تحت صخرة سيزيف


نحنُ شعوبٌ مقهورةٌ، خدعنا القتلة كما خدع إلهُ الموتِ تاناثوس، سيزيف. فحكموا علينا أن نحملَ صخرةً بحجم نكبتنا بهم، وأن ندحرجها على جبلِ/دربِ الجلجلةِ. كنا كلما أوشكنا على الوصولِ، دحرجوها القهقرى وراءنا، فنركضُ أمامها لاهثينَ قبل أن تقتلنا. ثم نعيدُ الكرةَ بعد الكرة... وهكذا منذ الأزل.

بلغتُ من القهرِ عِتيًا، أصابتني سهامُ المللِ في مقتل، فتحتُ في جحيمِ الوجود نافذةً تطلُّ على سيزيف، حيثُ يدحرجُ صخرته في المقلب الآخرِ للحكايةِ، وسألته عن سبيلِ الصبرِ على دحرجةِ صخرةِ العقاب.
سألني عن عقابنا؟ فأخبرته كيف حكم علينا عبيدُ المالِ وقَتَلةُ الحياةِ أن ندحرجَ صخرةَ القهر، لعلنا ننسى ما يُقترف بحقنا من نكبات!
سمع بصمتٍ، بينما يدحرجُ صخرته صعودًا فصعودًا.
فجأة!... زعق بصوتٍ أشبه بانفجارٍ كوني، وقال: وما زلتم تنقادون لهم دون مقاومة!؟
فقلت: وما حيلتنا يا سيزيف؟... هل استطعتَ أنت أن تتخلص من عقابك!؟
سخر مني وقال: أما زلتِ تصدقينَ أنني حقيقي؟ ما أنا إلا أسطورة، لكنكم شعوبٌ من لحمٍ ودمٍ!
بكيت وقلت: وما ذنبي أنا؟
حرك يديه ليمرن عضلاته وأجاب: لا ذنبَ لكِ يا طفلتي... ابتعدي، سوف أتصرف أنا.
ابتعدتُ عن الفجوة التي تفصلني عنه، فحمل صخرته الكبيرة ورماها باتجاه "القتلة... سارقي الوطن".
رأيتهم تحت صخرةِ سيزيف، مسحوقين، دماؤهم أنهارٌ، يعوون كذئابٍ جريحة.
اقتربتُ منهم، وجدتُ إبليس وزبانيته يقيمون وليمةً حولهم، يشربون دماءهم/نبيذًا في كؤوس، ويقرّعونهم على ضعفهم وفشلهم.
ملأتُ كأسًا من دمائهم... رفعته وابتسمتُ لإبليس وأنا أقول: تشيرزز!

سمعتُ صوتَ أمي يناديني...
فتحتُ عيني... كنت أحلم.
قالت أمي: "كنتِ تبكين!"
فأجبت وأنا أفرك عينيّ: "بل كان حلمًا جميلًا وكنت أضحك."





Images rights are reserved to their owners 

موعد في الفالنتاين


14/2/2022يومٌ مميزٌ جدًّا.
الليلة ستلبي أماني دعوة معتصم على العشاء.
سيتكلمان عن تفاصيل زيارته لعائلتها، لطلب يدها للزواج.
هي أستاذةٌ جامعية، وهو أستاذٌ/دكتورٌ مثلها، مطلقٌ منذ سنوات، بعد أن قررت زوجته متابعةَ دراستها في الخارج، وتركته مع طفلٍ صغير.

