غريبتين وليل

   
غريبتين وليل حالك...  وفي المدى تتلألأ أنوار منازل يحوي كل منها حكاية ما... يحوي سرّ ما.

 غريبتين وبرد... والحافلة تتوغل في عتم الشتاء، وريحٌ تغافل النوافذ ليتسلل صقيعها إلى الأوجه كصفعةٍ جليدية تبث قشعريرة في الأجساد المنهكة بعد يوم عملٍ كامل، ليتكلل في نهايته برحلة شاقة من صخب المدينة إلى صمت الجبال، خلال موسم يطول أكثر مما يحتمل صبر إنسانٍ يحب دفء الشمس وصخب الحياة.

غريبتين وشتاء في موسم هجرة الطيور من صقيع الأعالي إلى دفء السواحل... وحافلة تحاول أن تقطع طريق الثلج لتصل الى بيوتٍ تحوي أسرارًا، يعمل كل منا جاهدًا كي لا  تتسرب من النوافذ، لأجل أن لا تخبر عنا آلامًا وأوجاعًا ونقاط ضعفٍ... وربما جنون.

غريبتين في حافلة... ومقعدٍ صغيرٍ يحويهما معًا، وقربٌ جسدي لا يوحِّد الأرواح الهائمة فوق الذكريات والحكايات.

نوال غارقة في حزنها، والهاتف يكاد أن يلتصق بأذنها لطول المكالمة، وقصة فراق عاشقين يروي الزمن تفاصيلها عبر هاتف طويل في حافلة وليل مثلج.

غريبتين وليل وحافلة... ونوال تقسم له عبر الهاتف أنها سوف تعيد له كل هداياه، وتستعطفه أن ينتظر إلى أن يأتي ليخبرا أهلها بفك وثاق الخطوبة، فالهدايا كثيرة ولا تستطيع هي أن تحملها وحدها.

غريبتين وبرد وليل... وهاتف لم تستطع نهى أن تتجنب سماعه، لشدة قربها من الغريبة الغارقة في أسودها... والهاتف.

غريبتين وليلٌ شتوي... والذكرى المؤلمة تنهمر على نهى... ذكرى حبيبٍ رحل دونما عُذر أو اعتذار.

غريبتين وليل حالك... ونهى تتعاطف مع هذه العاشقة التي تعيش الآن أقسى وأصعب آلام روحها... تتعاطف مع عاشقة تمسك الهاتف بيد، وتمسح دموعها باليد الثانية.

غريبتين وشتاء وبرد قارص في ليل حالك... ونهى لا تعلم أن الغريبة الغارقة في حزنها وهاتفها... هي نفسها غريمتها، التي تركها حبيبها لأجل أن يرتبط بها!




Image rights are reserved to the owner

سجينة الطابق الثاني عشر


معلقة بين الأرض والسماء، تتناهبها الأفكار والهواجس في شقة
واسعة الأرجاء، يسكنها البرد ليلاً نهارًا. فالصقيع يعشش في الأماكن التي تشهد وعلى مدار الأيام، حكاية انهزامها وانكسارها، هي المنذورة منذ صغرها للقضايا الكبرى كما أفهمتها أمها يوم نفَّذتْ أول اعتصام لها وهي مراهقة، لتسجيل موقف تجاه ما وصفته حينها بأنه حدٌ من حريتها، وتدخلٌ سافر بحياتها. كان ذلك يوم منعها والدها من محادثة ابن الجيران. دافعت عن حريتها دون أن تفهم المعنى الكبير لكلماتها، هي الطفلة التي لم تبلغ الثالثة عشرة من عمرها بعد.
لم تفقه ما معنى ذلك، لكن والدتها وعدتها أن تشرح لها حين تصبح جاهزة، وأفهمتها أنّ كل ما عليها أن تفعله إلى ذلكَ الحين، هو أن تتعلم وتتعلم ولا شيء غير أن تتعلم، مع ضرورة أن يحفظ ويعي فكرها الصغير أن كل ما تتعرض له الآن من تسلط والدها ما هو سوى مرحلة عابرة يجب أن تتخطاها بنجاح.

أجالت نظرها في أرجاء الشقة الواسعة... الباردة، التي يسكنها الصقيع ويعشش فيها البرد.
"إذن هذا هو نجاحي يا أمي!". أين النجاح في عزلة تامة داخل شقة فاخرة البرودة، في الطابق الثاني عشر من بناءٍ في أحد شوارع لندن الراقية؟. 
وقفت في النافذة تنظر إلى لندن... لندن الفخامة... لندن الضباب... لندن البرد.
ما الذي يربطها برفاهية الصقيع هذه؟... أيعقل أن هذا المنزل هو مسرح لندني راقٍ، وهي هنا تؤدي دور أسيرة في قلعة محصنة؟ أم أنها أميرة ضل فرسها فأسرها قطَّاع الطرق وأهدوها لأميرهم المتخفي في ثياب فارسٍ نبيل؟
في الخارج تتساقط الثلوج، وفي روحها تمطر الذكريات.
تابعت دراستها بيقين من ستتغير حياته بعد نيل هذه الشهادة، إنَّ سعادتها كلها ووجودها وكيانها المستقل مرهون بنيلها هذه الشهادة.

