جالت الدكتورة نعومي عبد الرحمن على أكبر المستشفيات وأصغرها في لبنان، وأجرت مقابلاتٍ لا حصر لها مع أطباء ومدراء في المجالات الصحية، لتقديم شهادة الدكتوراه في طب الأطفال/تخصص سرطان الأطفال، التي حازت عليها من أعرق جامعات إيطاليا.
لكن!...
الكل كان له الإجابة نفسها "د. نعومي سوف ندرس الملف ونبلغكِ بقرارنا".
أقلقهم سواد بشرتها؟ أم أخافتهم ردة فعل آباء الأطفال المرضى؟
فالكثير من المرضى ومرافقي الأطفال، أثناء فترة تدربها في مستشفيات لبنان، لطالما رفضوا أن تزورهم إلا مع أستاذها الطبيب، كانت ترى في نظراتهم ملامح الاستخفاف أو السخرية!
آلمها الموضوع كثيرًا، لكنها أقنعت نفسها انهم ليسوا سيئين، هم فقط أبناء وطن عنصري... ومَن مِن شعوب العالم ليس بعنصري؟
فهي لم تنسَ بعد، ما تعرضت له خلال سنتها الجامعية الأولى من تنمر داخل الحرم الجامعي. والذي واجهته بالصمت، إلى أن فاض الكيل معها يوم سمعت أحدهم صدفة يهمس لرفيقه "ما أجملها... أيمكن أن تكون خادمة هنا في الجامعة؟"
التفتت إليه وقالت: لا خيي أنا مش خادمة هون، مع كل الاحترام لعمال النظافة ولأصحاب البشرة السودا. أنا طالبة بكلية الطب، وشو بتمنى يكون في اختصاص يعالج الناس من العنصرية.
خجل الشاب واحمرَّت أذناه، فابتسمت وقالت: ما تخجل هيدا مش ذنبك... هيدا ذنب مجتمع كامل، وتربية غلط.
وهكذا أصبحت نعومي أشهر طالبة في كلية الطب، بل في الجامعة بأسرها.
كان ذنب نعومي أنها ولدت طفلة غير عادية بالنسبة لمجتمعٍ لا شيء فيه طبيعي، فهي نتيجة زواجٍ بين نهى اللبنانية وعبد الرحمن الآتي من السودان لدراسة الحقوق في لبنان.
عائلة نهى عارضت هذا الزواج بشدة، فالمجتمع لن يرحم زيجة مختلطة كهذه من "أجنبي أسود"!
كانت نهى تجيب غاضبةً "ليتكم برجاحة عقل عبد الرحمن، لتروا قبح العنصرية".
تلقت نعومي تربية تمزج الحنان بالحزم، والتفهم بالشدة. فعيشها في لبنان سيكون صعبًا وقاسيًا أحيانًا، كونها كانت "سوداء كأبيها" كما نعتتها عائلة أمها والمجتمع منذ ولادتها!
علمها أبواها الثقة بنفسها منذ نعومة أظفارها، ولقَّناها أفضل أساليب التعامل مع التنمر الذي لا بد أن يُمارس عليها من قِبل مجتمعٍ عنصري بامتياز. اللهم إلا ما رحم ربي.
ولأن نكبات الدهر، لا تخطئ عنوان أحد، فقد توفي الدكتور عبد الرحمن نتيجة أزمة قلبية حادة، وترك ابنته نعومي تلميذة الصف الثانوي، تصارع المجتمع مع والدتها المحامية، التي استطاعت أن تسترجع حقوق موكليها، إلا إنها عجزت عن استرجاع حق ابنتها، بأن تمنحها جنسيتها. كما عجزت قبلها على منح جنسيتها لزوجها الحائز على دكتوراه في القانون الدولي، لعل أبواب العمل تُفتح في وجهه، بدل تنقله من عملٍ صعبٍ إلى عمل أقسى، فقط كي لا ينقص أميرته الصغيرة أي شيء، وكي تكبر وهي تفتخر بوالدها حامل الدكتوراه في القانون الدولي، والذي مُنِع ظلمًا من العمل في لبنان بسبب جنسية، بعد أن أُبعِد من وطنه السودان، بسبب مواقفه السياسية الرافضة لكل أشكال الظلم.
استحقت نعومي منحةً جامعية لإكمال تخصصها في الخارج. بطبيعة الحال شعرت والدتها بالقلق عليها، لكنها بعد التفكير ومشاورة الكثير من معارفها ذوي المناصب الرفيعة في مجالات التعليم الجامعي والعمل الطبي، تقبلت الوضع ومنحت بركتها لنعومي الطبيبة الواعدة، وهي تقول "هناك يا حبيبتي لن يقلل من شأنكِ أحد، ولن تتعرضي للتنمر بسبب لون بشرتك".
عادت الدكتورة نعومي عبد الرحمن بشهادة دكتوراه في طب الأطفال/تخصص سرطان الأطفال، بدرجة ممتاز مع مرتبة الشرف، لتبدأ معركتها في لبنان وطنها حيث ولدت وتربت، لتفرض نفسها طبيبةً نالت شهادتها من واحدةٍ من أرقى جامعات إيطاليا.
لكن!...
مرَّت الشهور الطوال، ولا أي بادرة أمل بلقاء عملٍ مع أي إدارة مستشفى سبق أن زارتها. لماذا؟
لأن لبنان ككل الدول، بلدٌ تنخره العنصرية كما التعصب الطائفي. إلا ما رحم ربي.