جلسا متقابلين، هي مشرقةٌ بابتسامتها، وهو مرتبكٌ يهرب منها بنظراته.
رشفت من كوب الماء وقالت: معتصم؟! ما بك؟ لماذا تبدو متوترًا ومرتبكًا؟
أشعل سيجارةً بعصبيةٍ، وأجاب: لا أعرف... أنا في موقفٍ حرج!
أجابت بحنان: أخبرني... فلعلي أساعدك في حيرتك.
فقال بعصبية: لقد عادت والدةُ ابني من السفر.
أجابت: إذن...
مجّ سيجارته وأجاب: تريدنا أن نعود إلى بعض... تصوري بعد كل هذه السنوات!
ضحكت أماني وقالت: لا بد أنَّها تمزح! وماذا فعلت أنت؟
حرك يديه كمن لا حيلة له، ولم يُجب.
فتابعت: أخبرتها طبعًا أننا سنتزوج... ورفضتَ العودةَ إليها.
لم يجب، فتابعت: أليس كذلك؟
تابع التدخين برهةً، ثم قال: لا أعرف... لكنها أربكتني... و...
قالت متسائلةً: ألم تخبرها؟
أجاب: أفكر بـ...
قالت بحدّة: تفكّر!... تفكّر أن ترفضها يا معتصم!
وقفت وحملت حقيبتها، أمسك بيدها وقال: أرجوكِ يا أماني، اسمعيني...
أبعدت يدها وقالت: لو كنت تريدني، لما ترددت لحظةً أمام طليقتك.

وخرجت ترفل بأحمر أنوثتها المجروحة، والورد في الممرات يبكي أحلام امرأةٍ أهدرها ذكرٌ جاهلٌ بمشاعر النساء.







Images rights are reserved to their owners


اختطاف


يا لصَخَبِ هذا الاحتفالِ في رأسي!
منذُ أيّامٍ ثلاثٍ، ترقصُ الأفكارُ في دماغي، ترافقُها الذكريات، بينما يعزفُ لها الماضي على طبولِ الأحلام، والمخاوفُ هي المايسترو.
أستفيقُ صباحًا منهكةً، فأشتمُّهنَّ جميعًا... وأتوعدُهنَّ بالإبادةِ مساءً. تمدُّ إحداهُنَّ لسانَها وتزعقُ: "مجنونةٌ... لن تستطيعي!"
الليلةَ... هذهِ الليلةُ سأُبِيدُهُنَّ عن بكرةِ أبيهِنَّ، لعلّي أنام!
كان هذا قراري البارحة. فتمدَّدتُ على السريرِ وأنا أتملّقُهُنَّ جميعًا ليتحلّقن حولي، فأُبِيدَهُنَّ دفعةً واحدة.
وإذ بهِنَّ!... يتحلّقنَ حولي كغيمةٍ سوداءَ، حاطتْ بي من الجهات الأربع، ثم حملنني عاليًا... عاليًا، فوجدتُ نفسي في مكانٍ أشبهَ بقاعةِ محكمةٍ.
أجلسوني في مقعدِ الاعترافِ... وأعلنوا ضميري قاضيًا عليَّ.
كانت محاكمةً من "خارجِ الصندوقِ" فعلاً. فللمرةِ الأولى تتجسدُ أمامي أفكاري وأحلامي وذكرياتي ومخاوفي...

بدأت المحاكمةُ باستعراضٍ راقصٍ أدّت فيه أفكاري فالسًا على مقطوعةٍ لأندريه ريو...
وقفتُ وصفقتُ بحرارةٍ وقلتُ: لم أكنْ أعلم أنكِ راقصةٌ ماهرةٌ!
أجابتني إحداهُنَّ: لأنكِ عمياءُ البصرِ، فلقد كنا نرقصُ في الزوايا وأنتِ تسرحين بين أنغامِ اللحنِ.
ذهلتُ وأجبتُ: حقًا!؟
أجلسني مجددًا حلمٌ تركته يذوي منذُ عشراتِ السنينِ وقال: والآنَ حانَ دورُ المحاكمةِ.

