أليس في شبكة العجائب


وهو يبحثُ في غرفةِ كنوزهِ، وقعت بين يدي رامي قصةُ "أليسَ في بلادِ العجائب"... أذهلتهُ الذكرى. لطالما أحبَّ هذه القصةَ، ولطالما اعتبرَ أليس صديقتَهُ ورفيقتَهُ التي يُرافقها في جميعِ رحلاتِها ومغامراتِها.
فتح الكتاب، فوجد كلماتٍ مكتوبةً بقلمِ الرصاص... إنَّه خطُّ يدهِ: "أليس سوف أبحثُ عنكِ... وسنعيشُ معًا في الغابةِ".
ابتسمَ فرِحًا بالذكريات، معجبًا بثقتهِ بنفسهِ رغم صغرِ سنِّهِ.
"أليس!؟... وهل كنتُ حقًا أُصدقُ أنَّها موجودةٌ!؟".

خرجَ رامي إلى الحديقةِ يحملُ الكتابَ في يدهِ، والابتسامةُ على مُحيَّاهُ.
فتحَهُ... رفرفَ قبسٌ من نورِ الشمسِ وقبَّل عيني أليس النائمةِ، فرمشَت وفتحتهما... نظرتْ إليه بدهشةٍ لا تقلُّ عن ذهولهِ برؤيتِها تتحرَّك.
فتحت عينيها تمامًا ونظرت إليه مَلِيًّا، ثم ابتسمت ببراءتها المعتادةِ وصرخت: راااااااامي!!
ذُهِل ونظر حوله... ثم دعك عينيه ونظر إليها مجددًا وهمس بحذر: هل تُكلمينني أنا!؟... هل أنتِ... حقيقيةٌ!!!؟
ضحكتْ بمرحٍ وأجابت: ومَن غيرُكَ هنا؟! رامي، ألستَ أنتَ من أيقظني!؟
حكَّ رأسَه وأجاب: حسنًا... أنا... لا أعرف!... لعلِّي أحلمُ.
قفزت من القصةِ وجلستْ أمامهُ على العشبِ وهي تقول: لا... أنتَ لا تحلم... أنا حقيقةٌ هنا معك.
راقته اللعبة، وكأنَّهُ يَلعبُ دورًا في مسرحيةٍ هزليةٍ. ابتسم وقال: حسنًا يا أليس... وما هو المطلوبُ مني؟
التفتت إلى اللابتوب وقالت: طالما سمعتُكَ تهذي كلامًا غيرَ مفهومٍ عن هذا الشيءِ!... ذات ليلةٍ وعدتني أن تريني مكانًا عجيبًا أكثرَ من حكايتي.
حكَّ رأسهُ مجددًا وقال: حقًا!؟... لا بدَّ أنني كنتُ نائمًا... أمي تقول إنني أتكلم كثيرًا وأنا نائمٌ.
أجابت أليسُ بثقةٍ: أعرفُ ذلك... فأنا معك في غرفتك، هل نسيتَ!؟
ضحك وقال: يا للعار... هل كنتِ تسمعين وترين كلّ شيء؟!
وكزته في صدره وهي تقول: يا لك من ولدٍ فاسدٍ، أنا فتاةٌ صغيرةٌ في قصةٍ للأطفال، فلا تفتَحْ عينيَّ على ما لا يجب أن أعرف.
أجاب وهو يقهقهُ: حسنًا، لن أكرر ذلك.
اقتربت منهُ وهي تقول: والآن خذني إلى بلادك العجيبةِ.
فقال بجديةٍ: أليس، هل أنتِ متأكدةٌ؟... فعالمُ العجائبِ الذي أعرفه لا يليقُ بطفلةٍ مثلكِ.
أجابت بثقةٍ: لكنني أريد أن أرى هذا العالمَ، الذي فاقَ حكايتي عَجائبيةً.
فقال: حسنًا...

شرحَ لأليس عن الشبكةِ العنكبوتيةِ "الإنترنت"، وعن كلِّ ما تحويهِ من معارفَ وكنوز، وشرح لها كيف يستخدمها الجهلة... دمَّروا اللغة... نشروا الترهاتِ والسخافاتِ... ولم يتركوا للنخبةِ من المثقفينَ والمبدعينَ إلا أضيقَ المساحاتِ!