أدخلها هذا الوضع في متاهة، وكادت أن تصاب باليأس.
إلى أن تلقت رسالة عبر البريد الالكتروني من أستاذها في إيطاليا، والذي واظبت على مراسلته، بناءًا على طلبه، فلطالما اعتبر تفوقها الدائم، انعكاسٌ لتفوقه هو وابداعه في توجيهها، والإشراف على دراستها وأبحاثها ورسائل تخصصها في معالجة سرطان الأطفال.
بالعودة إلى الرسالة وردت فيها جملة قصيرة وحازمة!
"لديَّ لكِ وظيفة تستحقكِ وتليقين بها".
أنتظرك غدًا الساعة الخامسة عصرًا بتوقيت بيروت على موقع "زوم".
صباح الغد أرسل البروفسور جيوفاني روسّي المقال التالي:
منظمة أطباء بلا حدود هي منظمة طبية إنسانية دولية مستقلة وغير حكومية، تأسست عام 1971 في باريس على يد مجموعة من الأطباء والصحفيين. تهدف المنظمة إلى تقديم المساعدات الطبية الطارئة للأشخاص المتضررين من النزاعات المسلحة، الأوبئة، الكوارث الطبيعية، والحرمان من الرعاية الصحية، بغض النظر عن العرق أو الدين أو الانتماء السياسي.
تتألف طواقم أطباء بلا حدود من آلاف المهنيين الصحيين والموظفين اللوجستيين والإداريين الذين يعملون في أكثر من 70 دولة حول العالم. ترتكز أنشطة المنظمة على مبادئ الاستقلالية والحياد والأخلاقيات الطبية، وتسعى لتقديم رعاية طبية عالية الجودة للأشخاص المحرومين، مع احترام خصوصيتهم وحقوقهم. تعتمد بشكل أساسي على التبرعات الخاصة وتعمل بشكل مستقل عن الحكومات والمنظمات الدولية لضمان حيادها واستمرارية عملها.
بالإضافة إلى ذلك، تقوم المنظمة بحملات لخفض أسعار الأدوية وتحفز البحث والتطوير لعلاج أمراض مهملة وتقدم تقارير ميدانية لرفع وعي الرأي العام حول الأوضاع الإنسانية. حصلت منظمة أطباء بلا حدود على جائزة نوبل للسلام عام 1999 تقديرًا لجهودها الإنسانية الواسعة.
باختصار، هي حركة طبية إنسانية تسعى لتوفير الرعاية الطبية أينما دعت الحاجة وبأعلى مستوى ممكن من الجودة، مع التزامها بمبادئ الحياد والاستقلالية.
تمويل أنشطة منظمة أطباء بلا حدود يعتمد بشكل رئيسي على التبرعات الخاصة من الأفراد والمؤسسات. في عام 2024، جاء حوالي 98% من تمويل المنظمة من التبرعات الخاصة، بما في ذلك التبرعات الصغيرة التي يقدمها ملايين الأفراد حول العالم. أما التمويل الحكومي والمنظمات العامة، فيشكل أقل من 2% من إجمالي التمويل، وتفرض المنظمة قواعد صارمة على قبول أي تمويل حكومي أو خاص لضمان استقلاليتها.
تؤكد المنظمة على رفض أي تمويل من جهات تعمل في مجالات قد تتعارض مع مهمتها الإنسانية مثل شركات الأدوية الكبرى، شركات استخراج الموارد الطبيعية، شركات التبغ، ومصنعي الأسلحة.
قرأت نعومي المقال، وعملت طوال النهار على قراءة الكثير من الأبحاث والمقالات التي تتناول كل ما يخص منظمة أطباء بلا حدود كما طلب منها أستاذها.
بدأ الاجتماع على "زوم" بين البروفسور ود. نعومي، بمناقشة عمل منظمة بلا حدود.
عندما لمس البروفسور جيوفاني روسّي اعجاب نعومي بعمل المنظمة، ولاحظ المجهود الذي بذلته في قراءة وفهم كل ما يحيط بالمنظمة، ابتسم وقال: د. نعومي تحضري للمفاجأة... قررتُ أن أنضم لمكتب المنظمة هنا في روما...
تأملها وهي تبتسم بتهيِّب وكأنها تنتظر معجزة.
تابع: سوف تكونين معي... مساعدتي. ما رأيك؟
كادت أن يُغمى عليها، لكنها تمالكت نفسها وقالت: آسفة بروفسور لم أفهم... هل تريدني أن أكون...
ولأنها تبدو مذهولة وتائهة، قال البروفسور: أجل د. نعومي عبد الرحمن أريدك أن تكوني مساعدتي وأن تأتي إلى إيطاليا.
ماذا عن الإجراءات؟
وعد البروفسور بتكفل كل شيء لدخول د. نعومي عبد الرحمن إلى إيطاليا كطبيبة مهاجرة، ستعيش وتعمل في البلد!
سافرت نعومي مجددًا تاركة والدتها المحامية، لتناضل من أجل منح المرأة حقها في إعطاء جنسيتها لزوجها وأطفالها.
وفي إيطاليا بدأت قصتها كطبيبة تناضل في مناطق النزاعات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أطفال أبرياء يعيشون أهوال الحروب والفقر وأفتك أنواع الأمراض.
Images rights are reserved to their owners
Image No5 rights are reserved to the blog







No comments:
Post a Comment