في ظلام المقهورين.


وهنا حضرتني مقولة ل سيجموند فرويد
"في كثير من الصدمات النفسية تتسامى النفس عندما تعجز في الوصول إلى أغراضها. تتسامى فتتجه ناحية الفنون كالشعر والموسيقى والرسم... ولذلك إذا تتبعت حياة الكُتاب والروائيين والفنانين، وجدت قصة دامية فتترفع النفس إلى المصاف الفلسفية فتزهد في الحياة وتترفع عن توافه الأمور".



Images rights are reserved to their owners



سكربينة ماما


لعل أولى الهوايات التي مارستها، كان تجربة كل ما يخص "ماما"، بدءًا من أحمر الشفاه، وليس انتهاءًا بفساتينها الملونة.
لكن أجمل تجاربي ستبقى تجربة الوقوف في "سكربية ماما"، فأتمايل وأنا أحاول المشي فوق كعبين شاهقين.
وعندما أقع أرضًا كانت أمي تبتسم بحنان وتقول "بكير لتكبري يا صغيرة"!

كبرتُ يا أمي، وأصبحتُ مثلكِ، أعجن الصبر مع خبز الصباح. وقد أيقنتٌ أن كعبكِ الشاهق إنما كان حصنكِ من الغرق في وحول الدنيا! الدنيا التي خضناها معًا كما لو كنا في متاهة، لا بداية لها ولا نهاية!

كبرتُ وأصبحتكِ يا أمي، وأنتِ تحملين الوطن في حقيبة، وتتنقلين بين حربٍ وأخرى.
كم نزوحًا عشناه يا أمي!؟ لعلنا عشنا ألف نزوح وألف عودة، والاستقرار سراب في هذا الأتون الذي يسمونه وطن!

كبرتُ يا أمي... كبرتُ مثلكِ تمامًا، القهر ينخر عظامي، والمعاناة في داخلي، ركام فوق ركام فوق ركام.
معًا كبرنا يا أمي ونحن نحمل ركام حيواتنا في هذا الوطن، وقد وهن العظم منا، فلم نعد نستطيع أن نرتدي "سكربية" بكعب عالي!
وقد تنازلنا عن أحلامنا ذات "الكعب العالي"، وهبطنا إلى حدود التمني أن تتوقف الحرب... فقط أن تتوقف الحرب.




Images rights are reserved to their owners

ولن ننسى


قيل أن الحرب وضعت أوزارها...
كنتُ منهكة كما لو أنني كنت على الجبهة أقاتل!
لا تصدقنَّ أحد يقول إن الأطباء لا يشعرون. نحن فقط نحاول قدر المستطاع أن نكبت مشاعرنا، فالانهيار ترفٌ ممنوع علينا، لأن أثمانه باهظة على الناس والمجتمع.

صمدتُ إلى أن...
منحتُ نفسي ترف الانهيار بعد أن انتهت الأعمال العسكرية... لن أقول انتهت الحرب! فالحروب لا تنتهي. هي فقط تستريح بعيدًا عنا، لتستجمع شراستها.
حصلتُ على إجازةٍ أستعيد فيها أنفاسي بعد الأهوال التي عشناها في القطاع الصحي، منذ يوم تفجير أجهزة البيجر، حين قام العدو الشيطاني بارتكاب أكبر عملية اغتيالٍ جماعي!

اخترتُ أن أقضي إجازتي في منطقة الشمال، القموعة/عكار. لما لها من ذكرياتٍ جميلة في نفسي، فهناك قضيتُ شهر العسل منذ عشرة أعوامٍ. وإليها أعود اليوم وحيدة بعد استشهاد زوجي الطبيب أثناء تنقله بين مستشفيات الجنوب.
هناك بين أرزها الشامخ، سمحت لنفسي بالانهيار. بكيتُ كل آلامي، بل بكيتُ آلام البشرية جمعاء منذ أن وجِدت.
أسبوع كامل وأنا أفرغ أحزاني في الطبيعة، كنت أمشي لساعات... أتسلق الصخور... أصرخ تحت أشجار الأرز، أحمّل الهواء بكائي ونشيجي. أندب زوجًا/حبيبًا... منذ أن رحل وأحزاني تتناسل بصمت كنمو أشجار الغابة.
أصبحتُ شؤم نبوءات العرافات، وأنين الخائفين. لم يعد في ذاكرتي سوى شمسٌ غاربة، وبـردٌ... ودهور حزن.
لا شيء فيَّ مكتملٌ إلا أحزاني. كما لو أنني منديلٌ في مهب الريح يلّوِح للراحلين. كما لو أنني أوراق مهمَلة، في مواجهة الريح... والهموم فوق رأسي ثقالة ورق.

مرَّ أسبوع وأنا على هذه الحال...
إلى أن اكتشفتُ أنني حامل!
فقررتُ أن أسجل ويلات الحرب في كتابٍ أتركه لابني وللأجيال القادمة، عن شراسة وإجرام عدو صهيوني، لن ننسى إجرامه، ولن نسمح للأجيال القادمة أن تنساه.