نالت شهادتها الجامعية في الحقوق يوم توفيت والدتها جراء الضرب المبرح الذي تعرضت له على يد زوجها المتسلط!... لماذا؟ ببساطة لأنها واجهته وأصرَّت على مخالفة أوامره حين قررت أنّ ابنتها يجب أن تنال شهادة الدكتوراه.
وجدت عائلة الأب محاميًا حرَّف القضية عن مسارها، لتصبح قضية زوج يدافع عن شرفه أمام زوجة مستهترة تريد أن تأخذ ابنتها إلى حياة المجون التي تحياها.
وهكذا أقفِلتْ القضية والنعجة أصبحت هي المذنب في مهزلة بطلها رجلان. ولم تنفع شهادة أشقاء المغدورة بأن شقيقتهم تعرضت للضرب المبرح فقط لأنها دافعت عن ابنتها البالغة الرشيد، حاملة الشهادة الجامعية.
لكن... لا أحد يصدق شقيقًا مطعونًا في شرفه وقلبه.
ما زالت كلمات والدتها الأخيرة وهي تلفظ أنفاسها تتردد في رأسها "لا تعيشي مع هذا الوحش... غادري المنزل".

وجد لها خالها مكتب محاماة تتدرب فيه، وكان المكتب لابن مديره المباشر.
أعجب المحامي بجهودها واجتهادها، فمنحها كل الإمكانات كي تثبت جدارتها. وهذا ما فعلته.
لكن!... حصلت عملية سطو على بنك راح ضحيتها الحارس الليلي. والجناة لم يلقَ عليهم القبض إلا بعد أكثر من سنة على الحادثة، والمخطط للحادث كان... والدها!.
أفاد أثناء التحقيق بأن ابنته المحامية هي مَن أعطاه النصيحة بالفرار والتواري طوال هذه المدة. لكن القبض عليه جاء نتيجة وشاية من أحد أفراد العصابة الذي طمع بالمزيد من المال.
ولم تكن تبعات الخبر عادية بالنسبة لها أو منصفة. فقد أوقفتها نقابة المحامين عن العمل وقدمتها للمحاكمة. لم يثبت عليها الجرم، لكن وصمة العار بقيت ملتصقة باسمها!
وهكذا أصبحت عاطلة عن العمل في منزل خالها الذي سرعان ما ضاقت زوجته بالوضع وأصبحت تتذمر من كل شيء.

دخلت عليها زوجة خالها يومًا ووجهها يحمل البشرى السارة كما قالت. أخبرتها أن جيرانهم القادمون من دولة عربية، يبحثون لقريبهم المغترب عن عروس تكفيه شرَّ الوحدة والغربة.
ووضعتها المرأة أمام خيارين، القبول بعريس لم تره يومًا... أو البحث عن مكانٍ آخر تعيش فيه. فالمنزل بدأ يضيق بسكانه!

تزوجته...
من ناحيته كان رجلاً صريحًا وواضحًا، فقد أخبرها بقصته كاملة، كان متزوجًا من امرأة من بلده، أنجبا ولدًا وحيدًا قبل أن يحصل على فرصة للعمل في لندن ككاتب صحفي.
وهناك!... سرق بريق لندن براءة زوجته البسيطة، هربت مع عشيقٍ لها. فطلقها وأصبح وحيدًا مع طفل صغير، حتى أمه نبذته ورفضت تحمل مسؤولياتها تجاهه.
قررت أن تتقبله، أقله هو رجلٌ متعلم وعلى مستوى ثقافي، ويعرف كل شيء عنها وقد أبدى منذ أن تعرَّف إليها تعاطفه معها ضد كل الظلم الذي تعرضت له.

