حالكة هي عتمة هذا الليل من حولها! هي طفلة في الخامسة عشرة من عمرها، مولودة في جرود جبال تعانق السماء بقسوة لا تلين، حيث الجهل يختبئ في زواياها منذ آلاف السنين.
سجينة حكم أبدي، حكم عليها والدها منذ أن أدركت خطواتها الأولى بأن تكون رسول الغرام بينه وبين خمّارة آخر الجبل.
كل ليلة، رغم قسوة الطقس، تخرج المسكينة تحمل زجاجة شراب غريب، ذلك الشراب الذي يحول والدها إلى وحش لا يرحم. مرة يضرب زوجته وأولاده لأسباب لا يفهمها أحد، وأخرى يسجن الأبناء في غرفة، ويرتمي فوق والدتهم، التي تصرخ وتلعن، وهم في سجنهم الصغير، يرتعدون خوفًا من صورة أمهم التي تُقتل أمام أعينهم.
لم تعد تتخيل أمها ميتة، فقد أفهمتها صديقتها الحقيقة المريرة: أن هذا الألم هو سبب ولادة المزيد من الأطفال في هذا الجحيم.
كلما احتجزت مع أشقائها التسعة في الغرفة الضيقة، كانت تمسح دموعهم، تهمس لهم بأن والدتهم بخير، رغم أن قلبها يئن تحت وطأة الخوف.
لكن جنون والدها لم يتوقف، صار ينتزعها من دفء فراشها في منتصف الليل، ويرسلها إلى الخمارة كي تأتيه بشراب الجنون.
تصل إلى هناك مرتجفة، والظلام يلتهم كل شيء حولها، حتى أنفها لا تكاد تراه.
داخل الخمارة، رائحة كريهة تعبق في المكان، والرجال مكدسون كالحشرات، بعضهم نائم، وبعضهم يتحدث بلا توقف، والكل يحمل كأسًا من شراب والدها الملعون.
يد غادرة تخرج من العدم، تسحبها إلى زاوية مظلمة، تخلع عنها أثوابها بعنف. تصرخ، لكن اليد الحديدية تسكتها، ويطوقها جسد نتن، تشعر وكأنه يطحن عظامها.
قلبها ينبض مرعوبًا، ذلك الجسد النتن يعيد إلى ذاكرتها وحشية والدها مع والدتها، وحشية لا تُحتمل.
تعلو أصوات صراخ رجال أقوياء، بعكس هؤلاء الأوغاد المتراكمين كالقمامة.
ترفع رأسها، فتجد رجلاً يحمل مسدسًا في يد، ويمسك بالحيوان الذي اعتدى عليها.
يصرخ: "من هنا... تعالوا... لدينا حالة اغتصاب!"
في المركز الصحي، يفحصها الطبيب بعناية، ينظر إلى الممرضة بنظرة غامضة، فترد عليه بشتائم خفية.
تغطيها الممرضة بالأغطية، تهمس"لا تخافي يا صغيرتي... أنت الآن في أمان."
أمان؟! كيف يكون أمانًا؟ بطنها سينمو كما أمها، وستنجب طفلاً يبكي، معذبًا كما هي وأشقاؤها.
يمضي النهار، والممرضة تعتني بها، تقدم لها الطعام والماء، وتعطيها حبوبًا تشعرها بالنعاس، رغم أن قلبها يظل أسير الذعر.
يأتي الليل، والذئاب تعوي كما في الليلة السابقة، وهي ما تزال سجينة تحت جسد نتن مجنون.
تدخل والدتها، عيونها حمراء من البكاء، تحتضنها، تبكي معها، ثم تتحول فجأة إلى نمرة شرسة، تضربها وتشتمها، والطفلة تصرخ وتطلب منها أن تصدق أنها بريئة.
تتدخل الممرضة، تبعد الأم عن الطفلة، تصرخ "متخلفة، مجنونة، وحيوانة!"
تتلقى المزيد من الحبوب، وتغوص في نوم بين الصحو والكوابيس، حيث يطاردها رجل نتن، ثم أمها تحمل سكينًا تغرزها في قلبها، وهي تردد كلمات جارحة.
تمر الأيام، تدخل الممرضة بوجه قاتم، تحاول مع الطبيب شرح أن عائلتها اتفقت مع عائلة ذلك النتن على تزويجها له، وأنه في السجن لكن سيُطلق سراحه لأنه تعهد بالزواج.
توسلت إلى الطبيب... وأقسمت على الممرضة، أ، لا يسمحا بذلك. كانت ترتجف من فكرة أن تصبح زوجة ذلك الوحش، الذي يشرب شراب الجنون كما يفعل والدها، وتتحول إلى جسد معذب، ينجب أطفالًا بائسين.
لكن القانون يقف إلى جانب والدها، القانون رقم 522، الذي يسمح للمغتصب أن يتزوج ضحيته لتسقط الدعوى.
لم تفهم شيئًا، لا حججًا ولا مبررات، فقط علمت أن عائلتها ستأخذها إلى المنزل حيث ينتظرها العريس وأهله.
يحل الظلام من جديد، والذئاب تعوي بعنف، تمشي خلف والدها، تحاول اللحاق به دون أن تجرؤ على الكلام.
تصل إلى المنزل، لا تدري عدد الحاضرين، ربما كل أهل القرية، ربما جاءوا ليشهدوا على معاناتها، أو ليشاركوا في ضربها.
تدخلها أمها إلى الغرفة، تأمرها أن تبدل ملابسها، ثم تغلق الباب وتتركها وحيدة.
في الظلام الدامس، وسط عويل الذئاب وضجيج الخارج، تتمنى لو تعود إلى الممرضة، لتأخذ دواءً ينهي كل شيء، لتنام ولا تستيقظ أبدًا.
تتسلل إلى المطبخ، تبحث عن دواء، فجأة ترى زجاجة صفراء كبيرة... "الديمول"، السم الذي يقتلون به الفئران والزواحف.
صوت خافت يهمس لها: "اشربي... اشربي... وستنامين للأبد كما تنام الفئران."
في الخارج، يلعن الطبيب الناس لأول مرة منذ وصوله إلى القرية النائية، والممرضة تمسح رأس الطفلة الهادئ، التي غابت عنها ملامح الذعر، وارتسم على وجهها السلام، كابتسامة أخيرة.
تمسح دموعها، وتهمس: "نوماً هانئاً يا صغيرتي."
كتبت هذه الأقصوصة قبل إلغاء القرار 522
كانت لجنة الادارة والعدل قد أقرت في 15 شباط (فبراير) 2017 إلغاء المادة 522 حصراً، من دون المواد المرتبطة بها، خصوصاً في ما يتعلق بمجامعة القاصر (تعديل زواج القاصرات)، وغيرها من المواد التي تطالب جمعيات المجتمع المدني بتعديلها، لارتباطه بقانون الأحوال الشخصية لدى الطوائف، واعتبار اي تعديل عليه هو من صلاحية المؤسسات الدينية التابعة لهذه الطوائف وليس مجلس النواب.
Images rights are reserved to their
owners
No comments:
Post a Comment