الجميعُ كان حاضرًا
وحدكَ كنتَ الغائبَ
لكنَّكَ في غيابكَ
كنتَ أكثر حضورًا
من الجميعِ.
الجميعُ كان حاضرًا
وحدكَ كنتَ الغائبَ
لكنَّكَ في غيابكَ
كنتَ أكثر حضورًا
من الجميعِ.
دخل عثمان، ابن الخامسة عشر، إلى المنزل وهو يصرخ:
-أمي... أمي... الحقيني يا أمي!ذُعرت الأم وقالت:
-ما بكَ يا عثمان؟
أجاب الولد:
-العسكر العثماني يأخذ الشباب إلى الحرب.
وكانت مرجانة، أم عثمان، الخادمة في جناح الحريم في قصر
السلطان، أو ما يُعرف باسم الحرملك، تعرف أنه بسبب عدم توافر
ما يكفي من العبيد للحرب مع العدو البيزنطي، فقد أصدر السلطان
فرمانًا يقضي بنظام أخذ شباب البلد للحرب. لكنها لم تكن تتصور أن
يشمل الفرمان الأولاد من عمر ولدها.
أول ما خطر لها لحمايته هو إخفاؤه في غرفة التموين، فطلبت منه
الاختباء هناك فورًا إلى أن تلحق به بعد لحظات.
...دخلت مرجانة حاملة ملابس حريمية هي: قفطان وسروال يُلبس
تحته، مع منديل يلف حول الرأس، وعباءة تغطي كامل الجسد
والرأس.
اعترض عثمان وقال:
- وهل سأرتدي ملابس النساء يا أمي؟
أجابت مرجانة:
- عليكَ ذلك يا ولدي، وإلا سيأخذونكَ إلى الحرب،
وسأموت أنا خوفًا عليك.
وبعد مشادة بين الأم وولدها، اقتنع عثمان أن يرتدي ملابس
الحريم.
وهكذا، حين دخل العسكر لتفتيش المنزل، لم يجدوا سوى امرأة قالت
إنها خادمة في حرم السلطان ومعها ابنتها الصغيرة.
صباح اليوم التالي، كان على مرجانة أن تعود لعملها في مطبخ
الحرملك، فاصطحبت معها عثمان.
دخلت أولًا إلى كبيرة جواري الحرملك المسؤولة هناك، واسمها
جواهر خانم، وقالت لها بعد أن ألقت عليها التحية:
- أرجوكِ يا جواهر خانم أن تسمحي لابنتي الصغيرة زبيدة أن تبقى
معي هنا، فقد ماتت جدتها التي كانت تعينني في تربيتها.
نظرت جواهر خانم إلى وجه الطفلة الخجولة الخائفة، وأجابت:
- حسنًا يا مرجانة، فلتبقَ معكِ، لكن إياكِ أن تسمحي لها بنشر
الفوضى هنا.
قبَّلت مرجانة يد جواهر خانم وأجابت:
- أعدكِ يا سيدتي أن لا تشعري بوجودها أبدًا، بل ستساعدني في
أعمال التنظيف في المطبخ.
وهكذا بدأت مشاهدات عثمان، أو "البنت زبيدة"، في حرم السلطان.
عرف أن للحريم والجواري أجنحة مخصصة لهن في القصر،
ومنهن والدة السلطان الحاكم، وزوجات السلطان، ثم بناته وأولاده
الصغار، ثم فئات من الجواري الحسان كن يعشن في القصر.
لم تترك الخادمة مرجانة كبيرة أو صغيرة في
المطبخ وغرف الحرملك إلا ودربت عليها عثمان،
محذرة إياه من أي خطأ يكشف أمره، خاصة حين
لاحظت
نظراته البلهاء كلما رأى جارية
تتبختر بين الغرف.
كان يفتح فمه ويقول لوالدته:
- يا إلهي، ما أجمل النساء هنا يا أمي!
فتغضب مرجانة وتنهره قائلة:
- تأدب يا عثمان، وإلا قطعوا رأسكَ ورأسي يا ولدي.
ومن يستطيع أن يغض الطرف عن حسنهن وهن تتمايلن بالحرير
والديباج والخلاخيل التي تصدح في أرجلهن؟
أما أجمل حدثٍ في الحرملك بالنسبة لعثمان، أو البنت زبيدة
المعتوهة، كما كانت الجواري يسميّنها وهن يضحكن من ذهولها،
هو زيارة السلطان لجناح الحريم، تصحبه "الكايا"، وهي من
موظفات الحريم السلطاني، اختصاصها تنظيم الأوقات التي يقضيها
السلطان مع ساكنات دوائر الحريم، وعلى نزهاته معهن في حدائق
أجنحة الحريم.
وقد لاحظ أن "مولانا" كان يعلن عن وصوله إلى منطقة الحريم بأن
يرتدي صندلاً من فضة يُحدث صوتًا على الأرض المكسوة بالرخام.
أما إذا فاجأهن "مولانا" بوجوده، فكان من قواعد البروتوكول ألا
تنظر الحريم إلى وجه السلطان، بل كن يغضضن من أبصارهن
وينظرن إلى الأرض حياءً.
مضى أسبوع على وجود عثمان مع والدته مرجانة في حرملك
السلطان، وجواهر خانم تتعجب لأمر الفتاة بسبب تصرفاتها
ونظراتها العجيبة، حتى أنها استدعت يومًا الخادمة مرجانة لتقول
لها:
-يا مرجانة، إن ابنتكِ زبيدة شاذة وغريبة الأطوار، إنها تنظر إلى
الحريم نظرة غريبة وكأنها لم تر نساءً في حياتها.
الحمد لله، وصل أبناء شقيقة مرجانة من البر الثاني بناءً على
استغاثتها، وذلك بعد أن بلغ رعبها على عثمان منتهاه، فأخذوا معهم
عثمان المتنكر بملابس البنت زبيدة ليخفوه عن أعين العسكر
العثماني.
صباح اليوم التالي، دخلت مرجانة إلى الحرملك، وتوجهت ملهوفة
إلى جواهر خانم وهي ترتجف من الذعر والمفاجأة:
- ستي... ستي... لقد هربت زبيدة مقصوفة الرقبة ليلة البارحة مع
الصياد، يبدو أنها كانت تراقب الخوانم (أي الجواري) لتتعلم منهن
ماذا ترتدي وكيف تتزين.
ضحكت جواهر خانم وجميع الجواري من حولها لطرافة ما تفوهت
به مرجانة.
وبينما كانت الجواري تضحكن لطرافة ما تفوهت
به الخادمة مرجانة عن ابنتها زبيدة، كان عثمان
في البراري مع أبناء خالته متجهًا معهم
إلى بلدهم، يخبرهم عن مغامرته في حرملك
السلطان، ويقول:
-أنا ممتن لأمي لأنها أرسلت لكم خبراً كي تنقذوني من السخرة في
الحرب، لكنني سوف أذكر دائمًا جمال نساء الحرملك، ولن أنسى كل
ما تعلمته منهن عن النساء أبدًا.
تغامز أبناء خالته فيما بينهم، وقال له أحدهم:
-هل تريد العودة إلى هناك؟
فصرخ:
-لا... لا... يكفي أن أتذكرهن فقط.