... ثم أدخلها إلى بلادِ العجائبِ في العالم الافتراضي.
فعلًا بلادٌ عجيبةٌ، أضواءٌ... أضواءٌ في كلِّ مكان... غرفٌ من أضواءٍ... مدنٌ من أضواءٍ...
أحرفُ اللغةِ العربيةِ بين قتيلةٍ وجريحةٍ مُلقاةٍ في الشوارع، تصرخُ من الألمِ.
بكت أليسُ وقالت: لِمَ الحروفُ قتيلةٌ هنا!؟
أجاب رامي: ألم أقل لكِ إنَّ أجيال الأجهزةِ الذكيةِ، عقولُهم غبيةٌ؟!
لا يمكنُ أن يضعوا حرفًا في مكانه، وإذا حاول أن يأخذَ مكانه... - وتابع وهو يشير للقتلى والجرحى من الحروف - يكونُ هذا مصيرَه.
فجأةً سمعت أليسُ ضجيجًا. أقنعةٌ تتنقل... تركض... تضحك... تشتم... تبكي... تتعارك... تتحابُّ... تُقَبِّل بعضُها بعضًا... آلافٌ وآلافٌ من الأقنعةِ.
سألت أليسُ بدهشةٍ: رامي!... كيف تستطيعُ الأقنعةُ أن تتحرَّكَ وحدها؟
أجاب: هي ليست وحدها، فَتَحتَ كلِّ قناعٍ يوجدُ شخصٌ ما يُحركه كيفما شاء.
فسألتْ: لماذا يفعلون ذلك!؟
أجاب بحركةٍ من يديه: هنا الجميعُ مُتنكرٌ... لا أحدَ يدخلُ بوجهه الحقيقيِّ.

"رامي... ماذا يدورُ في عقلك؟"
قرأت أليسُ الجملة وقالت: ما معنى هذا السؤال؟
فقال رامي: نحن الآن في مملكةٍ اسمها "فايسبوك"، تعالي سوف تشاهدين أكبرَ حفلٍ تنكريٍ في التاريخِ.
الكلُّ متنكِّرٌ... الكلُّ يجلس في غرفةٍ من نورٍ وأمامه شاشةٌ ينهمكُ بعمله عليها.
قالت أليس: ماذا يفعلون!؟
أجاب رامي: كلٌّ يغنِّي على ليلاه... تذكرين السؤال"ماذا يدورُ في عقلك؟"... حسنًا، هم يكتبون كلَّ ما يدورُ في عقولهم من ترهاتٍ وجنونٍ.
يتبادلون المجاملاتِ وكأنهم أحباءُ، مع أنهم في الواقعِ لا يلتقون ولا يعرفُون بعضهم أيضًا. كما أنهم يتعاركون كما لو أنهم في ساحةِ حربٍ، مع أنهم غرباءُ لم يسبقْ لهم أنْ تقابلوا يومًا.
فسألت أليسُ: وما الذي يجبرهم على هكذا أفعالٍ!؟
أجاب رامي بتلقائيةٍ: الملل... هم فقط أناسٌ يشعرون بالملل، فيتسلون بالكلام... والكلام...
... هنا ينشرون معاناةً لم يعرفوها، يكتبون عن أفراحٍ لم يعيشوها، ويبكون على أحزانٍ وهميةٍ لا وجود لها. يجاملون بعضهم بعذبِ الكلامِ من أجل نيلِ "الإعجابات" (اللايكات).. تعالى أريكِ كيف.

بعد جولةٍ على كيفية العمل على جدران الفايسبوك، قالت أليس:
مجانين فعلاً... يضحكون عليَّ لأنني أُكلم الحيواناتِ، لكنهم هنا يُكلمون الجدران!
ضحكا معًا... وقد دخلا إلى مدينةٍ يتعاركُ روادها فيما بينهم. أصابت شتيمةٌ فستانَ أليسَ، فأمسك رامي برأسها وأنزلها معهُ إلى الأرض وهو يقول: حذارِ.
ذهلت أليسُ وسألت: ما بهم؟ لماذا يتعاركون!؟
ضحك وقال: أهلاً بكِ في "تويتر"، مملكة التنمُّر. هنا يتقاتلون على مدار الأيامِ، والداخل بينهم لا يعرفُ من أين يمكن أن تأتيه الضربةُ ومِن مَن.
بكت أليسُ وقالت: أخرجني من هنا... أنا خائفةٌ.
أخذها من يدها وسارا وهو يقول: معكِ حق... أنا أخافُ منهم أيضًا.
ثم ضحك بعصبيةٍ وقال: الأوغاد... لطالما شتموني دون أن أعرف السبب!

فجأةً وجدت حشدًا من الشبان والفتياتِ، يرقصون... يغنون... يقومون بحركاتٍ مضحكةٍ.
فرحت أليسُ وقالت: حفل!... هيا نرقص معهم.
منعها رامي من التقدمِ وقال: مهلاً أليس... نحن هنا في "التيك توك" إمارة الفنِّ والمهووسين بالشهرةِ. إذا حاولتِ الاقتراب منهم سيقتلونكِ، لأنكِ ستُخربين الفيديو الذي يصورونه.
هزّت برأسها وأجابت: لم أفهم!
فقال: هنا يُصورون كلَّ حركةٍ يقومون بها... رقص... غناء... رياضة... كلَّ ما يفعلونه يُصورونه لينشروه على الإنترنت، وذلكَ بهدفِ الشهرةِ.
اشمأزت أليسُ وأجابت: لا يعجبني ذلك، فلطالما عانيتُ من كوني طفلةً شهيرةً.

