آدم... وطفلة الحرب


يطلان عليَّ من زوايا الذاكرة...
مراهقان بعمر الورد، في شرفتين متقابلتين، يشعان بنورٍ يضيء عتمَ ذاك الحي في وطني المنكوبِ بحربٍ أهليةٍ، تقتل أكثرَ ما تقتل... أحلامَ الشباب.
لطالما لفتني سهوهما عن الحرب وويلاتها. يكلمها بعينيه، وتردُّ بخفرٍ.

بدأت حكايتهما عام 1985 أثناء حرب ما يسمى "انتفاضة 6 شباط"، عندما لجأت عائلةُ "طفلةِ حكاياتي" إلى منطقتهِ الآمنة، لطالما أعطيته في حكاياتي اسمَ آدم.
رأيته كيف راودها يومًا على موعدِ لقاء... فوافقت.
لم أعرف فحوى الحديث... أم لعلّي نسيته!؟
كلّ ما بقي في ذاكرتي من هنيهاتٍ جمعتهما، هو اسمان دون كنية... كانت تصغره بخجلٍ، ويكبرها بشجاعة.

ها هي قد بلغت خمسينها، وما زالت تذكره وتبتسم لنفسها عندما تحدثها "انطلقنا من أمام محلّ البوظة... لكنه لم يدعني لتناولها!"
وتضحك... يُخَال لها أنه نسي، لشدة ارتباكه وهما يتواريان عن أعين الرقباء.
أجلَ الرقباء... فأنا أحدثكم عن زمنٍ كان الأهلُ فيه يحيطون أولادَهم بالرعايةِ والاهتمام، وكان الأولاد يُبادلونهم الاحترامَ والمهابةَ.

... كبرتْ طفلةُ الحرب.
حين أذكر كيف كبُرتْ يصيبني الخرسُ، فلا أبجديةَ تصف أجيجَ نيرانها، فهناك يغلي حبرَ القهر المخمَّر في أعماقها منذ آلاف السنين... منذ أن اقترفها والداها في بقعةٍ يُقال إنها وطن.
نحتها القهرُ، امرأةٌ شاهقةُ الحزنِ، لا شيء فيها مكتملٌ، إلا الأحزان. أحلامها حكاياتٌ جامحةٌ، وأبجديتها اشتعالُ ثورةٍ. في معطف جسدها بقايا أنثى، وقلبها دُرجٌ عتيقٌ في قعره خيباتٌ وهزائم. ليلُها سهادٌ... ففجرها لم يطلع بعد.

لم أرهما معًا منذ ثلاثين فراقًا.
بحثتْ بدايةً عنه، ثم استسلمت خائبةً. لن تصادفه في أي مكان، يبدو أنه قد سكن الحكاية وآثر الصمتَ والرحيل.
هل بحث عنها بدوره؟... لعله...
ها هي بعد ألف خيبةٍ... تجده عالقًا بين أهدابها، يمنع عيناها من إسدالِ الستارةِ. فتشتاقه... وتشتاق لقاءً يجمعها به، فتنتظره على قارعة صدفة.

والآن... وبعد أن بلغت من الندم عتيًا، قررت أن تبحث عنه!... لعل الندم يتراجع خطوةً... لعل الحكاية تكتمل.
لكنني كنتُ لها بالمرصاد!
ما دخلي أنا؟...
"طفلةُ الحكاية" هي أنا!... فأنا مَن أضعتُ آدم (ي).