جاء حلمٌ وعرَّف عن نفسه محاميَ الأحلامِ.
قال للقاضي: لطالما قتلت صغارنا في المهدِ.
نظر إليَّ القاضي وقال: أجيبي...
لم أجب، بل جلستُ على الأرضِ أبكي وأركلُ كطفلٍ عنيدٍ غاضبٍ.
قال المحامي: ولمَ هذا البكاءُ الآن؟
أجبتُ: لماذا خذلتموني وتخلّيتم عني؟
أجاب بحكمةِ عجوزٍ: وماذا فعلتِ أنتِ؟ هل حاولتِ التمسك بنا؟
بكيتُ مجددًا، فقال: حسنًا... حسنًا، اصمتي. لا داعي للبكاء.
فأجبتُ: أنتم تعرفون أن الظروفَ...
أسكتني القاضي بحركةٍ من يده وقال: هذهِ هي "الشماعةُ" التي تعلقون عليها فشلكم في لبنان.
قلتُ بحزمٍ: لا... أنت تعلم وضعَ البلدِ المأساويَّ.
أحسستُ بيدٍ على ذراعي، نظرتُ... فإذا هو حلمٌ صغيرٌ بريءٌ.
ابتسمتُ له بحُبٍّ وقلتُ: أما زلتَ طفلًا؟
أعطاني "بونبونةً" وقال: لا أريد أن أكبر.
قال القاضي: هل تعترفين بجريمة قتل الأحلام في المهد؟
بكيتُ وأجبتُ: أجل... أعترف، لكن لديّ أسبابي...
طرق القاضي بمطرقتِه على الطبلِ وقال: الاعترافُ سيّد الأدلةِ... أَحكم عليكِ بتربية صغارها إلى أن تكبر، ومساندةِ شبابها إلى أن يحقق ذاته.

دخل جيشٌ جرّارٌ ينفخ في آلةٍ تشبهُ البوق.
الذكرياتُ... تولّت أشدُّهنّ وجعًا دورَ محامي الدفاعِ.
تنحنحت وقالت: سيدي القاضي، أطالب بسجنِها من دونِ ماضٍ فهي ناكرةٌ للجميل. إذا قدّمنا لها ذكرى جميلةً... بكت. وإذا قدّمنا ذكرى أليمةً... سخرت أو شتمت. وإذا...
قاطعتُها وأجبتُ: هيي أنتِ! ألا تعلمين أن الذكريات المفرحةَ تُحزنُ أكثرَ من تلك السعيدة؟
نظرتْ إلى القاضي وقالت: ما معنى ذلك، سيدي القاضي؟
أجاب القاضي: معناه أن الذكرى المفرحةَ تبكينا لأنها لم تعد موجودةً، بينما تضحكُنا الذكرى المؤلمةُ بسبب سخافتها.
صُعِقَتِ الذكرى، ولم تعرف بما تجيب. فحاولتْ أن تلاعب طفلَها لتشتّت انتباهي.
قال القاضي: بُنيّتي لينا، ما قضيتكِ مع الذكرياتِ؟
أجبتُ: تدخلني في حلقةٍ مفرغةٍ من الأحزانِ والأفراحِ: أكونُ فرِحةً، فتأتيني أبشع الذكريات وأقساها، أكون حزينةً، فتظهر أسخف الذكريات وتستفزّني... والله أبدو مجنونةً حين تزورني... ساعةً أضحك، وساعةً أبكي.
سأل محاميةَ الذكرياتِ: هل تعترفين بأنكِ ومجموعتُكِ، تشوّشين مزاجَ ونفسيةَ المتّهمةِ؟
سكتتِ الذكرياتُ ولم تجب.
فطرق بمطرقته على الطبلِ وقال: حسنًا... هذا اعترافٌ. أَحكمُ على الذكرياتِ بأن تحملَ بعضَها بعضًا بالتناوبِ طول العمرِ.
أجبتُ بامتعاضٍ: وأنا ماذا أستفيد من هذا الحكم؟
رفعَ حاجبيه وقال باستهزاءٍ: اتلَهي يا لينا... "إنتِ ما تتحركشي بالحمى حتى ما تجيكٍ البردية!"*