وهكذا وجدت نفسها في لندن، تسكن شقة واسعة باردة الفخامة، في الطابق الثاني عشر، مع زوجٍ قمة في التهذيب والرقي والبرود الإنكليزي... وطفل صغير يحتاج للرعاية على مدار الساعة.
ألقت نظرة على الطفل النائم بوداعة، دون أن يعي ما سببه وجوده لها من حزن... فلعل والده أراد الزواج لأجل أن يجد مرافقة لابنه.
طبعًا لم يكن الخروج وحدها مسموحًا، لأن لندن كبيرة على صبية غريبة قادمة من الشرق. 
لكن السبب الغير مُعلن كان غيرة زوج يحمل عقدة من زوجة سابقة شاركه فيها الكثير من الغرباء. تقبلت سجنها في شقة واسعة وباردة مع طفل صغير، وخادمة تصرّ أن تفرض رأيها بكل كبيرة وصغيرة، فهذه لندن يا سيدة... هنا لا أسياد ولا عبيد.
كم حاولت أن تحول معرض الجليد هذا، إلى منزل زوجي. كم تفننت للفت نظر زوجٍ ما زال في ريعان شبابه. لكنه كان يقابل دلالها الأنثوي بالابتسامات الودودة، كتلك التي نلقيها في وجه طفل بريء يحاول أن يسترعي انتباهنا بعيدًا عن شؤوننا الهامة جدًا.
ليلة البارحة، لم يأبه لمحاولاتها في التقرِّب منه أو لمسه، فقد كان مشغول الفكر لدرجة أنه بالكاد بادلها قبلة لا حرارة فيها، وأدار ظهره لينام.
هل كان حقًا نائم؟ أم يتظاهر بذلك كما تفعل هي في معظم الأحيان، حين تمتنع عن الحركة كي لا توقظه، وتتظاهر بالنوم في وقت تتقاذفها فيه الأفكار.
"عدم القدرة على النوم والامتناع عن الحركة: إنه منزل الزوجية"... تلك هي جملة كونديرا الشهيرة.

صباحًا شعرت بوعكة، فنصحتها قريبته بإجراء فحص للحمل...
وجدته في الغرفة وهي تخرج من الحمام تحمل في يدها جهاز فحص الحمل.
قالت والدمع يكاد يفر من عينيها إنها حامل.
ابتسم بود... لا بل بسعادة وقال: إن ذلك أفضل ما يمكن أن يحصل لكِ ولي.

تركته نائمًا والساعة تعلن منتصف الليل، وقفت أمام صورة والدتها التي تحتفظ بها في غرفة مكتبتها الخاصة، وضعت يدها على بطنها وقالت: أمي... إنه انتصاري على سجن الحريم.







Images rights are reserved to their owners




                                                    
                                       

هوى رجل...وهوا امرأة


منذ اللحظة التي تلاقت فيها أعينهما أدركتُ أن الحيوان القابع فيهما سأل "أأستطيع؟ فأجاب الآخر "نعم بكل تأكيد". 
جملةٌ قالها بطل ليو تولستوي في قصته الشهيرة "سوناته لكروتزر". لخص فيها وجهة نظره في الزواج، وفي حيوانية الحب الذي نتوهمه كبيرًا وعظيمًا طالما أننا لم نلمس الحبيبة بعد.
فكرة اقتحمتْ ذاكرتي، وأنا ألامس أناملها الحريرية وأغوص في الضوء الذي انبثق من ابتسامتها المشعة.

فجر اليوم أنهيت ديواني الجديد "قبلة لطيفها"... فقررتُ أن أضع حدًا لعزلتي.
توجهتُ بداية الغروب إلى شارع الحمراء وتحديدًا إلى زاويتي المعتادة، حيث أحتسي قهوتي مختبئًا خلف دخان سجائري.
وإذ بعلياء (وهو اسم مستعار) تقتحم وحدتي بكثير من الصخب. وعلياء هي كاتبةٌ من زمن الفشل، لم أكن أستسيغ حديثها، ولم يكن لي طاقةٌ للصبر على قراءة حتى صفحة واحدة مما تكتبه تحت مسمى الأدب. لكنها اقتحمت وحدتي وتعلقت برقبتي كعادتها في إلقاء التحية، وتلفتتْ حولها قبل أن تجلس، وكأنها تريد التأكد من أن الجميع قد رآها تجلس معي... بكل تواضع أقول هذا.
ولحسن حظي لم يطل بنا المقام حتى حضر صديقي اللدود المفضل الشاعر نبيل الزين، ولأنه يعرف "مودتي!" لعلياء فقد دعاني لمرافقته لحضور معرض رسم لفنانة مبتدئة سوف أدعوها ريم.
وريم هي التي أثارت في ذاكرتي جملة تولستوي وأنا أصافح أناملها الحريرية وأغوص في لؤلؤ ابتسامتها.
دعوني أولاً أبشركم أن علياء رفضت مرافقتنا الى المعرض، لعدم حبها لرسامي هذه الأيام، فأين هم من "الموناليزا"! هكذا قالت هي فأجبت بلؤم "تقصدين أين هم من دافنشي فهو الرسام لا الموناليزا".
فقالت بلامبالاة
what ever

دامت غيبوبة ذهولي أمام إبداعها، ساعتين كاملتين. وكان صديقي نبيل قد غادر بعد ساعة لارتباطه بموعد سابق، وبقيتُ وحدي أجول في المكان، ولا أنزع عينيّ عن اللوحات إلا لأختلس النظر الى المبدعة التي لا تقل روعة عن لوحاتها، فهي بحدِّ ذاتها لوحة شِعرية خطتها يد مبدعٍ وشمها بكل آيات جماله.

