سيبويه


يسوؤني في زمن الإنترنت، ما يحصل من مجازر بحق اللغة العربية. جلستُ ليلة البارحة أبحث عن أسماء رواد أعطوا للغة حقها من الدرس والشرح والتفسير، فجأة سطع من شاشة الكومبيوتر نورٌ باهر، قفز منها رجل بملابس غريبة، ووقف أمامي مشدوهاً.

نظرنا الى بعضنا بدهشة!
وسرعان ما غرقتُ في الضحك بعد أن استوعبتُ الموقف، خلتني أشاهد مسلسلاً تاريخياً، لغرابة لباس الرجل.

تنحنح بعد ان استفاق من ذهوله، وقال: من أنتِ يا فتاة؟
فقلتُ: ولكن أنت اقتحمت خلوتي، فمن أنت؟
فقال: ألم تكوني توقظين الأموات في قبورهم؟
فأجبتُ متسائلة: أنا؟... وما دخلي بالأموات يا هذا؟
فقال: يا امرأة الم تكوني تبحثين عن رواد اللغة العربية ودارسيها وشارحيها؟
فقلتُ: أجل.
فقال: إذن كنتِ توقظين الأموات!.
فضحكتُ وقلتُ: والله معك حق، فاللغة أصبحت ميتة وعباقرتها قد انقرضوا.
فأجاب: حسناً يا امرأة، توقفي عن الضحك وتأدبي في حضرتي وأخبريني من تكونين؟
فقلتُ: وما رأيكَ لو تقدم نفسك أنت إليَّ؟ فأنت قد اقتحمت خلوتي لا العكس.
فقال بفخر: هل سمعتِ يا امرأة بسيبويه؟
فقلتُ: ألف رحمة ونور على روحه لا بد أنه يتعذب الآن بسبب المجازر التي تُرتكب بحق اللغة العربية وقواعدها.
اتسعت عيناه دهشة وقال: وهل تُرتكب المجازر بحق اللغة العربية؟
فقلتُ: كل دقيقة مليون مجزرة.
فصرخ: يا إلهي ماذا تقولين يا هذه؟
أجبتُ ببراءة: والله العظيم.
فقال: أين يجري ذلك ومن يفعله؟
فقلتُ: الفايسبوك.
ابتسمت أساريره وقال: أنتِ جنية يا امرأة وتنطقين بكلام الجن.
فقلتُ: بل أنا إنسية من بني البشر.
فقال: إذن ما هذا الذي تتفوهين به؟
فقلتُ: أحدثك عن الفايسبوك والكومبيوتر والنت.
زعق في وجهي مرعوباً: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم... انصرفي... انصرفي.
يا إلهي كم أضحكني رعبه، وتعابير الهلع على وجهه، لكنني تفهمتُ صدمة الحضارة التي أصابته، وقلتُ بهدوء: يا سيبويه لا تخف أنا انسية وكلامي ليس سوى تعابير عصرية نستخدمها في زمننا الحاضر.
فهدأ قليلاً وقال: هلا شرحتِ لي ما تعنين، وإياكِ يا هذه أن تنزليني من مقعد أستاذيتي لكِ ولك عربي؟
فقلتُ: حاشاك أستاذي سوف أشرح لك، ولن أخبر أحد.

طلع الفجر علينا وأنا أشرح لسيبويه عن الجهاز الذي قفز منه، وعن الشبكة العنكبوتية. وصاح الديك وزقزقت العصافير إيذاناً واحتفالاً بسيبويه وفهمه العميق لما أقول ولكل ما رأى.

نظر إليّ بعد أن انتهى الشرح وقال: حسناً يا فتاة والآن أخبريني من تكونين؟
فقلتُ: أنا لينا شباني.
فأجاب: لا يعنيني اسمك. أنا أسألكِ من تكونين يا هذه، ماذا تفعلين في هذه الحياة؟ وما هي رسالتك؟
فقلتُ: عندما ولدتني أمي سقطتُ سهواً في محبرة، فنشأتُ هاوية للأدب وعاشقة للغة العربية، وقد أنشأتُ مدونتي الخاصة، وبدأتُ أجمع من حولي بعض الأصدقاء الذين يتابعون كتاباتي ويعجبون بقلمي... آسفة أقصد يعجبون بأناملي التي تطبع على الكيبورد... أقصد...
فقال بضيق: حسناً... حسناً فهمتُ قصدك... هيا يا فتاة أقرئيني شيء من كتاباتك كي أحكم بنفسي.