دخلت المخاوفُ تولولُ وتندبُ.
رفعتُ حاجبي دهشةً... وقف كبيرُهُم أمامَ الماضي.
يرتدي أوراقًا مبللةً، أسنانه مهشّمةٌ، وجسدُه مغطّىً بالكدماتِ واللونِ الأزرقِ. ضحكتُ لغرابةِ مظهرِه.
دقَّ القاضي على الطبلِ وقال: تأدبي يا بنتُ!
أجاب كبير المخاوفِ: هل رأيتَ قلةَ الأدبِ التي أتلقاها منها؟ منذ زمن انهالت عليَّ بالمكنسة، ورمتني في الحقل تتبول عليّ كلابُ السككِ.
لا دخل لي... كلُّ من في القاعة ضجّ بالضحك. لكن القاضي سرعان ما تمالك نفسه وقال: ما قضيتكَ معها أيها العجوز؟
أجاب العجوز الخَرِفُ: قتلت صغارنا... أبادتهم. وكلما حاول أحدُنا مواجهتَها، صرعَته بالضربةِ القاضية.
التفت إليَّ القاضي فقلتُ: أجل... أجل... أعترف. لقد بلغتُ الخمسين، وأنا أرزح تحت نيرِ مكائدِ الدهرِ ومآسيِه، تدربتُ جيّدًا على الرقص مع أفكاري، والعيش مع أحلامي، والتحكّم بذاكرتي وذكرياتي، ومواجهةِ مخاوفي... لم يَعُدْ شيءٌ يُخيفني إلا غيابَك.
ابتسم القاضي ومسَدَ شاربيه وقال: غيابي أنا... هل أنتِ مُغرمةٌ بي يا بنتُ؟
أجبتُ: تأدبْ يا سعادتك... أليستْ ضميرًا؟... أنا أخاف من غيابِ الضميرِ...

غاب صوتُه... وسمعتُ صوتَ أمي تقول وهي تمسح على شعري: لينا... ماما لينا... استفيقي... لا بد أنّكِ كنتِ تحلمين.
جلستُ في السريرِ وقلتُ: بل كنتُ مخطوفةً!
ضحكت أمي فهي معتادةٌ على جنوني وقالت: نامي... سوف أُغطّيكِ.

 




*تتحركشي: تتحرشي
تجيكِ البردية: تصيبكِ القشعريرة




Images rights are reserved to their owners

وعادت أليس من بلاد العجائب


ليلُ الأربعاءِ- الخميسِ 19/20- 1- 2022، ليلةٌ عاصفةٌ في لبنانَ، الثلوجُ تكادُ تُغطّي البلدَ من شماله حتى أقصى جنوبِه، والصقيعُ جليدٌ يغلفُ الحجرَ والشجرَ. الناسُ في منازلِهم، يجتمعون حول مواقدِ الدِّفءِ، أما أنا فكنتُ وحيدًا في منزلي الكبيرِ، فسيدتُه غادرتْ منذ سنواتٍ، عندما اكتشفنا... أنني عقيمٌ لا أنجبُ!

نحن في منطقةٍ جبليةٍ باردةٍ جدًّا، هناك آثرتُ أن أعيشَ وأفتحَ عيادتي الخاصةَ بطبِّ الأطفالِ. كنتُ مدينًا لأهلِ بلدتي بالكثيرِ، فقد أحاطوني بالرعايةِ والحبّ، بعد أن استشهدَ والدايَ في واحدةٍ من أعنفِ اعتداءاتِ العدوِّ الصهيوني على لبنان. فكان-أهلُ البلدةِ إلى جانبِ أقربائي- عائلتي وملجأ أماني.
تكفلت عمتي بتربيتي بين أبنائها، بعد أن تولّت الوصاية على ميراثي، إلى أن عدتُ إلى ربوع الوطن... بشهادةٍ في جراحةِ العظمِ للأطفال.