دخلا إلى شارعٍ متفرعٍ يبدو عليه الهدوء، فهنا يعمُّ السُّكون. يلتقطون صورًا بوضعياتٍ مختلفة - منها وضعياتٌ مخجلةٌ - لكنهم في قمةِ الفرحِ والابتسامة على وجوههم.
أشارت أليسُ بيدها علامة السؤال، وكأنها تقول لرامي: ما هذا؟
ضحك وقال: مدينة الموضة والجمال "إنستاغرام".
هزّت برأسها "ما معنى ذلك؟"
فقال رامي: هنا تجدين كلَّ فناني العالمِ ومشاهيره و"معجبيهم"، يلتقطون لأنفسهم الصور وينشرونها... هل من داعٍ لأخبركِ لماذا؟
هزَّت أليسُ برأسها علامة النفي وقالت: لا داعي... بدأتُ أستوعبُ جنون هذه البلاد.

وصلا إلى مدينةٍ راقيةٍ، كلُّ شيء فيها جميل ومنظم. وكلُّ فردٍ يجلس أمامَ شاشته يعمل بجدّ.
سألت أليسُ: ما هذه المدينة!؟
قال رامي: إنها إمبراطوريةٌ حياديةٌ، روادها أشخاصٌ جادون مجتهدون، من كلِّ المجالات، يعملون من أجل الفن والإبداع والثقافة لا غير.
هنا تجدين كُتَّابًا وشعراءَ وفنانين ومثقفين من جميعِ أنحاء العالم.
رأت أليسُ أسوارًا عاليةً جدًا حول الإمبراطورية، فسألتْ عنها.
أجاب رامي: بُنيت هذه الأسوارُ بهدف صد هجمات "رويبضةِ" الشبكة العنكبوتيةِ.
تعبيرٌ مضحكٌ ارتسم على وجه أليس وقالت: هاااااه!؟
ضحك رامي وقال: "الرويبضة" هو الشخصُ التافهُ السخيفُ الذي لا يتحمَّل أي مسؤولية ولا يعرف شيئًا.
ضحكت أليسُ وقالت: فعلاً إنك سيبويه... تليق بك دراسة الأدب!
ضحك بدوره وقال مستهجنًا: أتعرفين سيبويهَ؟
أجابت بثقة: أجل، فقد تتلمذتُ على يديه حين نقلوني إلى النسخة العربيةِ لقصتي.

مدَّ رامي يده لأليس وقال: هيا بنا سوف نزور الآن...
قاطعته أليسُ وهي تحرك يدها علامة الرفض وقالت: لقد اكتفيتُ من عالمكَ المجنون هذا. أعدني إلى بلادي العجيبة، فهي أجملُ وفيها متعةٌ خاصة.
قال مستنكرًا: لكنكِ لن تعرفي هذه الممالك وتفهمي سياستها، إلا إنْ زرتها كلها، وعِشتِ فيها وخالطتِ روادها!
ابتسمت بدهاء وقالت: نحن في زمنِ الكورونا، ومن الخطأ أن نخالط!
ضحك وقال: يا إلهي!... ومن أين لكِ أن تعرفي عن الكورونا!؟
ابتسمت بثقةٍ وأجابت بينما هي تقفز من شاشة اللابتوب: من عيشي معكَ في غرفتك.
ضحك بمكرٍ وهو يلحق بها، فلكزته بكوعها في جنبه وصاحت:
يا لكَ من "أزعر".

نظر إليها متفاجئًا بالتغييرِ الذي طرأ عليها، إذ لاحظ أنَّها قد أصبحت صبيةً حسناءَ في ريعانِ صباها.
قال محتارًا: أليس!؟... لقد كبرتِ يا بُنيَّتي!
دارت حول نفسها تستعرض جمالها. وأجابت: عالمك يا صديقي تشيبُ فيه الولدان... فالحمد لله أنني توقفتُ عند مرحلة الصبا.
سألها بجدية: هل ستعودين معي إلى المنزل؟
قالت: لا، لم تعدْ قصة "أليسَ في بلادِ العجائبِ" مكاني، لقد كبرتُ. سوف أعطي الدور لابنة أختي - اسمها "أليس" أيضًا - وسأنتقل أنا إلى قصة أخرى.
شعر بحزنٍ مفاجئ وقال: لكنني أريدكِ معي دائمًا!
رفعت يديها كمن لا حيلة له وقالت: إذن اطلب من كاتبةِ هذه القصة أن تجمعنا معًا في رواية نعيش فيها إلى الأبد.

ركع رامي على ركبتيه ورفع يديه قصدَ الرجاء وقال لي: سيدتي الفاضلة، أرجوكِ... أرجوكِ... اجمعينا في روايةٍ معًا... فهذه حبيبتي منذ الطفولة!
ابتسمتُ بعطفٍ أمومي وقلت: موافقة... سأفكر في حكايةٍ جديدةٍ لكما.
صفقا إعجابًا... واحمرَّت وجنتاهما فرحًا.
ثم قلتُ متأسفةً: حسنًا، والآن يجب أن تُوَدِّعا بعضكما، كي أنقلكما إلى مكانٍ آخر.
غمرها بحنانٍ ولهفةٍ، فالتصقت به.

لحظتها خطرت لي الحكاية...





Images rights are reserved to their owners


















No comments:

Post a Comment