خرجتُ من صالة العرض وأنا مفعمٌ بالشِعر، وقلبي يتراقص طربًا على وقع وعدٍ انتزعته منها بقبول دعوتي الى جلسة فن وأدب في مقهى من مقاهي المثقفين في شارع الحمراء، الذي رأيته بعد خروجي من دائرة شعاعها بحلةٍ جديدة، لقد غسل مطر الربيع  الأرصفة صعودًا الى القمر، الذي شع نوره وكأنه أصبح مضاعفًا خمسة أقمار.
...ولفتُّ نظر المارة وأنا أدندن أغنية "أغداً القاك".
وبذلك كنتُ لمن عرف هويتي صورةً حية عن جنون الشعراء.

وجدتها... ملهمتي... التي أبحث عنها منذ حداثتي. الأنثى التي

 ستزرع عمري وروداً وموسيقى وعشقاً... إنها حبيبتي...

 معبودتي. 


 وأنا أحدثها عن الشِعر الذي رأيته في لوحاتها، اقتحم علينا  مجلسنا شاب يقدح الشرر في عينيه. أراد من ريم أن ترافقه بهدوء، لكنها  تحولتْ الى لبؤة شرسة وطردته بعد أن أسمعته كلامًا قاسيًا! جعلني أشعر مثله بالجرح والمهانة، وللحظات أحسستُ بالشفقة عليه وهو يغادر كسيرًا كقائدٍ فقد كل جنوده وأسلحته بضربةٍ واحدةٍ في بداية الحرب.

بلمح البصر استعادتْ وجهها الملائكي، وأخبرتني قصتها معه... هو صديقها المقرَّب الذي تمرد على أعراف الصداقة واعتقدَ أنه بماله يستطيع اقتناؤها وإضافتها الى سرب حريمه!... أخبرتني كيف إنها حاولت اقناعه برفق ولين، بأن يرتدَّ عن الإساءة إلى صداقتهما، لكنه اضطرها مؤخرًا لاستخدام العنف معه.
  
توَّجها قلبي آلهة عشقه وهواه. لكنها كانت تمعن في صداقتي التي تضعها دائمًا حاجزًا في وجهي. فآثرتُ الصمت وكبح جماح عواطفي وبوحي، خوفًا من أن أخسر صداقتها. 

 ذات يومٍ عاصفٍ ماطر من أيام منتصف الشتاء، وجدتها 
 تقف ببابي، مبللة بدموعها... 
راقبتها وهي ترشف المشروب الساخن الذي حضّرته لها بعد أن  بدَّلتْ ملابسها المبللة ببجامتي الوحيدة النظيفة. متمنعة عن الاعتراف بما يوضح لي حالتها الراهنة التي لم يسبق لي أن رأيتها عليها. 
هممتُ بتأنيبها على ما بدأ يظهر لي من مزاجيتها... لكن!... وجدتها تدخلني في دائرة النار، وبدأتْ تمارس عليّّ لعبة إغواءٍ لا قدرة لي على مقاومتها!... يا إلهي... أخيرًا معبودتي بين يديّ وترتدي منامتي.
أعرف أنها مزاجية ومستهترة ومتفلتة من أي قيود ومجنونة  أيضًا، لكنها حبيبتي، ولا يمكن أن أستغل ضعفها.
وهمستْ بين قبلتين "أنت تحبني... أنا أعرف ذلك"... أمام همستها المباركة هذه لم أستطع الصمود، ونسيتُ كل الكون...

تأملتها وهي تنام بجانبي كطفلٍ بريءٍ لم يعِ وجوده بعد، واقتنعتُ بعد ما حصل، إنها لن تفارقني أبدًا... وهكذا بدأتُ أضع الخطط لزواجنا وأنا مفعمٌ بالسكينةِ والعشق.
استيقظتْ من نومها ببطء... وبعد أن استعادتْ زمام أمرها، أنبتني لأنني استغليتُ ضعفها!... يا إلهي... حسبتها تمارس عليَّ جنونها المعتاد، 
وإنها سرعان ما ستضحك بعد أن تتأكد من هلعي وذهولي.

لكن...! وبعد ثلاثة أيامٍ من المفاوضات والشرح والتأكيد على مشاعري رفضتْ الارتباط بي!. 
وهي تشرح أسبابها الواهية اللامنطقية، اقتحم جلستنا شاب طويل، على وجهه سيماء التوحش والصرامة. ودون أن ينبث بكلمة أمسكها من يدها وجرَّها بهدوء، فرافقته دون أن تلتفت ناحيتي!.

