آوت إلى فراشها منهكةً، بعد نهار حافل مع الأصدقاء في رحلة نظمها لهم نادي المسنين في ولاية ميتشغن. فكرت لاورا تومسون قبل أن تغفو في ابنتها سارة، التي اختارت العيش مع والدها العربي في دولة من أفقر الدول العربية. فسارة ناهزت الخمسين من عمرها، وقد بدأ العد العكسي بالنسبة لها في دولة لا حياة كريمة فيها للمسنين.
تنهدت من أعماقها، وغفت وهي تحلم بأن تسامحها ابنتها سارة لتقتنع بالمجيء مع عائلتها للعيش معها هنا في أميركا.
سرقها رنين الهاتف من نومها، أضاءت النور بجانبها، فكانت الساعة تشير إلى الخامسة فجرًا. تناولت السماعة بلهفة وقلبها ينذرها بأن الأمر ملح وربما يكون خطيرًا.
كانت تلك مكالمة من حفيدتها إيلين، ابنة سارة، تتصل من المطار. لكن الأخيرة طمأنتها بأن الجميع بخير، لكنها أتت لتكون مع جدتها.
استمعت الجدة لشكوى حفيدتها إيلين من والديها، وكيف أنهما يحرمانها من السهر ومعاشرة الأصدقاء بحجة أنهم يعيشون في مجتمع محافظ. وهي صبية تحب الحياة وتريد أن تستمتع قبل أن تتزوج وتربط نفسها برجل وأطفال.
طبعت لاورا تومسون قبلة على خد إيلين وأنهت السهرة بقولها: حسنًا، حبيبتي إيلين، لن أقول أي كلمة في هذا الموضوع قبل أسبوع... أريدك خلال هذا الأسبوع أن تخرجي وتسهري وتستمتعي بوقتك... وبعدها سنتكلم بوضوح وصراحة.
وافقت إيلين بسرعة، فرحة بالحرية التي أُعطيت لها.
مضى أسبوع على إيلين، خرجت خلاله مع أقاربها الأميركيين من أولاد خال وخالات، وتعرفت على حياة الليل والسهر في أميركا. لكن لا شيء تغير في نفسها، ما زالت تشعر بنفس الحزن وقبضة القلب التي لطالما رافقتها منذ مراهقتها.
لاحظت الجدة أن نظرة الحزن التي وصلت بها حفيدتها من وطنها العربي ما زالت على حالها، رغم أنها أتت من أجل حريتها.
أمسكت لاورا تومسون بيد حفيدتها وهي تقول: تعالي...
أوقفتها أمام المرآة وقالت: انظري يا إيلين إلى الحزن الساكن في عينيكِ يا صغيرتي... هل تلاحظين مدى عمقه!؟
هزت إيلين رأسها إيجابًا فتابعت الجدة: سوف أخبركِ قصة صبية متمردة على كل الأعراف... هي صبية من صميم المجتمع الأميركي تدعى لاورا تومسون.
نظرت الحفيدة إلى جدتها، فهزت الأخيرة رأسها وقالت: أجل يا حبيبتي... هي قصتي أنا وتجربتي أنا... فأرجوكِ اسمعيني بإصغاء.
تابعت لاورا بحزن: كنتُ مراهقة مستهترة لأبعد الحدود، تبعتُ جماعة من الهيبيز إلى جميع أنحاء الولايات المتحدة، تركتُ دراستي واعتنقتُ مذهبهم في الحياة... أدمنتُ المخدرات والشراب... سلمتُ جسدي لكل عابر سبيل... أنجبتُ أبنائي الأربعة كلٌ من أب مختلف، وكلهم من دون زواج.
آباء أبنائي نبذوني ولم يعترف واحد منهم بابنه أو ابنته. هل تلاحظين كيف أن خالك مايكل يتعامل معي بحنان زائف؟ هو لم يسامحني لأنني أنجبته من دون زواج، فهذا قد قلل من حظوظه في تقلد المناصب السياسية التي يسعى إليها.
أما خالاتكِ كارلا وصوفيا وهايدن فإنهن دائمًا يلمنني لأنني عشتُ من دون أب لهنَّ... علاقتي بأبنائي جيدة طبعًا، لكن القلوب ليست صافية ومودتهم لي يشوبها العتاب واللوم.
أما وجعي الأكبر فقد كان جدكِ والد أمكِ سارة... عاصي، الشاب العربي القادم من وطنه لنيل شهادة جامعية في أميركا، حلم كل طالب علم. تعرفتُ إليه في ظروف خاصة وقاسية... كنتُ أربي أولادي الأربعة لوحدي دون معيل... فعرض عليّ صديق أن آخذ مبلغًا من المال من شاب عربي، أتزوجه إلى أن ينال الجنسية الأميركية... فوافقت.
أحببتُ عاصي... لا بل عشقتُ رجولته وشهامته وعزة نفسه وإحساسه العالي بكرامته. عاملني معاملة ممتازة ودللني كثيرًا ودلل أبنائي... لكنه لم يبادلني الحب أبدًا! كان دائمًا يقول لي حين أرجوه أن يجيبني "ماضيكِ أسود يا لاورا... ولا يمكنني أن أواجه مجتمعي المحافظ بكِ، خاصة أنني شخصيًا غير مقتنع بكل ما فعلته!" آلمتني صراحته، وأبكتني ليالٍ وسنوات طوال، لكنها كانت الحقيقة المُرّة التي وعيتها بعد فوات الأوان.
لقد أضعتُ شبابي في الإدمان والضياع، أما الحياة، فلم تمنحني إلا أربعة أبناء بلا أب، كنتُ أذوق معهم شظف العيش كي أعيلهم. بعد سنوات نال جدكِ شهادة الدكتوراه والجنسية الأميركية قبلها... أردتُ أن أتمسك به، رفضتُ فكرة أن يرحل ليتركني وحيدة فريسة للندم والآلام والمرارة. ولأنني كنتُ أعرف أن العرب يتعلقون بأبنائهم جدًا، ولا يمكن لأي رجل أن يتبرأ من أبوته لطفل، فقد غافلتُ عاصي وحملتُ منه فأنجبتُ أمكِ سارة.
آه يا مرار أيامي بعدكِ يا سارة... لقد حملها عاصي ذات ليلٍ شتوي مثلج وهي رضيعة، وغادر البلاد دون عودة... لم أعرف عنهما شيئًا... فجأة اختفيا من الدنيا، وكأنهما كانا في حياتي
مجرد حلم... بعد سبعة عشر عامًا وجدتُ في بابي صبية سمراء آية في الجمال، نظرتُ إليها وقلبي ينبض بعنف لم أفهمه... ابتسمت الصبية وقالت "مرحباً أمي... أنا سارة وقد عدتُ"... يااااه يا سارة كم كنتِ جميلة ورائعة وساحرة... وقاسية أيضًا.
كانت سارة قد عادت إليَّ فقط كي تسمع مني كامل القصة التي أخبرها إياها والدها عني وعن أخوتها... لكنها لم تسامحني أبدًا ولم تحاول أن تجد لي مبرر واحد لكل ما حصل معي، كانت دائمًا تقول لي "يؤسفني أنكِ عشتِ كعاهرة يا أمي... ويؤسفني أنني لا أستطيع مسامحتك." لكنها كانت تزورني من وقت لآخر، فقد كانت علاقتها جيدة مع أخوتها.
ما أخذتُ من الحرية سوى الألم! وما عشتُ بعد عشقي لعاصي سوى ليالي طويلة من البكاء والعذاب والدموع. الظلام ما زال منتشرًا في روحي منذ أن رفضني ونبذني وأخذ ابنتي... وسأبقى إلى أن أموت أبكي ندمًا لأجله ولأجلي.
عيشي حريتكِ يا إيلين... لكن إياكِ أن تتحرري من روحكِ وأن تفقدي أهم جزء فيها... كرامتك. الحرية غالية يا حبيبتي... وطوبى لمن عرف أن يستخدمها.
عودي إلى أمكِ سارة، ادخلي الجامعة، وتعلّمي، تحرّري من الجهل والتخلّف، اعملي، وكوني سيدة نفسك وقرارك.
لكن احفظي كبرياءكِ عاليًا، واتركي قلبكِ وروحكِ وجسدكِ لمن يستحق حقًا.
إيلين... يا حفيدة روحي التي لم أراها تكبر أمامي... يا ابنة سارة الحبيبة القاسية... كوني كأمكِ الفاضلة، ولا تتبعي طريق جدتكِ... لأنه طريق الندامة والألم.
Images rights are reserved to their
owners