  Images rights are reserved to their owners

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

صاحبة الملك


نَبَتَتْ من حيثُ لا يعلمُ أحدٌ، وكأنها زرعٌ شيطانيٌّ.
لم يعرف لها سكانُ تلك البلدةِ أهلاً أو عشيرةً، لكنها كانت تدَّعي أنها ابنةُ سلالةٍ عريقةٍ، لكنهم ماتوا جميعًا في حادث سيارة.
استأجرت غرفةً على سطح أحد الأبنية، ومن هناك فاحت رائحةُ حكاياتها.
قيل إنها كانت تقفُ كل صباحٍ أمام المرآة، وتشتمُ حظها! لأن الله لم يعطها زوجًا غنيًّا! هي صاحبةُ أذكى عقلٍ وأقوى شخصيةٍ في الوجود... كما تزعم.
كانت تعملُ في مستشفى حكوميٍّ متهالكٍ، وتدَّعي أنها رئيسةُ الممرضات في القسم!

... مرت السنين العجاف، وأنيسة لم تستطع أن تصطاد طبيبًا لتتزوجه! مسكينة... يشفق عليها الجميع بسبب غرورها وانتفاخ الأنا فيها.
قبل "العنوسة" ببرهةٍ، أُدْخِلَ رجلٌ إلى قسم الطوارئ، يعاني من حالة سُكْرٍ شديدٍ ويدٌ تنزف، عُولجَ وخرجَ من المستشفى، وكانت في الخارج تنتظره، عرضت عليه أن توصله إلى منزله... صحا في منزلها وهي بجانبه تبكي!...
فتزوجا...

أنجبت ابنةً تشبهها في الشكل، وآجلاً ستكبر لتشبهها في المضمون.

ذات ليلةٍ تناول زوجها "فطرًا" ومات على الفور، فقيل إن الفطر مسمومٌ، لكنها ادَّعت أثناء التحقيق أنها لم تكن في المنزل، وأنها لا تعرف شيئًا عن هذا الشيء الذي أكله، فأُقفلَ ملف القضية.
كانت تمازح ابنتها وتقول: "نحن لا نطلب الطلاق، نحن نقتلهم لنرثهم!"

نسيتُ أن أخبركم، أنها ورثت منه بناءً مؤلفًا من طابقين وأربع شقق.
سكنتْ في واحدةٍ منها، وعرضت البقيةَ للإيجار.

كبرت نفيسة، ابنة أنيسة، ففاقت أمها لؤمًا وحِقدًا على البشرية، خاصة بعد أن فشلت في الدراسة الجامعية، وفشلت بأن تتزوج مهندسًا.
بعد ليلةٍ مضنيةٍ من التفكير، وضعت نفيسة خطةً لتواجه بها المستقبل.

كانت تعرضُ المنزل للإيجار، تتقاضى "سلفًا" مبالغَ طائلة... ثم...
الشيطان وحده يعلم من أين تستوحي أفكارها الجهنمية "لتطفيش" السكان الجدد. وكلها أمورٌ "غير منظورة" بنظر القانون: كرمي النفايات على شرفات المستأجر، قطعُ المياه عن الخزانات، وضعُ جبالٍ من الرمال أو الحجارة في مدخل منزله... و... و...
فلا يجدُ المستأجر بعد أن ينفذ صبره، في ظل غياب القانون، إلا أن يترك المنزل... ويخسر ما دفع من مبالغَ طائلة.
أما حجتها الدامغة التي كانت "تعوي" بها في وجه أي مستأجر يحاول أن يضع حدًّا لها ولأفعالها الشنيعة فكانت "أنا صاحبةُ الملك، ولي كامل الحرية في أملاكي."



 

 

 Images rights are reserved to their owners

 

 

أنـــــــا بخير


أنــــا بخير...
ودموعُ المآقي
تسقي المسافاتِ
فيتسعُ الغيابُ.

والقلبُ صحراءُ قاحلةٌ
والنبضاتُ يابساتٌ
تعشش فيها
غرابيبُ سودٌ.

أراوغ ألغامَ الحنينِ
وأقيمُ من شظايا أحلامي
أحجارَ عثرةٍ
أضعها في طريق العمرِ.

أنــــا بخير...
لا شيءَ فيَّ مكتملٌ
إلا أحزاني
وشغفي برجلٍ
لا يليق به النسيانُ.





Image rights are reserved to the owner