فات الأوان


"لا شيء فيَّ مكتملٌ... إلا أحزاني، وشغفي بأنثى لا يليق بها النسيان".

تأوّهتْ باكيةً وهي تعيد قراءة هذه الجملة/الطعنة. كان يحدّق بها واجمًا، غاضبًا منها، حزينًا لأجلها.
قالت من دون أن ترفع نظرها عن الورقة: لمن كتبَ هذا الكلام؟
أجاب باستهزاء: وهل هذا جُلُّ همكِ الآن؟... لمن كتب هذا؟
أجابت بغصّة: طبعًا يهمني... أليس زوجي الـ...
ولم تستطع أن تكمل الكلام.
كان يغالب الدموع المحتشدة على قارعة جفنيه، أخذ نفسًا عميقًا وأجاب: لقد رحل وهو حزين.
هزّت رأسها إيجابًا، وقالت شارقةً بدموعها: لم أكن أعرف!... لماذا لم يقل شيئًا؟
اكتفى بأن وضع يده على فمه، وتأمّلها تبكي بحرقة. فماذا يمكنه أن يقول وهو يراها تبكي بعد أن فات أوان الندم!
مسحت دموعها، وتناولت رشفة ماءٍ، أخذت نفسًا عميقًا ثم قالت: أريد أن أعرف كل الحكاية... هيا أخبرني ماذا كان يجري!
أجاب: هل ستحتملين سماع الحقيقة؟
قالت بسرعة: سأحتمل... سأحتمل... يجب أن أعرف.

فقال بعد أن أشعل سيجارة: كان أخي رحمه الله هاويًا للشعر قبل أن يتعرّف إليكِ، ينظم كلماته كما ينبض قلبه، بكل صدقٍ وشفافية. هل تذكرين؟ حاول أن يقرأ لكِ بعضًا من أشعاره أثناء فترة خطوبتكما، فسخرتِ منه ومن "هوايته السخيفة" كما وصفتها، فتوقف عن الكلام عن هوايته هذه أمامكِ طوال سنين طوال... عشرات السنين، وهو لا يكتب الشعر، وكان يضع كتبه في مكان عمله، أو في سيارته، بعد أن رميتِ مجموعة كتبٍ له في سلة المهملات. وأكمل حياته معكِ بما يرضي الله.
كنتِ لا تفهمين حنانه "الزائد عن الحد" كما كنتِ تقولين! تنفرين من لمساته وتعتبرينها "ولدنة لا داعي لها"، فأنتِ دائمًا مشغولة بأمرٍ ما، حفلة عند صديقاتك، شجار بين شقيقكِ وزوجته، مرض طفلة من أطفال شقيقتك، والدتكِ حزينة وتحتاجك معها... وهكذا قضيتِ معه العمر، عائلتكِ في أعلى مرتبة، يليها أولادكِ ومنزلك، أما هو... فكان آخر اهتماماتك.
لم يخبرني تفاصيل علاقةٍ أنتِ أدرى الناس بها، خاصة أن فيها من الأسرار الزوجية الكثير، لكنه لخص حياتكما معًا بجملةٍ فيها كل الحكاية، إذ قال لي"كنا هي وأنا نعيش على كوكبين مختلفين، أحيانًا كنت أخالني بالنسبة لها شبحًا، أو صرافًا آليًا في أحسن الأحوال".

بكت بحرقة... فتابع: لم تحتويه... عشتما فردين في منزلٍ واحد، ولم تكونا يومًا شريكين في الحياة. كان يعيش من أجل ولديه التوأم، هما فقط كانا سبب بقائه حيًا. وعندما أصيب بالمرض العضال، كان يقاوم من أجلهما.
كنت أزوره فلا أجدكِ في المنزل، كان وحده يعاني آلامه أحيانًا، أولاده يعتنون به، وأنتِ تحضرين حفلةً بمناسبة ومن دون مناسبة، فقررت أن أعلمه استخدام الإنترنت. دخل عالم المدونات وصفحات التواصل الاجتماعي، هناك بدأ يخرج من قوقعة أحزانه وآلامه. كان يكتب أشعاره ليجد حوله عشرات المعجبين بسحر كلماته.

باختصارٍ، لقد أحبها. كانت تشبهه في رهافته، في جنونه، في هواه الأدبي وفي نزقه الشعري. لكنه لم يرِد أن يتخلّى عنكِ ويدمِّر منزلاً يحوي ولديه المراهِقَين، وهما أحوج ما يكون إليه، تركها تنفصل عنه لأجلك.
لكنَّ قلبه المرهف لم يحتمل الحزن وهي بعيدة عنه، فتوقّف تلك الليلة رافضًا أن يعود إلى الحياة على الرغم من جهود الأطباء. فماذا كانت النتيجة؟
تلوّت بألم، فتابع: لم تتنازلي وترافقينا إلى ربوع الوطن لندفنه حيث أراد، في تراب قريته. لماذا؟... لا يهم. المهم أننا واريناه ثرى القرية وتركناه في أحضانها، حيث سيجد راحته الأبدية.
وأكمل ليؤلمها أكثر: وماذا بعد؟... بعد أقلّ من ثلاثة أشهرٍ خلعتِ الأسود، وتزيّنتِ.
فصرخت: قالوا لي...
أسكتها بحركة من يده وقال: لا يهمني ما قالوه... أنتِ زوجة ناكرة للجميل، لطالما كنتِ لأخي الحبيب نكد حياته.
أطفأ سيجارته بعنف في المنفضة، وتابع: لن أبوح بكلمة لأحد عما دار بيننا... أما أخوتي وأنا، فسنكون دائمًا سندًا لولديه ومعهما.




Images rights are reserved to their owners