بعد مرور أسبوعين على اختفائها الغامض وذهولي، قرأتُ في الصحف خبرًا مفاده أنها تزوجت من ابن عمها رجل الأعمال، ذاك الذي أخذها من أمامي في المقهى... وغامت عينايَّ فكدتُّ أختنق بلوعتي. 

حملتني قدماي الى ملهى ليلي، على أمل أن يعالج المشروب  جراح روحي.
هناك صادفتُ صديقها، القائد المهزوم، الذي كثيرًا ما صادفناه خلال تسكعنا هنا وهناك، والذي كان دائمًا يبتسم بوجهي باستهزاء كلما تقابلت أعيننا. 
 جلجلت ضحكته عندما لمحني وصاح: أتيت يا مغفل...أهلاً بك... 
وهز الرجل الجالس بجانبه وقال له: أنظر هذا هو المغفل الثاني  الذي صدقها... 
عبّ كأسه بجرعة واحدة وقال: هل أخبرتكَ يا صديق عن غرامها المستعرّ بابن عمها رجل الأعمال الذي حاولتْ أن تنساه معي ومعك؟... والآن تزوجها بعد أن رجاه والدها... 
عبَّ كأسًا أخرى وتابع: لا أحد يعرف كيف يكبح جماح جنونها سواه... هل فهمتَ أخيرًا يا مغفل؟ 
قال جملته الأخيرة وهو يعطيني كأساً بيدي... في هذه الأثناء، انطلق من المسجل صوت معين شريف:
أصعب كلمة بفكر فيها
هي الكلمة اللي قلتيها
كيف قدرتي ما تخبّيها
 بعيونك الحلوين
كيف قدرتي تقسي عليّ
وتقوليلي ما عاد فيي
آخر كلمة بقلك هيي
 شو بيشبهك تشرين
وحين صاح:غدااااااااااار... غدااااااااار...
شو بيشبهك إنتي...ع غفلي بيشتي

كان شريك الخذلان يضحك... وجاره يغني مع المطرب.
أما أنا فركعتُ على ركبتيّ، وأنا ألعن الشيطان الذي تقمص وجهها الملائكي. 

                                                                                         

Images rights are reserved to their owners



  

شهرزاد ترسم عالمها

قلتَ أخبريني عن عالمك؟

فقلت...
فـــــــي عــــــالمي
الحيوانـــــــــــــات
تنطـــــق بــالحكمة.


والطيــــــــــــــــور
تمشي على الأرض
بعـــــد أن تُهــــدي
أجنحتهـــــا للبشــر.


أما الأطفـــــــــــال
فيــــــــولدون مـــن

أغصـــان الشـــجر.


والعجــائز لا يمتِّنَ
بــــل يتضــــــائلنَّ
الــــى أن يختفيــن.


فــــــي عــــــالمي
المغنــــــــــــــون 

يصــــــابون بالبكم
.ســـــــاعة ولادتهم



والممثلون يُنحَتون
مـــــن خشــــــب 

مثــــــل بينوكيـــو
وأن أنــــــــــوفهم
تصغــــــر كلمـــا
.كــــــذبوا أكثـــــر



والفلاســــــــفة
عــــــــــــــاهرون
والعــــــــــــاهرات
.يُحاضرنَّ في العفة


 فــــــي عـــــــالمي
شهريــــــــــــــــار
يروي القصـــــص
وينصت مسرور
وشــــــــــــهرزاد
 .هـــــي السيـــاف


صرختَ مندهشــًا
كـــم هذا غريــب
لا أصدقـــــــــــه!



ولكن!.....
هل هي أغـــرب
من قصة اعتزالك
مطـــاردة النساء؟








Image rights are reserved to the owner



















حين راقصها قلبي

دعيتُ الى حفل زفاف أحد الأصدقاء، وعزمتُ على حضوره طبعًا، فلن أخفيكم سرًا فأنا أستمتع بحضور كل أنواع الاحتفالات لأنني مولع بمراقبة رقص الحِسان وهنّ يتمايلن بكل الغنج والدلال والغوى الذي جُبلت به أجسادهنَّ التي تشبه أعواد الزنبق. كم أصبحتُ أحب الورود على أنواعها لأنها تختال أمامي كقدِّ صبيةٍ حسناء تتمايل على أنغامٍ ساحرةٍ تنطلق من آلةٍ لا تقل نعومةً ورقةً وعذوبة عن قدها.

لكن أرجو منكم أن لا تسيؤا الظن بي، فأنا إنما أحب مشاهدة الرقص كفنٍ بحد ذاته. إذ يجذبني حس المرأة المرهف لدرجة أن يطيعها جسدها، فيتمايل مع روحها على إيقاع النغمات المتلاحقة لترسم بجسدها لوحة من تناغم الروح والجسد.
أراقب كل ذلك في رقص الأنثى، دون أن أحمل لجسدها أي نوايا دنيئة، لا... بل أنا أحترم هذا الجسد المتمايل مع الإيقاع، إنني أحب حالة الطرب التي تصيب الروح وتسيطر على الجسد.