وضعتُ مخطط لكتابي، حسب مراحل حياتي في وطن منكوب بشياطينه وقديسيه.
الطفولة: وكيف لنبي أن يعيش في الجحيم!!!!
الوطن: أمل... كصخرة سيزيف. كلما رفعتها عاليًا تدحرجت لتدهسني.
الحاضر: زمن الدعارة الفكرية!
الحرب الأخيرة- لعلها كما أتمنى- وهل مَن يستطيع نسيان يوم انفجار أجهزة البيجر؟!
كانت صور الشباب تراود دموعي عن تحجرها، فأنزف دموع حارقة، شبانٍ مضرجون بدماء عيونهم وأطرافهم، يبتسمون في وجوه الطواقم الطبية، ويشدون من ازرنا!
مشهد غرائبي سريالي بامتياز. فمَن الأحق بالمواساة، نحن أم هم!
والأطفال؟... عملية الاغتيال تلك لم توفر كبيرًا أو صغيرًا، رجل أو امرأة!
أما اغتيال السيد حسن، فتلك مصيبة أخرى!
أفلم تتكالب علينا أمم العالم، بعد اغتياله!
يا ليلة 27 أيلول/سبتمبر 2024 هل علمتِ قبل أن تدخلي التاريخ أنكِ ستبقين ذكرى مشؤومة ما بقينا وبقي الليل والنهار!

وأنا أحضِّر قهوتي داهمت ذاكرتي صورة امرأةٍ حامل، كانت حالتها حرجة جدًا، وكيف لا تكون! والعدو صبَّ جامّ حقده على الآمنين في ضاحية بيروت الجنوبية.
باختصار... استطعتُ أن أخرج من رحمها طفلاً حيًا، بينما هي تسلِم الروح!.
حملت الطفل وبكيت، بينما الممرضة بجانبي تقرأ آيةً من القرآن... بسم الله الرحمن الرحيم {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}
ما هي إلا سويعات، حتى أغار العدو على مكانٍ قريبٍ من المستشفى!
وجدنا الطفل في الحاضنة مصابًا بشظية.
قرر الوالد أن يضع الرضيع في حضن أمه في القبر.
أخبرني أحد العاملين في المستشفى-وهو قريبٌ للعائلة- أن الأب كتب على شاهدة القبر "هنا ترقد أمٌ شهيدة لم ترَ مولودها، ورضيع لا يتعدى عمره ثلاث ساعاتٍ، شاهد خلالها أبشع جرائم العصر".

رفعتُ رأسي عن شاشة الكومبيوتر، فلاحظتُ أن منتصف الليل قد حل.
قررتُ أن أنام بضعة ساعاتٍ قبل أن أعود إلى العاصمة، حيث منزلي وعائلتي، لأعاود نشاطي الطبي في العيادة والمستشفيات، لأكون مع الناس وبين الناس كما كنتُ دومًا، وكما أراد زوجي الشهيد أن نكون.
سأستمر في تدوين مذكراتي عن الوطن. أريد لطفلي القادم أن يعرف كيف عاش والده وكيف قضى شهيدًا.
أريده أن يعرف إلى أي شعبٍ ينتمي، وأي هويةٍ يحمل.






Images rights are reserved to their owners













  













  

الناجـــــــــــي


لحظة!... لحظة!...
ماذا قلت؟...
قلت أنك أنقذتني من تحت الركام!؟
وهل تسمي إخراجي مقطوع الأوصال من رحم الركام نجاة!

والله يا عماه... لو أنني أعرف أن أتكلم لصرختُ بأعلى صوتي، أن... اتركني في حضن أمي، أشاركها أعجوبة الموت. أرافقها في رحلتها المجيدة نحو النجاة من شرور الأرض.

والله يا عماه... لو أنني أجيد الكلام، لطلبتُ أن تكفوني شر البقاء على قيد حياةٍ عرفتُ لحظة رأيتها أنها ساحرة شريرة، تركب مكنستها لتطارد ألعاب الصبيان... لتقتل خفر البنات ولتقتل ورود أحلامهنَّ.

عماه... أيها الأب المفجوع بجميع أفراد عائلته، يا مَن تنظر في وجهي من خلف دموعك، أقسم برأس أمي الشهيدة وبأبي الشهيد المفقود الأثر، أنهم جميعًا قد نجوا، وبقينا أنتَ وأنا على قيد القهر.

عماه... سامحني لن أبقى معك. فأوصالي المقطعة ستمنعني من طلب الثأر من قتلة الأنبياء والورود، ستمنعني من أن أرفع راية النصر يوم يرفعها قادة النصر.

عماه... ها هم يحاولون إنعاشي في المستشفى... فقل لهم لا فائدة، فالطفل ما زال متعلقًا بحبل سرّة أمه، ولا ألف سكينٍ يستطيع أن يقطعه.





 

Images rights are reserved to their owners