بالعودةِ إلى ليلةِ العاصفةِ الأكبرِ لهذا العام، كنتُ ممدّدًا على الكنبةِ بجانبِ المدفئةِ، أقرأُ روايةَ "الحياة رواية" للكاتب الفرنسيّ غيوم ميسو، أنا من أشدّ المعجبين برواياته، رغم أن أصدقائي يستغربون حبي الأدبَ، أنا البعيدُ عن هذا العالمِ، مسافةَ سنةٍ ضوئية. لكنني فعلاً ومنذ صِغري، هاوٍ للأدبِ وشغوفٌ بالقراءةِ.
كنتُ مستغرقًا في القراءة عندما رنّ هاتفي في ساعةٍ متأخرةٍ نسبيًّا من اللَّيل، الرقمُ يعود لعمتي. ابتسمتُ تلقائيًّا، فعمتي الحبيبة لا تتوانى عن الاتصالِ بي لتطمئنَّ عني في أيِّ وقتٍ، فهي تعرف أنني أسهرُ طويلاً.

كان اتصالُها هذه المرة مختلفًا، فحفيدتُها الرضيعةُ حرارتُها مرتفعةٌ وتبكي بشدّةٍ.
حملتُ في حقيبتي كلَّ ما يلزم، وتوجهتُ إلى منزلِ عمتي.
ابنتها اليسار -والدة الطفلة- زوجةٌ مُقالةٌ من منصبها، كانت خطيبةً لجارٍ لهم، تركها حاملًا وسافر إلى بلاد الغربة... أنكر صلته بحملِها، وتبرّأ من طفله قبل أن يولد.
أشرفتُ على ولادتِها منذ حوالي الشهرين... وما زالت قضيةُ نسب طفلتها طيّ الكتمان بين العائلتين.

كان والدها أستاذَ مادةِ التاريخ في الجامعة-رحمه الله- قد أطلق عليها هذا الاسم إعجابًا باليسار ملكةَ قرطاج. 
لكننا كنا نناديها "أليس في بلاد العجائب" عندما كانت تروي لنا حكاياتها ومغامراتها مع صديقها "بينغو" الذي وُلد من نبتة الترمس! لما نبتة الترمس تحديدًا؟ لأنها كانت مغرمةً بزهرتها الجميلة ولونها البنفسجي.
كانت اليسار أو أليس كما تُحب أن نناديها، طفلتنا المدللة وأميرتنا الصغيرة.

انخفضت حرارة الطفلة فجرًا، وتحسنت حالُها. حاولت عمتي ثنيي عن الذهاب في هذا الوقت، وقد تراكم الثلجُ في الدروب، لكنني أصررتُ أن أنام في سريري. فسمحت لي بالمغادرة بعدما وعدتها أن أعود ظهراً لتناول الغداء معهما، هي وأليس.
كانت عمتي تعيش وحدها مع ابنتها، فأبناءها الرجال الخمسة كانوا منتشرين في أصقاع الأرض، بحثًا عن حياةٍ ومستقبلٍ لأبنائهم.

قبل أمتارٍ قليلةٍ من منزلي، سمعتُ صراخَ طفلٍ! طفلٌ يبكي. تلفّتُ حولي فلم ألاحظ شيئًا. فجأة... وجدتُ على باب منزلي لفةً فيها رضيعٌ يبكي!!! يا إلهي!... أذهلتني المفاجأة، فمن هذا الطفل؟ ومن تركه على بابي؟
أدخلته إلى المنزل، وبدأتُ بعمل كلّ ما يلزم لتدفئته، فقد كان لونه قد بدا أزرقَ من شدّة البرد. كان صبيًّا، لعله مولودٌ منذ بضعة ساعاتٍ أو يومٍ على الأكثر، فالصرّة لم تكن قد وقعت بعد.
أعطيته مشروبَ اليانسون كي يهدأ، لكنه جائعُ... بالتأكيد جائع. فماذا أفعل يا ربي؟
تفحصتُ الكاميرات المحيطة بمنزلي، لعلي أعرف شيئًا عن الطفل. لكن!... كل ما ظهر هو شبحٌ مغطى بقماشٍ أسود، وضع الطفل على عتبةِ بابي، وغادر!
ولم يسكت الطفل عن البكاء، تذكرتُ أليس، فحملت الطفل وقصدتُ منزل عمتي.
شعر الطفل بالدفء في حضنِ أليس، وتكور غافياً بعد أن أرضعته من صدرها.