هناك رأيتها... كانت تتمايل وحدها، ثم سرعان ما أحاط بها الجمع تاركين لها الساح.
لم تكن جسدٌ يرقص بل روحٌ تحلق في البعيد، في عالم عجائبي لا صلة تربطه بأي من الحضور، لكأنها كانت تراقص طيفًا تراه هي فقط، ذاهلة معه عما يجري من حولها. لم يكن رقصها رقصًا عاديًا كالذي سبق لي أن شاهدته مرارًا وتكرارًا... فلم يكن تمايل جسدها تمايل الإغواء الكامن في أساس الرقص، بل كان رفرفة روح ملاكٍ يريد الانعتاق من أسر جسدٍ وضع فيه قسرًا. 
ووجدتني أتساءل مع ذاتي... إن كانت روحها تريد الانعتاق من أسر الجسد، ترى الى أين تريد الذهاب؟ أم أن وجهتها إنسانٌ
بعينه؟ رجل؟... أين هو إذن؟... لما يتركها وحدها؟

إنتهت رقصتها البديعة، فعادت أدراجها بهدوء، مخلفة وراءها ساحة رقصٍ استعادت صخب راقصيها الكثر.

استمريتُ بمراقبتها، كما كنت أفعل منذ قليل، محاولاً استشفاف أي تعبير على وجهها، لكنها ما زالت تحمل ذات النظرة الساهمة، المتطلعة الى  البعيد، أو ربما هي متطلعة الى الداخل. داخلها الغامض الذي ما استطعتُ تبين لونه في ملامحها.
كانت إن حدثها أحد تبتسم بتحفظ يضع مليون حاجز بينها وبين محدثها.
وابتسامتها المتحفظة كانت أكثر سحرًا من أي ابتسامة رأيتها في حياتي.
آآآآآآآآآآآآآآه من ابتسامتها كيف تموت على شفتيها، حين تضبطني متلبسًا بمراقبتها.
قررتُ أن أكتشف هويتها لأعرف سرها، حتى لو قضيتُ العمر كله وأنا أقتفي أثرها.

عرفتُ عنوانها بعد أن تبِعتُ سيارتها طويلاً، لقد كان منزلاً بعيدًا في منطقة نائية... ذكرني موقعه بأديرة الراهبات وصوامع النساك.
ابتلعها ظلام الحديقة الصغيرة، ولم يبقَ لي منها سوى صورة شعرها الحريري الذي يلوح مع الهواء... ونفحة من عطرها.

...وجدتني صباحًا أقف أمام سور حديقتها، آملاً أن ألمح طيفها بعد ليل شديدة السواد قضيته مؤرِّقًا. لم ألمح إنسيًا في الحديقة، حتى لخلتُ أنني كنتُ أحلم، وأن المنزل خالٍ من البشر... إلى أن كان العصر، رأيتها تخرج من منزلها وتتجه الى زاوية في الحديقة.
قرعتُ جرس بوابة الحديقة، وأنا أحمل باقة وردٍ ذبُل من طول الانتظار.
اتجهتْ نحو البوابة وثوبها الحريري الأبيض يتراقص مع الهواء... نظرت إليَّ بوجه نظيف من الزينة، لم يرتسم عليه أي شعور بالدهشة أو المباغتة أو حتى النفور. كان كليلة أمس، وجه لا تعبير فيه، مجرد عينين تنظران الى عالم خيالي، أو لكأنهما تنظران الى داخلها.
أشارت ناحية الحديقة، وتقدمتني فتبعتها كمن يتبع قدرًا لم يتبين ملامحه بعد.

جلستْ على مقعد، فجلستُ بجانبها، فقالت دون مقدمات: إن روحي منذورة له وحده أمير عمري وسيد قدري... هو حبيبي، وكل الرجال بعده... إشاعة.

وتركتني مذهولاً ومرتبكًا وذليلاً...
غادرتْ وشالها يتطاير في الهواء، كيدٍ تلوَّح مودعة!
وأغلقت بابها بهدوء. ربما كي لا تزعج أميرًا نائمًا في عالمها السحري.
                                                      

  
                          Images rights are reserved to their owners

                                 
                                                      







 




 

                                                

                  
   
                                                  

وللرهافة ثأرها


أصعب حياةٍ يوم تجد نفسكَ المرهفة وقد ارتبطتَ بشريكٍ لا متبلد المشاعر. وهذا ما حصل معه!

اليوم هو الثاني من كانون الثاني... عيد زواجهما. لكن زوجته الحبيبة طبعًا سوف تنسى مناسبة هذا اليوم الخاص! كما تنسى كل المناسبات التي تجمعهما منذ سنوات ثلاث. فهي تعتبر أنه من السُخف أن يكون لكل مناسبة أو حدث عيد! فالعيد الحقيقي بالنسبة لها هو النجاح في كسب قضية ما والإطاحة بالخصم.

بعد أن غادر المحكمة وقد كسب القضية التي ترافع عنها، قصد البحر، تأمَّل أشعة شمس الشتاء وهي تتسلل من بين الغيوم المتراكضة، لتنثر رذاذها الفضي على صفحة الأزرق الداكن.
مرّ شريط حياتهما معًا أمام عينيه بلمح البصر.
تذكر كيف أنها ومنذ سنواتهما الثلاث معًا، تحتفل بمناسباتهما الخاصة على مضض! تبقى معه عشر دقائق ثم تغوص في أوراقها وقضاياها، وتتركه في احتفاله الصغير بعد أن تقرِّعه لأنه لا يجب أن يهمل قضاياه من أجل أمرٍ تافهٍ كهذا.
راقب طيور النورس وهي ترقص في السماء القريبة، ثم تغط على صفحة مياه البحر، كما يستريح الراقصون بعد جولة ممتعة من التمايل والرقص.
ابتسم بمرارة لذكرى أول عيد مولد لها وهي زوجته، فقد دعاها إلى مطعم فاخر للاحتفال بالمناسبة، قضت ساعتين وهي تنظر في ساعتها، وترفض الرقص معه، ولا تألو جهدًا لإخفاء مللها وضيقها!

...وجمت الشمس وهو يذكر عيد زواجهما الأول، فاجأها بعشاءٍ دعا إليه أقرب الأصدقاء لهما، لكن النتيجة كانت كارثة، فقد أمضت السهرة وهي تتحدث في قضاياها وفي السياسة وفي... سخافة الرومانسية!

نصحه شقيقه في عيد زواجهما الثاني بأن يأخذها إلى مكان بعيد لتنسى عملها وتخرج قليلاً من جمودها. اقترح عليه السفر.
ولأنه يعلم أنها لا يمكن أن تعطيه جواز سفرها، فقد حجز شاليه في فاريا...

قبِلت على مضض أن ترافقه، بعد أن رجاها طويلاً.
كان قد جهَّز لها الشاليه بكل ما يلزم لليلة مريحة وهامة كليلة عيد زواجهما.
أول ما خطر لها، هو تراكم الثلج ليلاً فقالت مرعوبة: وماذا نفعل إذا تراكم الثلج وحُبسنا هنا؟!
فأجاب مبتسمًا: المهم يا حبيبتي أننا معًا، ولن يموت أحد إذا اختفينا يومًا من حياة الموكلين.
شاركته احتفاله الصغير تلك الليلة لكنها أشعرته بأنها تستسخف الموضوع برمته!
حين ذهبا إلى غرفة النوم تملصتْ من لمساته وقالت: 
أرجوك اتركني... فلا يمكن أن أخلع ملابسي في هذا الزمهرير.
وغفتْ وهو يقول بخيبة أمل وحنق: ولكن التدفئة... كلها مشتعلة!
لكنها فضلتْ حَضْنَ حرامها على حُضنه.

أعاده رنين هاتفه الجوال من عالم خيالاته، وكانت المتصلة زوجته: مرحبًا.
 - مرحبًا حبيبتي.
- آسفة لاستعجالي لكنني أريد أن أقول أنني لن أحضر إلى المنزل قبل الثامنة مساءًا... وأرجوك أن لا تحضِّر أي شيء لليلة... أنا أعلم أنه عيد زواجنا، لكنني سوف أكون متعبة... أرجوك لا تحضِّر شيئًا.

ودَّعته وأنهت المخابرة دون حتى أن تترك له مجالاً ليقول "إلى اللقاء".
اقترب منه رجلٌ وسأله: أستميحك عذرًا أخي الفاضل، هل تعاني من مشكلة ما؟
نظر إلى الرجل محاولاً استعادة انتباهه. 
فتابع الرجل: أنا مالك المقهى هذا... أشار بيده جهة اليمين وتابع: لفتني جلوسك منذ ساعات، هل تحتاج إلى مساعدة.
ابتسم بوجه الرجل وأجاب: أشكرك على لفتتك الكريمة، لكنني بخير. كنت فقط أفكر في قضيةٍ ملفها بين يديّ.
مد يده إلى جيبه وأخرج منها بطاقة وأعطاها للرجل قائلاً: أنا محامٍ وبخدمتك لو احتجتني.
تعارف الرجلان، وافترقا على وعدٍ من المحامي بزيارة المقهى قريبًا.
توجه إلى المنزل... وقد قرر أن ينتظر زوجته الحبيبة.

