تغريدة عصفور


صفق الباب وراءه وهرول مسرعاً إلى الخارج، وكأنه يهرب من عاصفة هوجاء يمكن أن تجعل منه هباءً منثوراً. قاد سيارته بأقصى سرعة، كاد أن يطيح بجميع السيارات من حوله، لكنه لم يهتم، هو يريد فقط أن يفرغ طاقة الغضب من داخله.
قطع مسافة طويلة نسبياً وهو على هذه الحال، إلى أن بدأ غضبه يهدئ ، فخفف سرعته.
وفجأة!... وفي مكانٍ شبه خالٍ من الحجر والشجر والبشر... سمع تغريد عصفور!
لم يستوعب سبب وجود عصفور في مكان خالٍ كهذا. لكنه تساءل بينه وبين نفسه بأن "يا الله... ماذا يريد أن يقول هذا العصفور!؟"
عادت به الذاكرة إلى سنيّ طفولته، حين كان يذهب ووالدته برفقة الجيران إلى حرج بيروت، حيث التراب والشجر... والأطفال منتشرون في كل مكان يلعبون ويمرحون.
ذات يومٍ، وبينما هو يلعب بجانب شجيرة صغيرة، سمع تغريد عصفور. اقترب من والدته وسألها "ماما... ماذا يقول هذا العصفور؟"
لكنه لم يذكر ما كانت الإجابة!
"ماما... ماذا كان يقول ذاك العصفور!؟... وماذا يقول هذا العصفور؟"
وحدها والدته تعرف الجواب، كرر سؤاله طوال الطريق محاولاً أن يتذكر، لكن مستحيل... هو لا يذكر شيئاً. حين أصبح على مشارف الحي حيث يسكن، تذكر أنه مغترب، وأن آلاف الأميال تبعده عن وطنه ووالدته... ووالده الوحيد.


من يقرع بابها في هذا الوقت!؟... فتحت والدته الباب، فوجدته يقف فيه، على محياه تعبٌ... وإرهاقٌ... وحنينٌ مؤلم... وشبح ابتسامة ذابلة.
"يا إلهي!... أهذا أنتَ يا بنيّ؟ أيعقل أنك تذكرتني بعد كل هذه السنوات!؟"
ارتمى بحضن والدته وشهق بالبكاء!... فتساقطت دموعها وهي تضمه إلى صدرها.
أجلسته على الكنبة وهي تلمس رأسه ووجهه، غيرُ مصدقة أن ابنها الحبيب قد أصبح رجلاً. كانت تضحك وتبكي... وهو يبتسم مرتبكاً وتنهمر دموعه بصمت.

حسبته قد عاد لمحاسبتها على الماضي فأخذت زمام المبادرة وبدأت بالكلام: عندما أحببتُ ذاك الغريب، كنتُ طفلة لم أتعدَ الخامسة عشر من عمري، وبطبيعة الحال أن والداي لم يقبلا بذلك، ومنعاني من رؤيته. وعندما بلغتُ السادسة عشرة زوجوني والدك. لكنني لم أكن قد نسيتُ بعد الرجل الغريب ذاك، ولم أتقبل فكرة حرماني من الحب. لكنني تحملتُ معاشرة والدك لمدة عشر سنواتٍ لأجلك أنتَ، فقد كنتَ قد جئتَ إلى الحياة، ولم أعد أستطيع أن أهرب من حقيقة كوني قد أصبحتُ أماً.
لكن صورة ذاك الرجل لم تفارق خيالي، وبقي في ذهني شاب جميل الطلعة، فارسٌ عاشق أخلص لي رغم زواجي، وبقي عازباً بانتظاري...
عندما بلغتَ أنتَ العاشرة من عمرك، كان والدك قد وصل إلى أسوء حالاته. مقامرٌ سكيرٌ... كرهته... وقاتلتُ بشراسة إلى أن حصلتُ على الطلاق. فعاقبني والدك بأن حرمني من حضانتك ومن رؤيتك. لكنني كنتُ غارقة في أحلامي- أو سمها أوهامي- بأن الرجل الذي أحبه سيعيدكَ إلى حضني بعد أن نتزوج، فهو يحبني ولن يقبل بعذابي.