عرضتُ عليه بعضٌ من كتاباتي المتواضعة... فقال: حسنًا لا بأس بلغتك العربية، لكن عليكِ أن تعملي كثيراً لأجل تطويرها والتعمق بها والغوص في خفاياها.
لن أخفيكم سراً لقد سرني كلامه، فأن يقول سيبويه عن لغتي لا بأس، في زمن تكتب فيه كلمة شكراً (شكرن) فهذا شرف عظيم.
فقلتُ له متأففة: ما زلتُ أفضل من غيري يا سيبويه...
فقاطعني وقال: تأدبي يا بنت.
فقلتُ: آسفة أستاذي العظيم، أقصد أن أقول أنني ما زلتُ أفضل بكثير من غيري ممن يدَّعون الكتابة، ويحملون بدل القلم سكين الجهل، يرتكبون به المجازر بحق اللغة.
فقال: هلا شرحتِ لي أكثر؟

أدخلته الى الفايسبوك وعرضتُ عليه بعض النماذج.
شخص لن نسميه كتب:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ
بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
فَتُوْضِحَ فَالمِقْراةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُها
لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وشَمْألِ

ابتسم وقال: امرؤ القيس...كم أحب هذا الولد، مع أنه سكير وماجن ولكنني أحببته دائماً.
فقلتُ: وأنا أيضاً أستاذي أحبه، وقد أحببته أكثر بعد أن شاهدتُ مسلسلاً تلفزيونياً يروي سيرته.
فقال: يا بنت يا عفريتة، أنتِ لم تحبِ امرؤ القيس، بل يبدو أنك قد أحببتِ الممثل.
فضحكتُ وقلتُ: لقد كان ممثلاً وسيماً.
فضحك وقال: أرأيتِ إياكِ أن تكذبي على أستاذك.
ثم تنبه لما يجري وقال بدهشة: وهل لامرؤ القيس صفحة على الفايسبوك؟
فقلتُ: لا لم يسبق أن أيقظتُ أحداً غيرك من نومه... أقصد من موته. أفلم تلاحظ أن اسمه غير موجود؟
فقال: أجل... أيعقل أنه يتخفى وراء اسم مستعار؟
فقلتُ: لا بل أن الشخص صاحب الاسم هو من يختبىء من جهله بأن "يلطش" أشعار وقصائد العظماء ليضعها باسمه، وأنظر بعينك كي يمدحه الجميع كونه أشعر الشعراء.
فضحك للدعابة وقال: لكنه طبعاً في النهاية يوضح الأمر ويخبرهم بالحقيقة؟
أومأتُ برأسي أن كلا.
أصيب سيبويه بالصدمة، فقررتُ أن أصدمه للنهاية، فقلتُ: أنظر كيف يشكر الجميع، وبأي لغة.
"شوكرن أصديقاءي على المرور حلو".
فقال سيبويه: ما هذه اللغة التي يكتب بها؟
فقلتُ: العربية.
فغضب وقال: ألن تكفي عن الهزء بي يا امرأة؟!
فقلتُ: والله أنه يكتب بالعربية.
فأجاب بضيق: حسناً وماذا يقول يا فالحة.
قرأتُ له الجملة: شكراً أصدقائي على مروركم الجميل.
ضحك سيبويه وقال: طبعاً هم يكتشفون من تعليقه أنه لا يجيد خط كلمة واحدة صحيحة، فكيف بقصيدة كهذه؟.
نظرتُ اليه ببراءة المغلوب على أمره... فقال: لا
أومأتُ برأسي وأجبتُ: لا

وبدأتُ أخبره عن المجازر والمهازل التي تجري على النت، وقلتُ أنظر أستاذي سوف أريك شيئاً...
انتفض واقفاً وهو يحمل نعليه وقال صارخاً: ليناااااااااااااا... كفى... اقلقتي موتي الأبدي، وبعد هذا الكابوس لن أعرف أن أموت مجدداً... منك لله... منك لله.

والله آسفة سيبويه، لكنني لم أعرض أمامك سوى قطرة من بحر دماء اللغة العربية.




Image rights are reserved to the owner

2 comments:

  1. سلام حار يا عاشقة حروف الضاد
    ألهذا السبب كان هروبك من صفحات الفايسبوك؟
    لقد افتقدناك صديقة و كاتبة (ادرك انك لست بمستوى سيبوية لكنك كما قلت افضل بكثير من الكثير أصحاب شكرن و امثالهم) و افتقدناك معلقة و ناقدة ، ربما انا لست ممن يشاركون بفاعلية و فعالية لكني اتابع و اطلع و اقرأ ما تكتبون كلما استطعت ذلك’ ، شيء آخر لا أدعي الأدب (فاختصاصي أبعدني)لكني أرجو ان احسن التذوق
    تقبلي تحياتي الخالصة

    ReplyDelete
  2. أشكرك أيها السفير على حسن متابعتك
    وأشكرك بشكل خاص على تكبدك عناء البحث عني
    لكن وكما أخبرتك في الرسالة الخاصة، لن أعيد ذلك
    لما تسببتُ به من قلق لأصدقائي. لك مني كل المودة والإحترام

    ReplyDelete