حضرت زوجته المحامية في تمام الساعة التاسعة مساء.
كان في الصالة بانتظارها وهو بملابس الخروج.
رسمتْ على شفتيها شِبْه ابتسامة وقالت: أتنوي الخروج؟
نهض وقال وهو يمسك بيدها: تعالي... أريد أن أقول شيئًا.

سحبها إلى الصالون، وقفت على عتبة الباب تتأمل المكان، كان زوجها الرومانسي قد ملأ المكان بالورد الأحمر.
أخفت استياءها وقالت: أرجوك حبيبي لقد طلبت منك...
أدار المسجل وهو يقول: لن آخذ من وقتك حبيبتي أكثر من خمس دقائق.
انسابتْ في المكان موسيقى هادئة، فجذبها وأحاط خصرها بذراعيه.
للمرة الأولى تلمح على وجهه كل هذه الجدية والصرامة! 
فقالت: هل أصابك مكروه؟
تنفس عميقًا وقال: أغرمتُ بكِ منذ أن رأيتكِ... وكنتُ أسعد رجلٍ حين نجحتُ في إقناعك بأن تتزوجيني... لربما أنني رومانسي كالمراهقين... لكنني أحبكِ... وكل ما أفعله لا يَعْدو أن يكون مجرد تعبير عن هذا الحب.
حاولت أن تقول شيئًا، فأسكتها بأن وضع اصبعه على فمها وتابع: طوال سنواتٍ ثلاث لم أستطع ولو لمرة واحدة أن أحوز على رضاكِ مهما حاولت، فلا مناسبة تجمعنا، أو حدث يربطنا! حتى لأخالُ أحيانًا أن لا شيء يجمعنا... لا دقة قلب... ولا دقة ساعة واحدة!
والآن... وبعد ثلاث سنوات، وبعد أن فشلتُ في كل محاولاتي لإرضائك أو لحثكِ على محاورتي لنتفاهم أريد أن أقول... وداعًا!

قالها وهو يبتعد عنها والورد الأحمر يتكسر تحت قدميه.
نجح هذه المرة في تحريك مشاعرها، فقد وقفتْ مذهولة ومشدوهة وهو يقول: أنا جاهز لكل ما تطلبين لقاء أن نتوصل إلى طلاقٍ يليق بنا كمحاميين.

يريد اليوم بالذات أن يرى عمته. تلك المرأة الحنون التي تسكن بعيدًا في قرية هادئة على سفح الجبل. 
لما هذه العمة تحديدًا وفي هذا الوقت بالذات؟ فلأنه اكتشف كم كانت حياتها تعيسة ومحبطة.
خرج إلى الشارع وبكاء السماء يختلط مع بكاء قلبه.

قاد سيارته ومشهد يتراقص أمام عينيه، كما لو أنه يأتي من خلف ستارة.
كانت عمته صبية وقتها، عروسٌ حديثة الزواج، تجلس وسط جدته ووالده وأعمامه، هي تبكي بمرارة، والجميع يقرِّعها على تصرفاتها الطائشة الطفولية.
جدته كانت تقول: يا ويلي!! وهل تطلبين الطلاق لأن زوجك لا يذكر عيد مولدك!؟... ها... وهل فقدتِ عقلك... ماذا سيقول الناس عنا!؟
أرادت المسكينة أن تتكلم، فغصَّتْ بعَبَراتها وهي تقول: أنه لا يفهمني... هو لا يفهم...
وسمع صوت والده هادرًا وهو يصرخ في وجهها: انضجي يا هذه وإلا لقنتكِ درسًا لتكبري ويستقيم حالك.

أعادوها تلك الليلة إلى زوجها الذي "يساوي رقبتها"... زوجها الذي لا يفهم إلا بالصخور، ولا يزن النساء إلا في ميزان الأدب والطاعة!
وتحولت المسكينة إلى آلة، أنجبت سبعة أولاد، بعد أن خنقت مشاعرها وأنوثتها ورهافة إحساسها، ورمتهم في بحر التقاليد البالية، حيث الحب عيب، وسماع الغناء بصوت مرتفع عيب، والرقص عيب ولو مارسته أمام زوجها.

وصل إلى منزل عمته حوالي منتصف الليل، كان يعلم أنها في هذا الوقت تقرأ أمام المدفأة.
فتحت له الخادمة الباب، متفاجئة هي وسيدتها لحضوره في مثل هذا الوقت! اقتربَ من عمته وركع أمام قدميها وانحنى يقبِّل يدها الموضوعة في حضنها.
وقال وهو يبكي: سامحيني لأنني لم أساعدك وقتها... سامحيني لأنني كنتُ أصغر من أن أفهم.
ابتسمتْ بوداعة، ومسّدتْ شعره بحنان...واللؤلؤ يتألق على وجنتيها.









Images rights are reserved to their owners