... اتصلتُ بعد طلاقي بمن اعتقدته حبيبي، فتواعدنا على اللقاء في مكاننا المعتاد وعلى نفس الطاولة، لنستعيد ذكريات الماضي.
ولأنني كنتُ متلهفة لرؤيته، فقد ذهبتُ قبل الموعد بساعة، كي أجلس في الظل لأمتع نظري به قبل أن ألقاه.
جلستُ في مكانٍ قريبٍ من مكاننا المعتاد، حينما اكتشفت وجوده هناك على طاولتنا مع صبيةٍ، واضحٌ أنها تصغرني كثيراً في العمر.
لجمتُ دهشتي لأسمع ما كان يقول لها!... لقد كان يحدثها عن امرأة مطلقة تلاحقه بعد أن ملت من زواجها. وأنه اليوم سوف يعلمها درساً في الوفاء، بعد أن يستدرجها للاعتراف بأنها ما أحبت سواه، فقط ليراها ذليلة أمامه، بعد أن تخلت عنه منذ أكثر من عشر سنوات وتركته نهباً لسخرية أصدقائه!
كان مشهد سقوطه من قلبي مروعاً... لقد أحسستُ وكأن قلعة حصينة قد انهارت فجأة بسبب هبة ريح خفيفة! يا إلهي... أيعقل أنني عشتُ في الوهم طوال هذه السنوات!؟ أيعقل أنه حقير لدرجة أن لا يقدِّر تضحيتي!؟ أيعقل أنني قد أحببتُ وهماً؟... رجلاً خيالياً لم يكن له وجود إلا في أوهامي!؟
عندما انهارت تلك القلعة، بانت صورة والدك أمام ناظري... واضحة وضوح الشمس وسطوع الحقيقة. لقد كان مغرماً بي، وكان يفعل المستحيل لأجل إسعادي! لكنني كنتُ منطوية على نفسي... باردة المشاعر كزوجة... جافة كأنثى... وصنمٌ كامرأة في المنزل! لذا فقد كان والدك يخرج من المنزل غاضباً، هارباً من برودي وانغلاقي على نفسي. وأنا ولشدة أنانيتي وغرقي في أوهامي- تصورته مجرد مستهتر سكيرٍ مقامر، ولم أعد مستعدة لأن أسمع منه أي تبرير لأفعاله، يحاول أن يخبر به أهلي وأهله. لقد ظلمته ببرودي وانغلاقي على نفسي، وظلمتكَ أيضاً لأنني تخليتُ عنكَ وخضعتُ لأوامر والدك بأن لا أراك. أما ظلمي الأكبر فكان لنفسي لأنني تعلقتُ بوهمٍ... أنا نادمة لأنني عشته... وما زلتُ حتى الآن نادمة على كل ما فعلته وعلى كل ما حصل.
تنهد بعمق موجع وسألها: لماذا لم تعودِ إلى والدي؟
مسحت دموعها وأجابت: لأنه لن يسامحني... وسيعتبرني خائنة لا أستحق الصفح.
فأجاب: لكن والدي أخطأ بحقكِ أيضاً... لقد اعترف لي بذلك منذ أن عدتُ من سفري... كان يريدكِ أنثى كاملة دون أن يحاول أن يفعل شيئاً لكسب حبكِ وقلبك. فقد كان يتصور أنه ولمجرد كونه غنياً فإن هذا سيجعلكِ حتماً تغرمين به... لكنه نسي أن يعاملكِ كإنسانة لها مشاعر... كامرأة من لحم ودم ومشاعر.

شردتْ بأفكارها والدموع تترقرق في عينيها. فأراد أن يعيدها إلى الواقع فسألها: ماما... ماذا كانت تقول تلك العصفورة؟
لم تفهمه... لكنه شرح لها الموضوع فتذكرت وقالت: كانت قد أضاعت صغارها بعد أن لعب الأطفال بالعش فغردت بحزن، وعندما أعدنا لها أنت وأنا صغارها إليها فرحت، وغردت بفرح ورفرفت جناحيها.
شرد بفكره، وتذكر تغريد العصفور حين كان يقود سيارته غاضباً، بعد أن تشاجر مع زوجته بسبب إهماله لها... لقد كان العمل متعته الوحيدة. وقد حرمها من الأمومة التي تتمناها، مع أنها لطالما أبدت استعدادها لتحمل غيابه المستمر وانشغالاته، فقط لو سمح لها بأن تنجب طفلاً يملأ المنزل فرحاً.
وضعت أمه يدها على كتفه وسألته: ما بكَ يا حبيبي؟
ابتسم وقال: ماما... لقد قررتُ أن أمنح عصفورتي صغاراً، لتغرد وتفرح.

اصطحب والدته إلى منزل والده. وكان هذا الأخير يقف على الشرفة بجانب شجرة الغاردينيا. وقفت وراءه ووضعت يدها على كتفه، التفتَ إليها وقال: أنا وأنتِ في ذاك الزمن لم نكن نعلم أن الحب الحقيقي هو انسجامٌ وأمانٌ ومودةٌ ورحمة، قبل المال وبعد المال... وأهم من المال. لذا فقد كنتُ أعرف انكِ ستعودين... وكنتُ بانتظارك.
ابتسمت بوجهه فغرد عصفور بفرح.

دخل هو إلى غرفته القديمة، وبدأ بكتابة رسالة الكترونية لزوجته التي تنتظره كي يطلقها!... وكان عنوان رسالته "سوف يغرد العصفور".




فكرة: سناء شباني
كاتبة قصص أطفال
كُتِبت هذه الأقصوصة بطريقة العصف الذهني.



Images rights are reserved to their owners

























3 comments: