وللرهافة ثأرها


خرج من المحكمة مطرق الرأس واجماً رغم أنه كسب القضية، إلا أنه محبط.
اليوم هو الثاني من كانون الثاني... عيد زواجهما... لكن زوجته الحبيبة طبعاً سوف تنسى مناسبة هذا اليوم الخاص! كما تنسى كل المناسبات التي تجمعهما منذ سنوات ثلاث. فهي تعتبر أنه من السُخف أن يكون لكل مناسبة أو حدث عيد! فالعيد الحقيقي بالنسبة لها هو النجاح في كسب قضية ما والإطاحة بالخصم.

جلس في مقهى بحري، وطلب قهوته بعد أن طلب من سكرتيرة مكتبه تأجيل كل المواعيد لليوم. تأمَّل البحر الواسع وأشعة شمس الشتاء وهي تتسلل من بين الغيوم المتراكضة، لتنثر رذاذها الفضي على صفحة الأزرق الداكن .
مرّ شريط حياتهما معاً أمام عينيه بلمح البصر.
تذكر كيف أنها ومنذ سنواتهما الثلاث معاً، تحتفل بمناسباتهما الخاصة على مضض! فتبقى معه عشر دقائق ثم تغوص في أوراقها وقضاياها، وتتركه في احتفاله الصغير بعد أن تقرِّعه لأنه لا يجب أن يهمل قضاياه من أجل أمرٍ تافهٍ كهذا.
راقب طيور النورس وهي ترقص في السماء القريبة، ثم تغط على صفحة مياه البحر، كما يستريح الراقصون بعد جولة ممتعة من التمايل والرقص.
ابتسم بمرارة ذاكراً أول عيد مولد لها وهي زوجته، فقد دعاها إلى مطعم فاخر للاحتفال بالمناسبة، قضت ساعتين وهي تنظر في ساعتها، وترفض الرقص معه، ولا تألو جهداً في عدم إظهار مللها وضيقها!!

... وجمت الشمس وهو يذكر عيد زواجهما الأول، حينها دعا أصدقاءهما المقربين، إذ اعتقد دائماً أنها لربما تمّل من وحدتهما وتفضل الرفقة خلال احتفالهما بأي مناسبة، لكن النتيجة كانت كارثة، فقد أمضت السهرة وهي تتحدث في قضاياها وفي السياسة وفي ... سخافة الرومانسية!

نصحه شقيقه في عيد زواجهما الثاني بأن يأخذها إلى مكان بعيد لتنسى عملها وتخرج قليلاً من جمودها. اقترح عليه السفر .
ولأنه يعلم أنها لا يمكن أن تعطيه جواز سفرها، فقد حجز شاليه في فاريا...
طلب فنجان قهوةٍ آخر، وفتح علبة سجائر أحضرها النادل.
تلك الليلة... وبعد أن رجاها طويلاً، قبِلت على مضض أن ترافقه، وكان قد جهَّز لها الشاليه بكل ما يلزم لليلة مريحة وهامة كليلة عيد زواجهما.
أول ما خطر لها، هو تراكم الثلج ليلاً فقالت مرعوبة:
- وماذا نفعل إذا تراكم الثلج وحُبسنا هنا؟!
فأجاب مبتسماً:
- المهم يا حبيبتي أننا معاً، ولن يموت أحدٌ إذا اختفينا يوماً من حياة الموكلين.
شاركته احتفاله الصغير تلك الليلة على طريقة من "يُجاري" الآخر في ولدنته ويأخذه "على قد عقله"! وحين ذهبا إلى غرفة النوم تملصتْ من لمساته وقالت:
- أرجوك اتركني... فلا يمكن أن أخلع ملابسي في هذا الزمهرير.
وغفتْ وهو يقول بخيبة أمل وحنق:
- ولكن التدفئة... كلها مشتعلة!
لكنها فضلتْ حَضْنَ حرامها على حضنه.

أعاده رنين هاتفه الجوال من عالم خيالاته، وكانت المتصلة زوجته:
- مرحباً.
- مرحباً يا حبيبتي .
- آسفة لاستعجالي لكنني أريد أن أقول أنني لن أحضر إلى المنزل قبل الثامنة مساءا... وأرجوك أن لا تحضِّر أي شيء لليلة... أنا أعلم أنه عيد زواجنا، لكنني سوف أكون متعبة ... أرجوك لا تحضِّر شيئاً.
ودَّعته وأنهت المخابرة دون حتى أن تترك له مجالاً ليقول "الى اللقاء".
بعد أن احتسى أربع فناجين من القهوة وعبَّ علبة من التبغ على غير عادته، نهض وتوجه إلى المنزل ... وقد قرر أن ينتظرها!.

حضرت زوجته المحامية في تمام الساعة التاسعة مساء. كان في الصالة بانتظارها وهو بملابس الخروج.
رسمتْ على شفتيها شِبْه ابتسامة وقالت:
- أتنوي الخروج؟
نهض وقال وهو يمسك بيدها:
- تعالي ... أريد أن أقول شيئاً.
سحبها إلى غرفة المعيشة، وقفت على عتبة الباب تتأمل المكان، كان زوجها الرومانسي قد فرش المكان بأقمشةٍ حريريةٍ بيضاء ورسم قلباً كبيراً بالورد الأحمر.
أخفت استياءها وقالت:
- أرجوك حبيبي لقد طلبت منك...
أدار المسجل وهو يقول:
- لن آخذ من وقتك حبيبتي أكثر من خمس دقائق.
انسابتْ في المكان موسيقى هادئة، فجذبها إلى منتصف القلب الأبيض وأحاط خصرها بذراعيه.
للمرة الأولى تلمح على وجهه كل هذه الجدية والصرامة! فقالت:
- هل أصابك مكروه؟
أخذ نفساً عميقاً وقال:
- أغرمتُ بكِ منذ أن رأيتكِ ... وكنتُ أسعد رجلٍ حين نجحتُ في إقناعك بأن تتزوجيني ... لربما أنني رومانسي أكثر من اللازم... لكنني أحبكِ... وكل ما أفعله لا يَعْدو أن يكون مجرد تعبير عن الحب.
حاولت أن تقول شيئاً، فأسكتها بأن وضع اصبعه على فمها وتابع:
- طوال سنوات ثلاث وبرغم كل التجارب التي قمتُ بها، لم أستطع ولو لمرة واحدة أن أحوز على رضاك، فلا مناسبة تجمعنا، أو حدث يربطنا! حتى لأخالُ أحياناً أن لا شيء يجمعنا... لا دقة قلب... ولا دقة ساعة واحدة!... والآن... وبعد ثلاث سنوات... وبعد أن فشلتُ في كل محاولاتي لإرضائك أو لحثكِ على محاورتي لنتفاهم أريد أن أقول ... وداعاً!
قالها وهو يبتعد عنها... والورد الأحمر يتكسر تحت قدميه.
نجح هذه المرة في تحريك مشاعرها، فقد وقفتْ مذهولة ومشدوهة وهو يقول مبتعداً:
- أنا جاهز لكل ما تطلبين لقاء أن نتوصل إلى طلاقٍ يليق بنا كمحاميين.

يريد اليوم بالذات أن يرى عمته. تلك المرأة الحنون التي تسكن بعيداً في قرية هادئة على سفح الجبل. أما لما هذه العمة تحديداً وفي هذا الوقت بالذات؟ فلأنه أخيراً اكتشف كم أنها قد عاشتْ تعيسة ومحبطة.
خرج إلى الشارع وبكاء السماء يختلط مع بكاء قلبه، منحدراً على وجنتيه ليغسل وجهه وعنقه.
قاد سيارته ومشهد يتراقص أمام عينيه، كما لو أنه يأتي من خلف ستارة.
كانت عمته صبية وقتها، عروسٌ حديثة الزواج، تجلس وسط جدته ووالده وأعمامه، هي تبكي بمرارة، والجميع يقرِّعها على تصرفاتها الطائشة الطفولية.
جدته كانت تقول:
- يا ويلتي!! وهل تطلبين الطلاق لأن زوجك لا يذكر عيد مولدك!؟ ... ها... وهل فقدتِ عقلك... ماذا سيقول الناس عنا!؟
أرادت المسكينة أن تتكلم، فغصَّتْ بعَبَراتها وهي تقول:
- أنه لا يفهمني ... هو لا يفهم...
وسمع صوت والده هادراً وهو يصرخ في وجهها:
- انضجي يا هذه وإلا لقنتكِ درساً لتكبري ويستقيم حالك.
أعادوها تلك الليلة إلى زوجها الذي "يساوي رقبتها" ... زوجها الذي لا يفهم الا بالصخور، ولا يزن النساء إلا في ميزان الأدب والطاعة!.
وتحولت المسكينة إلى آلة، أنجبت سبعة أولاد، بعد أن خنقت مشاعرها وأنوثتها ورهافة إحساسها، ورمتهم في بحر التقاليد البالية، حيث الحب عيب، والرومانسية عيب، وسماع الغناء بصوت مرتفع عيب، والرقص عيب خاصة أمام زوجها.

وصل إلى منزل عمته حوالي منتصف الليل، كان يعلم أنها في هذا الوقت تقرأ أمام المدفأة.
فتحت له الخادمة الباب، متفاجئة هي وسيدتها لحضوره في مثل هذا الوقت! اقتربَ من عمته وركع أمام قدميها وانحنى يقبِّل يدها الموضوعة في حضنها.
وقال وهو يبكي:
- سامحيني لأنني لم أساعدك وقتها... سامحيني لأنني كنتُ أصغر من أن أفهم.
ابتسمتْ بوداعة، ومسّدتْ شعره بحنان...واللؤلؤ يتألق على وجنتيها.









Images rights are reserved to their owners



















4 comments:

  1. ممتازة لينا .. هل أنت محامية ؟
    فوزى البحيرى
    أفكار مسموعة
    http://sharkawy-egypt.blogspot.com/

    ReplyDelete
  2. نحن الذين يملكون قلوبا و مشاعر ك امواج الأطلسي في خريف عمره
    لا يمكننا الا ان نعيش في أبعاد نحتتها عقولنا التي ضاف عليها ذلك العالم البارد بوضاعته

    ReplyDelete
  3. شكراً فوزي على كلامك الرقيق

    ReplyDelete
  4. نحن الذين يملكون قلوبا و مشاعر ك امواج الأطلسي في خريف عمره
    لا يمكننا الا ان نعيش في أبعاد نحتتها عقولنا التي ضاف عليها ذلك العالم البارد بوضاعته
    تعبير رائع شكراً جزيلاً

    ReplyDelete