لم تستطع تحريات المخفر أن تعرف أي تفاصيل عن الحادثة، فحقًّا انشقت الأرض وابتلعت الشبح أمام منزلي، لم يعرف رئيس المخفر أي تفصيلة ترشدنا إلى والدة الطفل.
بعد عدة أيامٍ من البحث، والطفل يعيش هانئًا في حضن أليس، قرّر رئيسُ المخفر تحويل الطفل إلى مركزٍ للأيتام، لكن!... أليس تعلّقت به لأقصى درجة، وأنا كذلك. كنت أعود مساء من عيادتي لأساعدها بالطفلين. كم أحببتُ دوري الجديد.

ليلة وداع الطفل كانت ليلة حزينة، كانت أليس تبكي من أجل الطفل اليتيم، ومن أجل البرد الذي سيعيش فيه من دون والدة تحضنه، كنت أبكي معها من الداخل، قلبي ينزفُ حُزنًا، "أين العدل يا الله؟... أنا أتمنى طفلًا، والناس يرمون أطفالهم على أبواب الغرباء".

استدعتنا عمتي، أليس وأنا، لنشاركها قهوة الصباح. كان يبدو على كلينا الإرهاق بسبب السهر وعدم النوم.
صبت لكلٍّ منا فنجانَ قهوةٍ، ثم نظرت إلينا وعلى وجهها ابتسامةٌ خجولة، وقالت: ما رأيكما أن نربي الطفل نحن؟
أجابت أليس بأسى: ليتني أستطيع، لكنكِ تعرفين وضعي.
نظرت إليّ عمتي بخجل... تنحنحت وقالت: رامي يا حبيبَ عمتك... ألا يهمّكَ أن تصبحَ والدًا؟
فقلتُ بغصةٍ: يا ليت... لكن!...
أردت أن أقول "كيف وأنا عقيمٌ".
قالت عمتي: تزوج أليس واحتفظا بالطفل.
أحمرت أليس وقالت مستاءةً: ما هذا الذي تقولينه يا أمي!
لم تجب عمتي، بل كانت تنظر إليّ وعلى وجهها ابتسامةٌ حنونةٌ دافئةٌ، كدفءِ الشمس بعد عاصفة.
أجبتُ بحماسٍ: يشرفني يا عمتي... إذا وافقت أليس أن تتزوج عجوزًا مثلي.
قلتُ هذا لأنني أكبرها بحوالي 15 عامًا.
ولم تستسلم عمتي، وكنت سعيدًا بما تفعله، أقنعت أليس أن توافق على الزواج بي.

صباحيةُ زواجنا كانت أليس ترفلُ بالأبيض وهي تحضر الفطور، اقتربتُ منها، قبلتُ أناملها وقلتُ: حوريةٌ من الجنة، وطفلين... ماذا أريد أكثر!
ضحكت بخفرٍ وأجابت: هل ستثق بي؟ لم أعد مجنونةً مثل السابق.
قبلتُ رأسها وقلت: أثق بأنكِ ستكونين توأم روحي... وأجملُ الأمهات.
لا بدّ أن أخبركم... لقد سجّلتُ الطفلين على اسمي واسم أليس... كتوأم.





Images rights are reserved to their owners